السبت، 9 أكتوبر 2010

صور رمضانية ( 1 / 2 )

'مهما ضاقت بيّ السُّبل، مهما صُدّت في مُحيايّ مصاريع الفرج، لن أبرحَ أرضي، لن أتأنـّن- من الأنانية- فأنشدّ الرغد في ديار الغربة، ذاراَ شعبي وراءي يعاني الكربة، لن ألعن بلادي، لن ألغي شهادة ميلادي، باق ٍهنا ، سأصمد سأقاوم، لكيلا أحقـّق رغبة دافعي إلى الهجرة، لكني سأفضل الموت جوعاً، على أن أتبدّل وأتصيّر إلى بائع (امصير) في سوق الحوت.. فأحمل وزر جوعي وموتي، لمن يدفعني إلى هذا'.
لقطة رمضانية من إحدى القنوات التلفزيونية الليبية في رمضان 1431 للهجرة – 2010 للميلاد
- الإذاعية، وهي تمرّر صور الفنانة الضيفة، وتضع ماكياج بسمك خمسة سنتميتر، بعدما كنا نرى مذيعاتنا امقمطات في رداوات عمل: من هذا الذي نراه معك في الصورة؟.
- الضيفة: يا أوخياتي نجّيه.. هذا حبيبي ونور عيني.. طليقي الكويتي .
- الإذاعية، امحرقزة حواجبها في رمضان، مثلما بنات الساموراي: انتي بصراحة شرفتي بينا.. أصلك علمتي أسرة طليقك الكويتي.. كيفية عمل المقروض.
- فعلقتُ: مبّرك علينا دوة.. حيه ع الليبيات وحيه!.
رمضان 1426 هجرياً – 2005 للميلاد:
قـُبيل الشهر الفضيل بشهرين، جهّز 'انبيوة' و' انجيوة' طاولة العرض عند إحدى ورش النجارة القليلة في بنغازي، وحرصا على أنْ تكون في حجم طاولة (البلياردو) واستجلبا من الفندق البلدي، المواد الأولية الداخلة في تحضير بضاعتهم: المصيّر والمخلل والهريسة الحارة والحلوة ( البسبوسة) من فلفل حار وحلو وملح ليم وليمون وفلفل امبطبط (حاشا لعيونكم القارئة) والسميد والثوم والكرويّة .. وفي أول أيام رمضان، جربا حظهما العاثر في إيجاد موطأ قدم لهما في سوق الحوت، فتحصلا على (طريحة ربّاش لقبور) وكُسِرت طاولتهما الخشبية، بسبب التنافس الشديد، وغير الشريف، الذي واجههما به جلاوزة السوق، من الباعة القدامى والمحترفين، على الأمكنة الإستراتيجية في المنطقة المحصورة بين ناصيتي سوق الحوت وسوق الربيع الذابل، بسبب قفله منذ عدّة أعوام بحجة صيانته.. وفي صبيحة اليوم الثاني، ذهبا معاً إلى ورشة حدادة، يعمل بها 'أشرف' السوداني، الذي اتفقا معه على صناعة طاولة حديدية في ظرف يومين، بعد أنْ سلماه عربون الاتفاق، غير أنّ هذا السوداني، لم ينجز ما أوصياه به في الموعد المُحدَّد، وماطلهما لأربعة أيام، ممّا جعلهما، يستنجدان بجارهما ضابط الشرطة 'بوفا' الذي أرسل دوريّة للقبض عليه، وأودعه حجرة التوقيف، على ذمة التحقيق، وبعد عدة تدخلات من أصدقاء ليبيين للسوداني، تمّ الإفراج عنه، بحُجّة أنه غريب، و رمضان شهر العفو، شريطة أنْ يتعهد إليهما بردّ العربون، و يبحثان عن حدّاد غيره، وهذا ما كان.
في اليوم السابع، بدءا العمل في هذا السوق، بعد كل هذه المشاق، فكلُّ ما حدث معهما تجاوزاه، لأنهما أبناء (كار) ويعلمان بأنّ الحياة صعبة، وتستلزم الصبر، وتحمـُّـل الشدائد، وصار 'انبيوة' يُصبّر صاحبه بهذه العبارة: 'علقة اتفوت ولا حد ايموت' فـأمه مصرية، وعادة ما كان يسمع منها هذا الكلام كثيراً.. فأهم شيْ لديهما أنّ رجال الحرس البلدي، في هذا الشهر الكريم، يفسحون المجال للبيع في هذا السوق، ولايتشدّدون كما في الأيام العادية، فلا يصادرون البضائع، ولا يمانعون في مسألة العرض الخارجي أمام حتى المحال التجارية في الشوارع الرئيسية، وهذا التسامح من عناصر الحرس البلدي، ليس سببه إنسانياً، كما أجزم، بل لأنّ منع البيع هناك، يتطلب منهم مهارات رياضية فائقة، من جري و عدو وركض وقفز، يفتقدونها في الصيام والفطر كذلك، ببرهان أنهم بمجرد أنْ تنتهي أيام رمضان، وبُعيد العيد، ايطلعو منهم المكسب عامص.. أهم شيء لدى 'انبيوة' و' انجيوة' ألا تصادر بضائعهما ذات المنشأ المنزلي، التي أمضيا وقتاً مديداً في تجهيزها وحفظها في (اطراميزات) زجاجية وبلاستيكية وأكياس نايلون وجالونات بلاستيكية، جمّعاها بالاحتفاظ بجالونات البوطاس، التي تستهلكها أسرة كل منهما، وعوّضا احتياجاتهما منها، بشراء جزءٍ منها من سوق الجمعة.. وبعد أكثر من مشاجرة، أخذا وضعهما اللائق بهما، في منتصف الشارع، وتركا الرصيف للباعة القدامى، وأصبحت طاولتهما حديث السوق كله، وقاما بتشغيل شابين فقيرين معهما، يدعيان 'امويلة' و'اكويلة' كصبيين، مهمتهما الوحيدة، هي مراقبة الطاولة في ساعات الذروة، والمناداة بحنجرتيهما المتحجرتين، نتيجة العطش والصوم، على البضائع، بطريقة معاكسة طبية وغذائية، من مثل: 'امصيّر بالسفناري .. ايقوي النظر' في حالة مرور إحدى الفتيات اللاواتي يضعنّ نظارات طبية.. أصبح الزبائن من (العجائز المترهدنات وربّات البيوت التنبلات والزوجات العاملات وطلبة قسم الداخلي بجامعة قاريونس وخفر الشرطة والمناوبون في المستشفيات ومحطات البنزين، وكل من يُهاب بهما العمل في العطلات الرسمية) يتوافدون على طاولتهما، وما عليها من منتجات، من دون غيرها من طاولات التجار السوق المعروفين، ما أجبر بعض الباعة الصغار على ضرورة، أنْ يئتلفوا مع بطلي هذه القصة، وذلك بعرض منتجاتهم المتواضعة على صفيحة هذه الطاولة الأنيقة والدسمة، لقاء نسبة من الربح، يسدّدونها لهما عن طيب خاطر و(خاسر).. وشيئاً فشيئاً، قام 'انبيوة' وصديقه، بإضافة رفٍ ثانٍ إلى الطاولة، وتزويدها بأربعة دواليب، لتسهيل عملية التنقل بها داخل السوق، ومنه وإليه، فأحياناً يستلزم طلب الرزق، أنْ ينتقلا بها سريعاً من إحدى الناصيتين إلى الوسط ، أو تقريبها من جامع 'بن كاطو' بعد صلاتي الظهر والعصر، لترغيب المصلين الكبار في السنّ، في معروضاتهما الحارقة (المصيّر والمخلل) التي يتعذب معها هؤلاء (الشيّاب) فيشترون من المعبأة في أكياس صغيرة (في حجم أكياس الخلوط)- خلسةً- فأغلبهم قد منعه الأطباء من تناولها، فصارت الطاولة تحت الطلب، حتى تتراءى لك، وهي تتحرك بسرعة، لكأنها على سكة حديدية.. حاول الباعة القدامى حل لغز إقبال المشترين على طاولة 'انبيوة' و'انجيوة' بالذات، ولم يتوصلوا إلا إلى حقيقة واحدة، هي إخلاصهما وتفانيهما وتميّزهما في جودة المعروضات، والتنويع في المواد، التي يبيعانها، وتطويرهما الدؤوب لهذه الطاولة في كل يوم، بحسب ما يتطلبه السوق، وبحسب ما يتوصلان إليه من إبداعات - مرطزة - منزلية، حيث تمثـّل أخر تطوير لهذه الطاولة، في دعمها بصفيحة جديدة، لعرض البهارات، التي قاما بطحنها وسحنها بالمسحان اليدوي: (الحرارات – البزار – الفلفل الأحمر - الإسكنجبيل – القرفة – رز المحلبية – الكروية – خبزة مطحونة – الزميتة - الروينة) و صفيحة ثانية لعرض المُعجنات: (بطاطا امبطنة نية – البيتزا – بوريك باللحم وبالجبنة بالاسباناكة – خبزة تنور).. غير أنّ براعتهما تمثـّـلت في بيعهما (امصيّر اسبيشل) ينكُهانه بشرائح من التفاح الأمريكي، كما أنهما لا يستخدمان فيه (ملح ليم) بل الملح فقط ،لأنّ في الأول، مادة حمضية وقلوية، لها نتائج وخيمة على صحة المستهلكين، خصوصاً من كبار السن، الذين صرّح أحدهم على الملء، بعد أنْ وضع كيس (لمصيّر) في جيب فرملته- كما قنينة النبيذ- في غفلة من ابنه:(والله لولا امصيّر انبيوة وانجيوة .. ما فيش حاجة تنزرط في هالبلاد) وكذلك (المخلل) بأنواعه كلها: (امخلل فلفل – امخلل اخيار – امخلل بيذنجان – امخلل اسفناري – امخخل بطاطا – امخلل لفت ولفت انتباه) امخلل تتخلخل معه دفاعات الزبائن، ولا تتمكن من ردع شهوته.

لكنّ شيطان الحسد الوحيد، غير المُصفـّد بسلاسل في شهر رمضان، كما الشياطين والمردة من الجنّ، تسلل إلى أنفس الباعة القدامى، وفي اليوم الخامس عشر، اجتمع رؤوسهم بعد صلاة التراويح، وقاموا بتكتيك خطير في مقهى 'تيكا'.. رأى أحدهم ضرورة القضاء على هذين التاجرين المخترقين والمارقين بأية وسيلة كانت، وإلا فسوف يكون مصيرهم في خطر ويفقدون زبائنهم وسمعتهم السوقية، فاقترح أنْ يقوموا بضربهما .. فرد الثاني: 'لالا هذي ما اتقولها بكل.. مو جربنا الضرب في أول يوم وما صار شي'.. وجد أخبثهم أن أنجع وسيلة، تكمن في دسِّ وتسريب إشاعة مغرضة بحقهم، وقال: ' شنو رايكم يا جماعة الشر.. انسربو بين الناس.. أن في البطاطا لمبطنة والبوريك امتاع انبيوة وانجيوة لحم حمير'.. رد ثالث: 'تي لا يا راجل ما أقدمك وخلاص.. أصلاً الحمير انقرضت من بنغازي.. وعدت على شباب النمر امتاع البوسكو.. اللي حتى هو قطعه الشر.. وقعد وبر على عظم.. ومعش لاقو ما ايوكلوه' .. الرابع، وهو يضع إصبعه تحت حنكه في إشارة للتحدي: 'خلوها شوري يا جماعة.. إنكان ما كرهت فيهم الزباين وجفلتهم من السوق.. دقوها ليا وشمة خضرة هنا'.
في صبيحة اليوم السادس عشر، بعد أنْ دُبر الأمر بليل، سرت شائعة مغرضة بين الباعة والمبتاعين، كما تمضي الشائعة السيئة في المرأة المُحصنة، في قلوب مرضى النفوس: 'ياهو .. ياهوتميل.. راهو انبيوة وانجيوة.. ايخزنو في بضاعتهم اللي تطحنو فيها .. في دورة مياه زايدة عن قضاء الحاجة.. وفايضة خرارتها في حوش انبيوة'.
ولكم أن تتخيلوا ما حدث بعدها .
( تمت بعون الله)

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية