السبت، 9 أكتوبر 2010

من بنغازي إلى طرابلس ( 1 / 4)

بُعيد العِشاء و العشاء ، بكأس الماء المُنكسِرة و المُذابة فيه بلورات السكر - كعادتها - تودعني الوالدة ، عند باب المنزل ، والقطط الصغيرة ، بعضها في الداخل ، والبعض الآخر ، يتشاكس عند العتبة و يشيعني بعيونه التي تلمع من انعكاس الضوء عليها ، مُستغِلة ًلحظة فتح الباب ، لتطالع – بحذر مشوب - و تتطـّـلع على العالم الخارجي - فرشّت ( سكر في امية ) في عقـِبي - و أنا أشفق عليها ، من أنْ تعوز السكر من بعدي – الذي ارتفع سعره عشر مرات ، بعد أنْ رُفِع عنه الدعم ، كسلعة تموينية أساسية ، و انسخطت أكياسة ، من زنة خمسين كيلوجرام إلى جرام واحد فقط - داعية ليّ :
- مربوحة يا اوليدي .. توصل طيّب إن شاء الله .. و رد بالك من ارويحتك .
- يا أمي راني مش ماشي انجاهد .. راني امسافر بس .
- مش انكان ركبت في طيارة خيرلك .. راك وصلت في اسويعة بس ؟ .
- لالالا .. إلا الطيارات يمي .. عارفة و اللهي لو نلقى واحد ايرافقني .. مستعد نمشي لعند غادي .. كعّابي و قبّقابي و شبّشابي .. و لا نركب في رابش طيّاراتنا .
فيمَ سوف يضرني ، استغراق زمن الرحلة بالبرّ ؟ فأنا في عداء مع الوقت ، لا أريد أنْ أدّخر منه شيئاً لعمري ، أريده أنْ يمضي ، أنْ يفوت ، أنْ ينتهي ، و لا يُحسب عليّ ، أريد أنْ أعرف أخر هذه الحكاية الدنيوية ، فهات يا زمن النهايات و خذ البدايات ، فمن النهاية أفهم كل شيءٍ ، لا أبالي بمبتدأ الجملة الأسمية ، بل بخبرها و منتهاهها ، و صرت لا أبالي إلا بالختام - طالما أنّ لكل بداية نهاية - لا يعنيني البدء و لا الوسط ، فحتى كأس العالم و نخبُه ، بتُّ أشاهد مبارياته النهائية فقط ، و لو أني كنت أعلم مسبقاً ، بأنها ستنتهي بتمديد الشوطين الثالث و الرابع ، لما تابعت إلا هما ، بل لو أني كنت أدري ، بأنها ستنتهي بركلات الجزاء و العقوبة الترجيحية ، لما أنشغلت بغيرها ، تراني على الدُّوام ، لا أربط ساعة يدوية على معصمي ، و حتى الهدايا ، التي تصلني في شكل ساعات ، أحتفظ بها للذكرى فقط ، فما حاجتي إليها ، طالما أنني تعودت على ضبط التوقيت ، من خلال مواقيت الصلاة المفروضة ( الصبح و الظهر و العصر و المغرب و العشاء ) ؟ .. حتى المسلسلات - و بالأخص البوليسية منها - غدت لا تستهويني ، و لا أشاهد منها إلا الحلقة الأخيرة ، التي يُقضى فيها على العصابات و الشراذم ، لذا دوماً ، أردّد على شفتيّ : ' لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت ' من أغنية ' رسالة من تحت الماء / عبد الحليم حافظ ' .. علاقات الحب ، باتت لا تروقني تفاصيلها ، لكن خواتيمها ، فإما الفراق أو اللقاء ، السياسات و المواقف و العنتريات و التهديدات الدولية ، لا التفتّ إليها ، فلا أركّز إلا على النتائج ، لأعرفَ من خلالها ، المُخلصين لأوطانهم من المُدعين ، و المحتالين و الكاذبين على شعوبهم ، المشعوبة الإرادة و المُنكسِرة الإدارة ، هكذا أنا ، لا أندم على ما مضى من عمري ، و لا أحبُّ من يدعو ليّ بـ ( الله ايطول عمرك * ) و لا أتحسّر عليه ، إلا إذا ارتكبت فيه المعصية ، أنا سعيدٌ بما فات منه ، فهو حتماً سيقربني من اللحظة الأخيرة و الفاصلة ، سيدنوني من الصافرة ، صافرة الحكم الحكيم ، عند النفخ في السُّور .
***
( اطرابلس .. يا طرابلس .. يا طرابلس ) ليس ' محمد حسن ' من يردّد هذه الكلمة في أغنيته الأخيرة عن ( اطرابلس ) التي لم أعرف ما سرّ غنائه بها و لها ، في هذه المرحلة تحديداً ، بعد أنْ تنغـّم بـ ( رحلة نغم ) و طاف بربوع بلادنا جميعها على بساط ريح ' فريد الأطرش ' فلم أستطع مواصلة الاستماع إليها ، كلما شاهدت تسجيلها ، لكون الغناء عن مدينة كهذه ، و عن الوطن بمُجملِه ، يستلزم منا الخشوع أثناء الإنشاد ، و الغناء بإحساس ، لا الاكتفاء بالصراخ الفجّ .. بل هو سائق حافلة ( فيتو ) يبرح و ينادي على المسافرين في الفندق البلدي في مدينة بنغازي .. كنت أخر الصاعدين إليها ، و حينما وصلت ، وجدت الركاب ، في حالتي تململ و تقلقل ، فقد طال انتظارهم لأخر صاعد ، ملأت المكان الشاغر في المقعد الخلفي ، بجانبي شخص أفريقي و آخر مصريّ ، فصاح الرُّكّاب - باستثناء من هما بحذوي - في نفس واحد : ( جابك ربي .. هيّا يا حاج .. رانا ملينا .. اربح باش نوصلو في الصبح بدري ) .. ' في المأثور ' طريق الألف ميل تبدأ بخطوة ' و في بلادنا ، طريق الألف كيلو متر ، تبدأ بالدعاء لله ، أنْ نصل سالمين .. ( اربطوا الأحزمة .. و تأكدوا من وراقيكم يا ولاد .. أني مش مسؤول على أي واحد .. يمسكوه قطـّـاع الطريق .. عند المفارز و البوابات الفاصلة بين مدننا ) .. على بركة الله ، امض ِبنا يا قائد الحافلة .. انطلقت الحافلة منعطفة من عند سوق الحديقة و نادي الهلال ، صاعدة على جسر ( راس اعبيدة ) بسرعة ( 60 كم / س ) لمحت قبل الجسر مدرسة ' أبي عبيدة بن الجراح ' الثانوية للبنين ، و المثابة الـ ( ماما ) المجاورة لها ، فتخيّـلت أيام العبط و العبث ، و موقفاً ظريفاً إبان دراستي فيها ، في الصف الأول الثانوي في سنة 1989 ميلادياً ، حينما كنا نفرّ من المدرسة أثناء الدّوام ، بُغية الذهاب إلى سوق ( التوانسة ) الذي يفصله عن المدرسة ، الطريق السريع فقط ، و في ذلك اليوم ، كان لدينا امتحانٌ في إحدى المواد العلمية ، على تمام الساعة الثانية عشرة ، فخرجنا من النافذة ، هابطين من المزراب المجاور للنافذة ، مثلما القوات الخاصة ( الكوماندوس ) و بعد أنْ تسكعنا في البنايات في هذا السوق الوضيع ، التي هي مثل عشوائيات الصفيح ، اقترب وقت الامتحان ، فعدنا أدراجنا ، لأدراجنا و مقاعدنا ، متسلقين المزراب نفسه كما اللصوص ، و لما وصلنا ، افتقدنا أحد الطلبة القادم تواً ، من مدينة ( المرج ) و المُنضَم إلى المدرسة حديثاً ، بل و في أول يوم له فيها ، و في صبيحة اليوم الثاني ، علمنا بأنه أخطأ الهدف ، إذ أنه صعد مزراب المثابة الأم ، بدلاً من المدرسة ( و عيونكم ما تشوف إلا النور ) .. انتهيت من هذه الذكريات ، و قد وصلت الحافلة إلى المنفذ و المخرج النهائي لبنغازي غرباً ، وضع السائق في مسجل السيارة أغنية ( خصيمي قاضي ) للفنان الراحل ( أشرف محفوظ ) و شيئاً فشيئاً ، سرّع من سرعته ، حتى استقرت على ( 140 كم / س ) انعدمت التغطية في شبكة ( ليبيانا / الزمن سنة 2005 فلا تستغربوا ) .. و بعد ان تجاوزنا مدينة ( إجدابيا ) بقليل ، واجهتنا إرهاصات عاصفة رملية في الأفق ، فأشارت سيارة قادمة من الجهة المقابلة بمصابيحها لنا ، فأوقف سائقنا الحافلة ، و نزل إليها مهرولاً ، ليتحدث مع السائق الآخر ، لمدة خمس دقائق ، و بعد أنْ رجع إلينا ، أخبرنا بأنّ :
- العاصفة شديدة ، و لو أننا استمررنا في المسير ، ستكون أشد بكثير مما هي عليه الآن ، و أنّ أفق الرؤية لا يتجاوز متراً واحداً .
- فردّت عليه الحاجة ' فاطمة ' التي تجلس في المقعد الأوسط صُحبة حفيدها ' اسلومه ' : سوق عطك حبّة .. دايرلي روحك من اعويلة أوربا .. يا حاج راهي حياتنا عجاج في عجاج من يومها .. امغير صفي نيتك بس .
- و اللهي ما نقدرش .. خلونا اندرسو في أول استراحة و الصباح رباح .
بمجرد أنْ توقف بنا ، دخل السائق إلى الاستراحة ليستريح ، فيبدو من عينيه اللتين كنت أراقبهما في المرآة ، أنهما لم تذوقا طعم النوم منذ يومين ، و أنه مرهق و لا طاقة له على القيادة ، فاستغل هذه الفرصة لينام بالمرة ، طالما أنه ضمن بقاءنا معه ، و حجزنا أخيراً ، بعد أنْ حجزناه في المحطة الأولى ، و وضع ثمن أجرتنا في جيب ( فرملته ) .. نزل الجميع من الحافلة تاركينها للحاجة ' فاطمة ' لتأخذ راحتها في النوم ، هي و حفيدها ، جلس الجميع على مقاعد الاستراحة ، بعد أنْ طلبوا الطعام و المشروبات ، و غطـّوا في نوم عميق ، و هم جالسين ، و مرافقهم على المناضد ، يا لها من ليلة ، لن أنساها ما أحياني الحيّ القيوم ، صرت طيلة تلك الليلة ، انظر إلى هؤلاء المسافرين مستغرباً ، كيف ينامون بهذه الطريقة ؟ فأنا لا أقوى على الرقاد بهذه الكيفية ، بل أنني لا أقدر على النوم إلا في فراشي ، و أسرُّ إلى نفسي : ( أسم الله ع المحبسة .. و خاصة المظلومين منهم ) .. أمضيت ليلتي بين روحة و جاية أمام الاستراحة ، و الجلوس في الخارج ، أكملت ليلتها علبتي تبغ من شدة القلق و الملل مع كوب مكياطة سبّب لي في مغص معويّ .. استغربت أنّ لا أحداً من الركاب احتجّ على السائق ، و لم يطلب إليه أنْ يسافر بنا ، و لو بسرعة بطيئة ، لماذا صمت الجميع ما خلا تلك العجوز .. جلست في الخارج ، أعد السيارات التي تمضي أمامي ذهاباً و أياباً ، و قد استغربت أنّ لا واحدة منها توقفت مثلنا عند الاستراحة ، حينئذٍ ، ناداني ' اسلومة ' و أخبرني بأنّ جدته تطلب إليّ ، أنْ اقترب منها في السيارة ، لأتسامر معها ، طالما أنّ النوم يجافيني ، فوجدتها قد أخرجت ( ترمس ) الشاي و آخر للقهوة و الكعك ، و قنينة ماء .
- أنا : خير يا حاجة .. شنو امغربك لعند اطرابلس ؟ .
- هي : و اللهي يا باتي ماشية انعزي في الحاجة ' لله ' من طرابلس .. طيبك ' لله ' الله يرحمها و يسامحها من يوم ما عرفتها في الباخرة .. و نحنا ماشيين أنا و صاحب بيتي للحج من خمسين سنة .. جتنا الخبّارة بعد المغرب .. و ما لقينش حجز في الطيارة .. و بصراحة ما نقدرش انغيب عليها .. و خايفة ايفوتني الدفن .. قبل ما انسلم عليها و نستسمحها .. لاجني تناوشت معاها في اخر مرة كلمتني بالتلفون .. و نشهد بالله ما عمرهش غابت علينا .. جت المسكينة في قربوجة شايبها و حضرت فرح ولدي ' منصور ' بو هالعيل اللي جايبته امعايا بيش ايونسني ، و جابتلي حولي و ما تابعه .. و جتني في وفاة صاحب بيتي و حطت في بطني200 جني .. لكن يا باتي الطريق طويلة و لا عندنا بواخر و لا قطارات و لا شي .. انكان هضا راني كل صيف ماشيتلها .. الله يرحمها كانت ديما تعزم فيا .. و سبحان ع النصيب .. كنت نبي ناخذ بنتها ' فريحة ' لوليدي ' منصور ' بو هالعيل .. يمّحلاك ' فريحة ' حرارة و شطارة اجعنها صباحك .. و لما خطبتها .. بوها الله ايسامحه .. قال ما عندي إلا راس هالبنية .. و ما تهونش عليا نرميها في هضك الوطن .. عونه لبنغازي .. و عطاها لواحد في الحكومة .. و قالو البنية تهجلت من هي صغيرة .. اسم الله عليها .. و اللهي انكان خذاها منصور .. راهو زقزقلها عصفورها .. أي نلقاها أنها وجعتني في وسط قلبي .. و الله ايسامح بوها .. اللي كسر خاطري و ما عطانا بنته .. ثم بدات من جديد ، تـُعدّد – و هي ( اتعدد و تشلى .. يانا عليّ بوي .. يانا عليّ يا لله يا غلاي يا حبي كله ** ) – مناقب المرحومة .. الله يرحمها قالت ما عندنا ما انقولو في ' منصور ' لكن ( كل شي ع النصيب *** ) .. كنا انقولو زمان : ( بنات الشرق للغرب و بنات الغرب للشرق ) لكن يا باتي توه .. كل حد قعد لاهي في روحه.
الساعة الآن ، العاشرة صباحاً ، نزل سائق حافلة ( فيتو ) قادم من الجهة الغربية ليشتري علبة دخان ، فسألته عن الطقس ، و ما إذا كانت السماء ما تزال ملبدة بالغبار ، فأجابني ليس هناك لا غباراً و لا شيئاً من ذلك ، و أنّ الطقس جميل منذ أسبوعين ، بدأ الرفاق يخرجون من الاستراحة و هم يتكاسلون ، و يتوجعون ( أه – أي – يانا علي يا بوي ) من جراء إعوجاج ظهورهم ، نتيجة للطريقة التي ناموا بها ، و صعدوا أولاً بأول إلى الحافلة ، كلٌّ في مقعده السابق ، أين السائق ؟ طلبنا من ' اسلومة ' أنْ يستعجله ، فخرج متباطئاً و هو يدخن ، و أخذ عشر دقائق كاملة حتى احتسى قهوته ، و جلس في قـُمرة القيادة :
- هو : صباح الخير يا عرب .
- الحاجة ' فاطمة ' : صباح الخير ..ع اللي امطيّب نومه .. مش علينا .. اللي كملنا ليلنا اسمور .
- الرُّكّاب : هههههههههههههههههههههههههههه .
- أنا : زعمك شنو جو العجاج يا حاج ؟ .
- هو : شنو قصدك ؟ .
- أنا : طريقك زينة يا حاج .. اربح .
- هو : يا ودّي .. لو مش عاجبك الجو ؟ .. انزل .
- أنا : كنك انقلبت علينا ؟ .. و نحنا في بنغازي .. امغير ايش نبو بس .. حايس فيها زمزكة .. بعد ايش اتقولي انزل يا اسطى ؟ .. بعد صوقرتنا معاك .. كنك ما قلتها و نحنا في إجدابيا ؟ .. و اللهي لو خاطرة عليا تبي اتدير الجو هضا .. راني نزلت غادي و روحت .
- الرُّكّاب : وسعوا بالكم يا جماعة .
وضع السائق الأغنية ذاتها ( خصيمي قاضي ) و أشعل لفافة تبغ ، جئت لأدخن مثله ، فصرخ :
- طفي الدخان يا شاب .
- أنا : موهو حتى أنت قاعد اتدخن .
- هو : أني صاحب السيارة .. و أني القائد .. و من حقي اندير اللي نبي انديرها .. طفي الدخان خيرلك .. راني انـّزلك .
- الحاجة ' فاطمة ' : و اللهي يا اوليدي انكان نزلت .. ننزل أنا و اسلومه معاك .. و اتردلنا افليساتنا يا سوّاق .. و تو نركبوا في سيارة أخرى .. شنو علا الله في شانك و شان كرهبتك .. هي الجنازة هلبتنا هلبتنا و ما نش مستعجلين .
- الركّاب : ههههههههههههههههههههه .
- أنا : كنكم تضحكوا ؟ و اللهي اللي زيكم ما ايترافقو .. و لا يمتشى معاهم .

- هو : باهي باهي .. خلاص يا احويجة .
انطلق السائق مسرعاً ، و بعد ربع ساعة ، فـُجِعنا بحادث مرور أمامنا ، ذهب ضحيته أربعة أفراد و ناقة اعترضت الطريق ، فأبطأ السائق من السرعة ، و عرض خدماته على المسعفين ، فشكروه و طلبوا إليه أنْ يكمل رحلته ، ثم دار حوار بين الركّاب ، أحدهم يلقي باللائمة على السائق ، و آخر على الناقة اللعينة ، و ثالث على الراعي ، ثم قام الراكب الذي بقرب السائق ، و يبدو عليه ، أنه طالب جامعي متعلم و مثقف ، بذكر معلومة خطيرة انذهل من هولها الركاب جميعاً ، حينما ذكر أنّ عدد ضحايا الطرق في ليبيا بلغ خمسة أشخاص بمعدل يومي .. ترحمت على الموتى و المصابين ، و وضعت صدغي على زجاج السيارة ، و شرعت انظر ناحية البحر ، هروباً من النظر جهة الصحراء ، التي فشلنا في أنْ نقهرها بالزراعة ، حتى لاحت أمامي مصفاة مدينة ( البريقة ) و الحافلة تمضي بسرعة قصوى ، أتخيلني في سفينة في عرض هذا البحر ، فلا حواجز للطرق و لا عجاج و لا خوف من الحوادث ، و حتى إنْ متنا غرقاً ، فسوف نحيا عند الله ( شُهداء ) لا أنْ نموت جيفاً ، بسبب تهور قوّاد هذه الحافلات الكذّابين ، الذين يسلبوننا أموالنا و أعمارنا .. قـُبيل أنْ نصل إلى مدينة ( البريقة ) بقليل ، رنّ نقـّال السائق بنغمة أغنية ( خصيمي قاضي ) ففتح جهازه ، و ردّ على المتصل : ( أيه أيه .. باهي باهي ) لم نعرف ما دار بينهما على وجهي الخصوص و التحديد ، لكني شمّمت رائحة الخيانة من طريقة ردّه و نظرته إليّ في المرآة العاكسة ، و قبل أنْ نصل بخمسة دقائق أخذت الحافلة يمين الطريق ، و توقفت قليلاً ، حتى انضمت إليها حافلتا ( فيتو ) أخريان من وراءنا ، فنزل سائقنا و سائقيهما ، و تحدثوا فيما بينهم ، و هم يختلسون النظر إلينا ، و بمجرد أنْ رجع إلينا ، ساق السائق لنا هذا الكلام : ( يا جماعة سامحوني ما نقدرش انكمل بيكم الطريق .. عندي حالة وفاة في إجدابيا و نبي انرد غادي .. معليش اركبوا في الحافلة الأخرى ) .. هكذا هم دوماً ، الذين يبدؤون المشوار بالكذب و الاحتيال .. إذن فقد باعنا هذا الخائن بربع قيمة أجرتنا – التي حدّدتها و أوجبتها ربع المسافة المقطوعة - للسائق الآخر .. نزلنا جميعنا ، و أعلمنا الطالب الجامعي ، الذي كان بجوار السائق بأنّ من اتصل بالسائق ، قد طلب إليه أنْ يعود إلى ' إجدابيا ' بعجلة ، لأنه تحصل له على مجموعة ركّاب يستعجلون السفر إلى ' مصر ' ما يعني أنّ أجرتهم أكبر من أجرتنا ، فاستنكرت عليه ، سكوته و صمته ، و كونه لم يخبرنا بذلك في حينه .. توزّع الرُّكّاب على الحافلتين الأخريين ، و صمّمت على أنْ أكون مع الحاجة ' فاطمة ' و حفيدها فهما ( عز الرفاقة ) و هذا ما حصل فعلاً ، إذ صعدنا في حافلة واحدة ، فجلست بجانب العجوز ' رجعة ' الراجعة من ' بنغازي ' إلى ' طرابلس ' ، بعد أنْ حضرت زفاف ابن أختها ، و لأنها كما أبلغتنا ، قد صمّمت أنْ تعود وقت الغداء ، و ضعوا لها ( قصعة رز بالخلطة عليها عشر لحمات ع الحلة ) لتتناولها في السبيل ، هي و ابنيها ، ( خير من مرطزة الاستراحات ) فدار حوار جميل و شائق بين العجوزين ' فاطمة ' و ' رجعة ' تناولتا فيه ، العادات و التقاليد و سبر الفرح في ' بنغازي ' و ' طرابلس ' و حنة العروس ، و يوم النجمة ، و ما إليه من حديث جميل بالفعل ، شنّف مسامعنا ، و زادنا علماً بتقاليدنا الشرقية و الغربية ، حتى وصلنا إلى بوابة ' البريقة ' و هناك أمرنا رجال الأمن بالنزول من الحافلة ، و طلبوا إلى السائق ، إنزال ما في السيارة من أشياء ، و قاموا بتفتيش حاجياتنا ، بما فيها حافظة الحلويات التي في ( قفـّة ) الحاجة ' رجعة ' التي صاحت فيهم : ( يا اعويلتي بشواش .. راكم اتدشدشولي الكعيكات اللي في الحفـّاظة .. قبل ما ايضوقهن الحاج ابشير .. و ايقولي مشيتي هجّيتي و هيّجتي في بونغازي .. و ما تفكرتيني و لا جبتلي معاك احويجة من غادي.. و بعدها ايحرم عليا المشي و لطلوع .. راهو غالية عليه حلويات بونغازي ) ثم فتحتها ، و وزعت عليهم كعكة كعكة ، ليحدرو بيها الشاهي ، اللي في برادهم لمشيط الموجود على سخّانة ريستون قديمة ، و بجانبه أكواب مختلفة ، منها ما هو زجاجي و منها ما هو بلاستيكي .. تركونا بعد ذلك لنمضي أماماً ، فكما يُقال : ( املا البطينة .. تستحي العوينة ) .. عدت و ألصقت صدغي بالزجاج ، متجهاً بنظري نحو البحر ، و مستمعاً بحوار العجوزين اللتين عادتا للخوض فيه لقرابة الساعتين ، حتى بانت عليّ مصفاة ( شركة سرت للنفط ) .. فتنهدت ( آآآآآه ) فردت عليّ الحاجة ' فاطمة ' : ' كنك اتجض يا باتي .. قيسك رايفت على مدينتك و مينتك ؟ .. نعطيك تشرب ؟ ) .. ( لالا .. سلامتك يا حاجة ما في شي .. ما خاطري إلا نشرب دخان ) .. فكثرة شرب الماء في الطريق له عواقب وخيمة .. و عند بوابة ' سرت ' أمرنا رجال الأمن بالنزول من السيارة ، فحاولت الحاجة ' فاطمة ' بحيلتها أنْ تصرف انتباههم عنا ، و أمرت الحاجة ' رجعة ' أن تعيد الكرّة : ( عطيهم من كعيكاتك ) فعلقت وراءها : ( سادهم الكعكة الكبيرة .. يا حاجة راهو كعيكاتك ما يلعبنش معاهم ) لم يقرّ للحاجة ' فاطمة ' قرار ، ففتحت الباب موجهة كلماتها لرجال الأمن : ( رانا جايينكم ابخيرنا و خميرنا .. و عليش اتفتشو في ادبيشاتنا .. دوبينا ليبيين ؟ .. اهو فتشو دبش الأفريقي هضا .. انكانكم رجالة ابصحيح ؟ ) .. ردّ عليها رئيسهم : ( باهي باهي يمي ) و أمر السائق باستئناف المسير ، استدرت برقبتي إلى المحرقة أو هي المصفاة ، و أنا أسرّ إلى نفسي : ( لنقنك يا حاجة فاطمة أخت ارجال .. ياريت عندك ابنية بيش ناخذها ) ثم ألصقت صدغي بزجاج النافذة ، لينتابني الهاجس ذاته : ( أتخيلني في سفينة في عرض هذا البحر ، فلا حواجز للطرق و لا عجاج و لا خوف من الحوادث ، و حتى إنْ متنا غرقاً ، فسوف نحيا عند الله شُهداء ، لا أنْ نموت جيفاً ، بسبب تهور قوّاد هذه الحافلات الكذابين ، الذين يسلبوننا أموالنا و أعمارنا ) .. انتبهت إلى خرخشة ( تشكتشكتشكتشك ) ما هذه التشكشكة يا ترى ؟ كأنني قد سمعت بها قبل هذه المرة ، أ تكون ( شكشكشكشة قِطار ) ؟ .. لالا من أين لنا بهذا القطار ؟ الذي لم أصعده في حياتي يوماً ، فلو كان عندنا قطار لما تعبنا كل هذا التعب ، و لقهرنا به الصحراء ، التي فشلنا في جعلها أرضاً خضراء ، ثم نحن لا نجري الآن على سكة حديدية ، بل على طريق غير معبدة ، ماذا هناك يا ترى ؟ أها هي الحاجة ' رجعة ' تخرخش الكيس الذي به ( قصعة الرز ) طالبة من السائق أنْ يتوقف بنا ، لنتناول الغداء معاً ، نزلنا جميعاً ، فأخرج السائق ( بريمس ) من السيارة ، و قامت بتسخين ( الأرز ) و حمّرت لنا اللحم ، و قامت الحاجة ' فاطمة ' بإخراج قنينة ( بيبسي ) و قالت : ( حدروا بيها .. و أنـّت يا سوّاق .. حدّر معاهم .. بيش اتحدر بينا الطريق ابسرعة .. سلّم أوليدي .. راهو كبدي انسحنت و طابت من هالطريق ) .
*** 
ما لهذه المدينة – اطرابلس – كلما اقتربنا منها ، انزاحت و ابتعدت عنا ؟ لكأننا في رحلتنا إليها ، نـُلاحق أسراب السراب ، فغنيت : ( مشينا مشينا مشيتنا و الطريق اطوالت / لناصر المزداوي ) .. ها هي طلوع النخيل تستقبلنا بها مدينة ' تاورغاء ' ها قد بدأت تبتسم لنا الطريق ، ها قد رأينا الإخضرار بعد جدب طويل – من إجدابيا إلى الهيشة - انفرجت سرائرنا ، نزلنا هناك ، و صلينا الظهر و العصر جمع تأخير .. و بعد ذلك واصلنا رحلتنا ، و قد عدّلت من اتجاه نظري ، و صرت أرمي به بعيداً إلى الأمام ، فما عاد يهمني البحر.
أصابني شيءٌ من السِّنة، فلم انتبه إلا إلى الحاجة ' فاطمة ' و هي تزغرد و تدربك على ( حكية نيدو ) - استجلبتها معها لتحفظ فيها بعض أشيائها - منشدة بصوت مبحوح : ( امشينا و جينا سالمين بريكة رب العالمين ) .. ( هيا يا باتي انزل .. طيب فينا وصلنا سالمين ).
نلتقي في طرابلس ، إذا كتب لنا الله البقاء و اللقاء بكم في الجزء الثاني .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) : يروى أنّ الخليفة الراشد ' عمر بن عبد العزيز ' قد دعا له أحد الرعية ، بهذا الدعاء ، فأجابه : هذا هو الدعاء الذي لا طائل منه .. ' فلكل أجل كتاب ' .. و ربما نسوقه نحن من باب الرجاء أن من ندعو له به ، أن يكون من ذوي الأعمار الطويلة.
( ** ) : ذكرتني بأغنية لعلكم عرفتموها .
( *** ) مأثور غالباً ما يسوقه الليبيون كحق أريد به باطل ، فهو عندنا كما العبارة السوقية ( بين البائع و الشاري .. يفتح الله ) فهي تقال بمعنى الرفض.

1 تعليقات:

في 10 يونيو 2012 في 