الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

صـديـق الـنّـمـل


"بنغازي مدينة صيفيّة ، صيفـُها حقيقي ، و شتاؤها مُزيَّف ، مهما تلبدت في سمائها الغيوم ، لا تسفر عن موسم مطير ولا حصادٍ وفير ، فهي مُؤذِنة بالكآبة" .. "أنا".
صحوت على قرصة بطعم حمض النمليك أو الفورميك (HCOOH ) من نملة صغيرة ، هي في حجم سن القلم ، على ورقة ناصعة البياض ، في غير لون بشرتي .. يبدو أنها قد أزدردت ملح جيدي ولم تستصِغه .. أزحت الغطاء عنيّ .. قدماي مُثلجتان ، الغطاء ثقيل ، إلا أنّ البرد بداخلي أثقل ، جفناي مُثخنتان بالأرق الأزرق المتحولق حولهما ، جفناي بوزن شعر الرمشين ، لكنهما ثقيلان ، بثقل شبابيك البيوت في الشتاء ، التي لا تفتح للهواء ، وإنما لأشعة الشمس من خلف الزجاج ، وبحمل خفّة شِباك الصيادين الخاوية في صباحات البحار الشتوية .. ما كادا أنْ يرتفعا .. ليس ليّ خلاصٌ إلا في شُربة قهوة ، فتـّـشت أسفل وسادتي ، فلم ألفِ سوى خمسين قرشاً (5 قروش × 10 قطع) أسنانها مشروشة ، مثلما أسنان القِرش ، تسبح تحت مخدتي المُعطـَّرة بالقرنفل .. توجّهت إلى الخارج بقدم مُنتعِلة وأخرى حافية ، وأنا (أُشكـّـشك) النقود في يدي ، فتحت باب البيت ، ندهت على الصغير "زياد" .. زدت من (الشكشكة) ثم أصبحت أرمي بهذه القطع المعدنية ، من كفٍّ إلى آخر ، مثل بهلواني في (السيرك الروسي) .. لأني أعرف أنه مُصاب بنذالة مُبكِّرة ، فهو لا يُقدِّم على خدمة الكبير ، إلا بمقابل عيني وأنفي ونقدي ، تجردت من فكرة ، أنه سيستولي على هذا المبلغ ، ويهرب به :
- تعال يا بابا .. خوذ الخمسين قرش هذينا .. وعدي لعمو باسط .. قوله قالك عمو زياد .. دزلي اقهيوة.
- رجع مسرعاً : قالك عمو باسط .. ما فيش ضي .. ما فيش سكر .. ما فيش قهوة.. في نمل.
- باهي يا بابا .. خوذ الخمسين قرش .. لكي أنت.
ارتديت معطفي ، وخرجت إلى "باسط" .. وجدته مُنهمِكاً ومُنهَكاً في رشّ السكر في خارج المحل للنمل الصاعد والهابط على جداره :
- فيش اتدير يا راجل؟ .. معقولة هكي! .. اترش في السكر ع الوطا؟ .. واتقول ما عندكش سكر؟.
- خير يا زياد .. كنك امشهدر بالشتا؟ .. وعليش لابس جاكة .. راهو مازال بدري.
- يا بسوطة .. قايلها لك من قبل .. أنا من ذوي الدم البارد .. وديما امسقع حتى في الصيف.
- حال اعديّك .. النمل هاجم هجمة قوية السنة هذي .. مش عارف شنو قصته؟.

جاء "علوة" شقيق "باسط" وفي يده جالون كيروسين ، يريد أنْ يصبّه على النمل ، فيزهق روحه البريئة :
- يا باسط .. السكر غالي .. راهو نشرو في لكّويلو الواحد .. بجنيه ونص .. وأنت قاعد اتحلي بيه في ريق النملات .. معقولة هكي!.
- حرام عليك يا خويا .. راهو النمل ما ايتحاربش .. النمل ما ايتعادش .. النمل امرابط .. خليه ايلم السكر .. وتو ابروحه .. ايعدي في حاله .. شوفه اكويس وهو ايلم .. ما يرفع عيونه فينا بكل .. النمل جعان ، فلا تحارب الجوعى .. النمل ينبئنا بالمناخ والمواسم القادمة ، فلا تحارب من يعلمنا .. النمل لا يقتل ولا يفترس .. النمل لا يتعدّى ولا يتغذى إلا على جثث الحشرات الميتة .. فلا تقتل من يسالمنا ، وينظّف بيئتنا .. وإلا دارت عليك الدوائر .. النمل أرجل منا ، فحينما يجوع ، يخرج إلى الناس عاصراً حامضه .. ثم تلا على مسامعنا من سورة النمل ، قوله تقدّس وتعالى: " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ".
- سمعت من جدتي - والكلام ما يزال لباسط - أنّ السنة اللي يكثر فيها النمل .. سنة خير ورخاء .. بشرط عدم محاربته بالفليت والكيروسين .. والحوش اللي فيه نمل .. حوش هناء وسعد.. تي سيّب النمل .. وعدي بخّ الذبابين اللي ايدرهن الكبد.. انكنك راجل صحيح ، وجابت فيك أمك.
- صار هكي يا ابسوطة؟ .. اتصدق في كلام العزاويز؟ .. تعرف النمل السنة هذي .. قريب ايهججنا من حيشانا .. فعلى عثر الحال عطيب .. النمل واخذ فينا شطيب.


أسعفني بـ (موديفكة) مشروب ساخن ، لم اتبيّن ماهيته ، هل هو نسكافه أم شاي أم قرفة ، لمحته وهو يحفن حبات السكر المُتساقِطة من الزبائن على الـ (بوفيه) ويضعها في مشروبي ، غضّضت الطرف عنه ، فقد تسعّر سعر السكر ، وصار ينهش جيوبنا ، حتى تمرمرت وتحنظلت حلوقنا.
الليبيون معروفون ، بابتكار الـ (موديفكات) في كل شيء ، ولا يعجزون أمام المصاعب ، ولـ "باسط فهمي اخشيم" تفسيرٌ لمنشأ أكلة الـ (شرمولة) فهو يتوقع أنها (موديفكة) غذائية ، فرضتها الحاجة والجوع ، وقد أُُبتكِرت في معتقل العقيلة - لاحظوا بأنّ جذر كلمة معتقل ، قريب جداً ، من جذر كلمة العقيلة (ع . ق . ل) – فهو يقول بأنّ الاسم الأصلي لهذه الأكلة هو (شرّ المونة) - لأنّ الليبيين ، لم يجدوا زمانذاك ومكانذاك ، سوى البصل والفلفل والثوم والملح وبعض الطماطم أمامهم ، فقامت العجائز ، ببشر هذه الخضراوات ، وخلطها ببعضها البعض ، ثم قدمنها للشيوخ ، وهنّ يقولنّ : "مدو ايديكم وكولو .. رانا ما لقينا ما انديرولكم إلا هذى .. صحيح هي شرّ المونة .. بس طعمتها اتقوليش ".. لست معه فيما مضى إليه بخصوص هذا التفسير ، فلو توفرت هذه البضاعة لليبيين في ذلك المعتقل ، فذلك ترفٌ ما بعده ولا قبله ترف.

***
فـ شـّـتا ضحك و بكا
برد الورد و برد الندى
عدّى الطير هجر
ايدوّر عَلي دفاه
ذبل ورق الشجر
م الثلج اللي غطاه
و نا فـ اشتايا بردين
برد الدفا و برد الجفا
***
فـ الليل في عيوني نيل
ايسيل على خدي
ايزيد من بردي
اخصوصاً لما انكون ألوحدي
ياريتني زي الطير
لما نبرد انطير
واندوّر على دفاي
الطير ماله وطن
وطنه مكان دفاه
وياريت بردي كما برد الشجر
وهو في مكانه حجر
ثلجه ايذوب عليه
و م العطش يسقيه
و يعطيه الحياة
***
تركت "باسطاً" يوزع السكاكر بالتساوي على النمل ، وفي يدي مشروبه الجديد .. عند كل ناصية ، ثمة شباب واقفون .. عند كل عتبة ، ثمة شيوخ جالسون ، يتهامسون ويزدرؤون معيشتهم ، ويزدردون أرياقهم .. عند كل بابٍ لدار ، ثمة عجائز واقفات ، يتبادلن الحديث عن غلاء المعيشة ، تعرف ذلك حينما تسمعهن (ايتمطقن) - بملامسة الخدين إلى الداخل ، و اللسان للشفتين ، وهما مقفلتان على جرودهن - عند ناصية شركة المواشي واللحوم ، وجدته ، من دوماً كنت - ولما أزل - أحاول الفرار من ملاقاته ، يجلس لوحده على العتبة العليا ، لمصطبة محل شركة الإلكترونات سابقاً ، يرتدي بنطال أمريكي أبيض – يُشّعر هذا الشحّاذ بأنه من (اعويلة البيت الأبيض) - يبدو أنها نقعه في محلول بوطاس (شحّات) لمدة أسبوع كامل ، ويضع نظارة (ريبان) ذات زجاجتين زرقاوين وشمبر ذهبي على عينيه المتورمتين من لكمات وكلمات المستهزئين به ، ممّن يمرون بحذوه على الدوام ، وعلى جانبه الأيمن ، توجد علبة (مالبورو سويسري) فوقها قدّاحة ، عليها شعار نادي الأهلي ، وعلى جانبه الآخر ، ثمة كوب مكياطة مكتوب عليه الرقم (46) و أمامه أكثر من (46) كوباً من هذا النوع ، ملقياً على الرصيف – في حراسة الملاعق البلاستيكية - ويتحرك بانتظام ذات اليمين واليسار ، في شكل ربع دائرة ، بفعل التيارين ، اللذين يضربان تلك الناصية المعروفة لدى شباب شارع العيساوي بـ (شوكة الصيف) - التيار البحري القادم من جهة الشمال ، باتجاه حركة السيارات لشارع "جمال" والآخر ، تيار من جهة الغرب من داخل المنطقة ، وهو كذلك تيار بحري ، بالنسبة لمدينة بنغازي المقوّسة الساحل - أشار إليّ ، طالباً قدومي إليه :
- خير يا (حساناتو*) .. شنو أخبارك؟.
- مية المية .. ها مازلت تكذب؟.
- شنو قلت؟.
- قصدي مازلت تكتب؟.
- أيوه.
- زعمك في نتيجة من هالكتابة؟.
- إن شاء الله خير.
- خليها على الله .. ربي ما ينسى حد .. اهو حتى النمل مش ناسيه.
- نمل شنو؟ .. شنو قصة النمل اللي ماشية في هالبلاد هاليومين؟.
هبط بوسطِه ، إلى الدرجة السفليا للعتبة ، مُتواضِعاً للنمل :
- ريت النملة هذي يا زياد.
- اين منهن .. النمل راهو واجد؟.
- اهي .. السودة.
- جبتها واللهي .. تي مو النمل كله أسود يا اشويطر .. عمرك شفت نملة شقرة؟.
- لا .. النمل الأشقر تلقاه غادي في تراب جبانة الصحابة .. أنا نحكيلك ع النملة السودة الداكنة .. أخرج من جيبه مجهراً .. وطلب مني أنْ أتفحصها مليّاً ، ثم أفادني بأنّ : النملة هذي أسود وحدة فيهن .. لاجنها ديما اتنسرف في القوايل .. وتسطر فيها الشمس .. زيك أنت.. وأخبرني بأنه قد رقـّـمها برقم (44).. ويريد أنْ يؤلف كتاباً عن أخبار النمل في ليبيا ، سيسميه (صديق النمل).
- أما أنت! .. مانك امسيّب جخروبة من جخاريب البركة .. وين ما النمل وين ما أنت .. ضحكت عليه .. يكلاااا اكتاب عن النمل.
- كنك هازي؟ .. والأخرين شنو كتبو يعني .. عدّي شوف اكتاباتهم .. اكتابات الهدّة والصدّة .. واحد يكتبلي على جدّه .. وواحد على غناوي العلم .. بالله عليك شنو خلو لـ "نوري الهوني" امتاع برنامج (مقاعد أصحاب الصوب) اللي أكثر واحد فيهم مهتم بالتراث الشعبي .. مش دايرين أرواحهم أدباء كبار؟ .. خلاص ايعدو يا راجل .. يكتبو حاجة امسقمة للناس خيرلهم .. وللا ايغمو ويسكتو .. ويعطو العيش لخبازه .. وحتى أنت لنقنك امشهدر بباسط .. تي عيب عليك .. الراجل ما ايخشش ع النت .. وما يندريش عليك راهو .. وأنت رابخ فيه .. خللي الرجل يخدم على حاله .. راهو ارويقد ريح.
- خلاص نبي انفوت باسط .. والصامطين اللي ايجو لقهوته .. يمشي ايملح ويمشي ايحمض ويمشي ايتمرمر .. طالما معش عنده سكر .. ويمشي بكل الأطعمة والمذاقات غير المستصاغة .. سأمضي في الشوارع سأبحث عن غير باسط من عِباد الباسط .. فسوف لن أكتب إلا عن نفسي .. فقد نسيت أنَّ الكاتب في عصر الجماهير لا يعبر إلا عن نفسه .. باهي يا حساناتو .. كنها النملة (44)؟.
- تو تمشي امغرب .. واتغيب نصيب .. واترد بعد ربع ساعة .. مُحملة بالأخبار السّارة عن الحشرات الضارة.
رجعت النملة بعد ربع ساعة ، كما أخبرني ، لكنها لم تدخل ، بل وقفت عند الثقب ، الذي خرجت منه ، ورأسها إلى الداخل.
- كنها ما خشت يا حساناتو؟.
- تسمع فيها ايش اتقول؟ .. هي اتقول : اطلعن يا نملات يا منجوهات .. عطكن طالعة .. راني لقيتلكن صيدة ما صارت بكل.
- ما تدعيش ع النمل يا حساناتو .. راهو ابسوطة يزعل منك.
- وشنو يبي ايدير .. يعني؟.
- كيف أنت انسيت .. أن الشوكة هذه .. شوكته زمان؟... وكان امحرمها عليك.
- افطن .. افطن يا زياد .. تو النملة هذه (44) اتقدم لقدام اشوية .. واتغني وين حوش بوسعدية .. ويطلعن ثلاث نملات .. امسجلات عندي تحت الأرقام (36 – 40 – 42) ايصبن وراها .. وبعدين تمشي بيهن في نفس الجهة اللي امبدري .. ويغيبن حكر نص ساعة.
في غياب النملات الأربع ، قام "حساناتو" بتنظيف طريق رجعتها ، مُبعِداً الأكواب والحصي والألواح وشظايا الزجاج ، ومُعبـِداً الطريق أمامها ، برشِّ ذرات الرمل - التي استجلبها في كوب (46) وعاد به ، وهو مليء برمل من بقايا الرمل الموجود أمام نادي النصر ، الشاهد الأول على أعمال البناء المتوقف منذ قبل البدء – ورشّه ، مُجسِّراً به الهوّات والفجوات الموجودة على الطريق ، ما عدا مدخل بيت النمل المُحتمي بالعتبة ، لذا فقد انبطح ، وقام بنفخ مدخل بيت النمل من بعض الرمل ، الذي سقط منه ، من دون أنْ ينتبه ، لحظتئذٍ ، أقبل علينا "نسيب الخلجان" :
- كيف حالكم يا جماعة؟.
- امريحبا.
أخذني على انفراد ، مُعتقِداً بأنّ "حساناتو" يكترث بوجوده أصلاً :
- نبي انشاورك في امويضيع.
- تفضل .. إن شاء الله خير.
- يا سي عندي أختى "أمل" خطبها واحد كويتي في طرابلس.
- وكيف خطبها وأنتم هنا في بنغازي؟ .. يا عليك ابدوع اتديرو فيهن وخلاص!.
- لا .. خطبها في الطيارة .. مو هي كانت في طرابلس .. و في المرواحة .. قمعز جنبها .. وفتحلها الموضوع هضا.
- قمعز جنبها؟! .. ممكن تشرحلي أكثر؟.
- قاللها باللهجة الكويتية : ترا ما تنت ادري .. الليبيات حلوات .. لين شفتت .. وقاللها أخرى .. مستعد ندفعلت مهر .. خمسين ألف دينار اتويتي .. وعطاها تلفونه المباشر في الكويت وطرابلس.
- قالك : الليبيات حلوات .. والسكر معش طقن فيه .. لا هن ولا نحنا .. باهي انت ايش رايك يا خيّها؟.
- واللهي ما فيش مانع .. طالما أن الحكاية .. حكاية زواج.
- اسمع انقولها لك من الأخر .. راهي صايورها امروحة بعد شهرين .. القوم هذوما ماهمش امتاع زيزة .. وراهم ما همش خير منا في شي .. لكن القصة .. قلة بخت بس .. وانقولك حاجة .. واللهي مانا مستحقين لشركاتهم ولا فلوسهم وغناهم (من الغنى) ولا لغناهم (من الغناء) اللي يقلب الراس .. اختك ما زالت صغيرة .. خليها اتكمل قرايتها .. وتو ايجيها نصيبها.
- يا عليك حسدية أما أنتم وخلاص .. انكنهو خاطب اختك راك فرحان.
- الحمد لله .. ما عندي خوات .. يركبن في طيارات ابروحهن .. ويقمعزو تلاهن الاجانب .. يا فصخة .. وبعدين تعال هنا .. أنت عليش اتشاور فيا؟ .. واللا أنت من النوع اللي ايشاور وايخالف؟.. واللا يا شريني .. انك تبي اتناسب الخلجان؟ وتبي اتشوف اعقولنا؟ مقّدمك .. الحركات هذينا رانا نعرفوهن كويس .. ونا انقول! انشوف فيك الأيام اللي فاتن .. طايحلها يوم الجمعة على الطرحات الخليجية .. راكب فيها اعقالات ودشداشات متدشدشات .. ولما اتخطم عليا بسيارتك الـ (توسان) اتحط في أغاني "عبد الله الرويشد" و"نوال" والقلق الآخر "راشد الماجد" اللي صوته .. اتقول صوت واحد غاص في لحمة ابشحمتها .. تعرف؟ .. خطرت عليا قولة الناس الأولة "عدّا خطب قبل ما ايوتي الحطب" أو كما قالوا .. توا الراجل جا خطب أختك رسمي؟ .. أنا عارفك اكويس ما تذبح ديكك إلا على مطلب .. قيسك لقيتها فرصة بيش اتحصلك شغل في سينتر الخليج .. باقيتك ما حصلتش عمل في شركة الخليج العربي للنفط .. صح وللا لا؟ .. يا تعبان حتى نحنا عندنا نفط كيفهم .. ونفطنا أحسن من نفطهم.
- ايوه مش هكي وبس .. الكويتي عنده أخت سمحة .. مرات يعطوها ليا.
- ايسمه؟ يعطوك الكرمة .. أنت مال و للا جمال .. لين يعطوها لكي.. يعطوك الكرمة في عينك .. امغير اعبا بس.
- واللهي شعب حسدي .. الحق عليا اللي شاورتك.
- حل .. على كيفك .. تي شنو هالشعب الغريب .. واحد ايعدلي في النمل .. وواحد يبي يعطي أخته لكويتي .. وطامع في شغلة من وراها.. وهو عارفها مش ح تركح عنده .. وصايورها امعاودة ويقعد ايعاني فيها.

انصرف وهو يزبد مثل النوق ، ويشير إليّ بيديه ، بحركات شوارعية عيساوية وسبالية وماجورية .. هنا تدخّل "حساناتو":
- مالك ومالهم يا زياد؟ .. اخته وهو حرّ فيها .. إن شاء الله ايزوزها حتى لصومالي .. مش كويتي .. وبعدين أنت مش داير روحك عروبي؟ راك اتقولي تبي البنت "أمل" لروحك.
- تعرف يا حساناتو الكلمة هذي - مالك ومالهم ، مالك ومالي ، مالك ومالنا - ضرتنا وفعلت فعلها فينا .. مالك هو مالي ، ومالي هو مالك ، ومالنا هو مالهم ، ذلك لأنّ جيوبنا فارغة .. ثم تذكرت ، وذكرت له برنامجاً ، كان يقدّمه الإذاعي والأديب الراحل "عبد الله عبد المحسن" في المسموعة ، إذ أنه في إحدى حلقاته ، ناقش مسألة زواج الليبيات من الأجانب ، وبمجرد أنْ أتاح الفرصة للمستمعين عبر المشاركة بالهاتف ، كان أولهم من مدينة "سبها" فقال : "واللهي يا أستاذ عبد الله.. أني بصراحة .. نعتبر الليبي اللي يعطي بنته وإلا أوخيته لأجنبي .. ما هوش راجل" .. أنا لا أصف هذين ، بهذا الوصف ، لكني أرى في واقع هذا الأمر ، معضلة خطيرة ، فهي مقياس لاستبيان العنوسة ، نتيجة الفاقة وغلاء المعيشة ، فالليبيون كانوا يدللون بناتهم ، لدرجة أنهم لا يزوجونهن حتى في المدن الأخرى ، ومن يبتغي بنتاً من مدينة غير مدينته ، عليه أنْ يقوم بالمحاولات الكؤود ، الواحدة تلو الأخرى ، حتى يتحصل على الموافقة ، وسل بنفسك أي ليبي تزوّج بليبية من خارج مدينته عن هذا ، وسوف يؤكد لك ذلك ، مع أنه في البداية ، سيحاول مداراة العذاب ، الذي تلقاه بين سفر وسفر ، وكرّ وفرّ ، فالليبيون لا تهون عليهم بناتهم ، ولا يطيقون فراقهن ، فكيف الحال؟ إذا كان المُتقدِّمون لهن أجانباً ، ففي أحسن الأحوال ، ستذهب الواحدة منهنّ إلى بلاد الغربة ، وربما لن يراها أهلها بعد ذلك ، فأربأ بليبي يرتضي بهذا ، وأن يصبح قاطعاً لصلة الرحم ، ومع من؟ مع ابنته ، وفي أسوأ الأحوال ، تبقى معه هنا ، وتتحمل مصاريفه .. (ياهووووووو ، ياهوتميل ، يا قوقل ميل .. اشقوا ببناتكم .. وافعلوا لأجلهن ، كلَّ ما يجبُّ عليكم فعله ، مما هو في وسعكم وما في ضيقكم .. فالحدثُ فظيع).
- يا زياد .. خلينا في النمل .. وفكّنا من أمل ومدعاها.
- باهي وين طقينا نحنا؟.
- طقينا لعند النملات الثلاث.
- تمام .. وشن قصتهن .. النملات الثلاث (36 – 40 – 42)؟.
- شوف يا سي .. النملات الثلاثة هذينا .. من لجنة المتابعة .. ترسلهن الملكة مع النملة (44) بيش تتأكد .. لاجن الملكة اتخاف ع الرعية امتاعها .. ومش ممكن تبعث شعبها النملاوي إلى مصير مجهول .. فتخاطر بثلاثة بس .. يرفعن تقرير ميداني .. ولو تأكد الخبر .. تبعث النمل كله بيش ايجيب المطلوب .. بس راهو التقرير شفوي وما ياخذش وقت .. مش كيفنا نحنا .. يبي مراجعة وموافقة من المدير و الغفير والسفير والطير والطراطير والصغير والكبير ومن لا يأكل الجرجير .. جماعة النمل ما عندهمش مضيعة للوقت .. النمل يحس بقدوم البرد .. إذن لا وقت باقٍ .. لا متسع لضياع الوقت .. النمل جائع .. الملكة تخاف على شعبها من الانقراض .. الملكة تحب شعبها .. تنحت الصخر ، لأجل أن توفر له طعامه .. الملكة كبيرة .. النمل صغير .. النمل يحب ملكته.. لأنها لا تبعث بالرعية إلى مصير مجهول ، و لا تعبث بالدستور ، فهي تقدّس الدستور.
- وباهي .. وانكان النملة (44( طلعت كذابة .. ايش ايصير فيها؟.
- شوف هذا احتمال غير وارد .. لأنّ النمل لا يكذب .. النمل امرابط.
- وباهي عليش الملكة اتدز في النملات (36 – 40 – 42) وراها واتضيع في الوقت ، أم أنه تحصيل حاصل؟.
- توقعت منك هالسؤال السخيف .. أصلك مازلت مش مستوعبني.. الملكة يا أسطى .. لا تخترق الدستور .. وتعمل بنظام أمني .. يضمن حياة النملات من العدو الخارجي .. اهن ردن النملات (36 – 40 – 42) .. افطن يا زياد .. توا ايخشن هن الثلاثة.. ويحكن للملكة .. فتعلن حالة الطوارئ .. وتأمر النمل كله بالخروج .. اهو طلع الشعب النملاوي كله .. الكبير والصغير .. ايش رايك نلحقوهن؟.
- فيش تحكي يا راجل .. تحساب روحك نملة .. الخطوة منا بألف خطوة منهن.
- معناها انقولك حاجة .. هيا نسبقوهن .. أنا عارفهن وين ماشيات.
- ارجى اشويه .. كم عدد النملات في هذه الحفرة؟.
- أخر تعداد درته من أسبوع .. بلغ عدد النملات = 7005599 نملة .. بس في نملة فاقدها من يومين .. الباين أنه في (بوبريص) بصّاص في الجوار .. زامطها بحمضها الفورميكي .. واللهي ما يربح .. تو يتفاعل في مصارينه وايفتفتهن له وينبرص بعدها .. أصله مادة كيميائية.
ذهبت بمعيته ، مسافة خمسة عشر متراً .. لنجد (أبا بريص) - أعزكم الله – مقطوع الذيل ، وبجانبه النملة (44) .. قام "حساناتو" بتقطيعه إرباً بواسطة (موس بوخوصة) ليسهّـل على النمل هذه المهمة ، خصوصاً وأنّ السماء مُلبدة بالغيوم ، فخشى على صديقه أنْ يغرق في الطوفان ، قبل أنْ ينهي مهمته .. وصل جيش النمل ، وقد حمل الـ (أبا بريص) إلى مثواه الأخير في مستوعباته وممراته الجوفية ، الغريب ، أنّ أول ما استهواه من جسده ، هو رأسه ، لعلمه الغرائزي ، بأنّ أول ما يفسد في الجسد ، هو هذا العضو ، وترك الذيل ، لذيل ركب النمل.
***
تحت الشجرة ، التي كانت جزءاً من محطة البنزين المُزالة ، يوجد بعض الفتية ، يمارسون كرة القدم بأيديهم المُرتعشة (الجتوني) استغربت أنهم قد دأبوا على ممارسة هذه اللعبة ، بـ (جتوني) محطم ، هو من مخلفات السبعينيات ، حتى في يوم المباراة النهائية لكأس العالم (2010) التي جمعت بين (إسبانيا × هولندا) ألفيتهم يلعبون هذه اللعبة .. ويتجادلون عن آخر معركة شاهدوها لأصيع صيّاع بنغازي ، وكيف قام بضرب غريمه ، وقام بتحطيم سيارات الشرطة ، ولا يلتفتون نحو الطريق إلا في حالة مرور (موتورسيكل) أو (أفلاش) متحرك بجانبهم ، حينذاك يرتعدون ، فتسمعهم لحظتئذٍ يصرخون : (طرشة .. طرشة) فأعّلق وراءهم : "آذانكم المنطرشة".. بُعيدهم بقليل ، ثمة عامل (تشادي) يرتدي (قامجو) برتقالي ، وبجانبه عربة يد برتقالية ، يقوم بكنس الطريق ، تعثرت وعثرت بقطعة خشب على الرصيف ، تبعد عن العامل بمسافة متر واحد ، فتلقفتها من الأرض ، مميطاً الأذى عن الطريق ، لأكفّر بعملي هذا عن النميمة النملية ، التي اقترفتها في حق "نسيب الخلجان" .. وجئت لأرميها في العربة ، فاحتجّ عليّ هذا العامل ، ورطن معي بلهجته ، فهمت منه ، أنّ ذلك ليس من اختصاصه ، فقد أبرم عقداً مع جهاز حماية البيئة ، يلتزم بموجبه بلملمة الأوراق وعلب وأعقاب الدخان والأكياس والأكواب وكفى ، وأنّ الأخشاب ليست من شأنه.
تحركت خطوتين بطيئتين إلى الأمام ، وأنا أكتب إلى "حساناتو" (مسجاً) عبر النقال ، هذا نصه : "يا حساناتو .. سجل في مقدمة كتابك - صديق النمل - هذه العبارة : هل لنا بعالم ، يخترع لنا نملاً اصطناعياً ، نستنجد به ، ليقوم بلملمة المواد غير العضوية من على أرضنا".
ــــــــــــــــــــــــ
(*): أخبرني صديقٌ مشترك بيننا – بطريقة الفيسبوك – بأنّ هذا الـ "حساناتو" في يوم ما ، قد اتفق مع صديق له ، على أن ينتحرا في يوم واحد ، وساعة واحدة ، غير أنني وجدته في مأتم صديقه ، بعد أنْ حنث بوعده ، فما انتحر ، لكنه انسحر بعشق النمل.





0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية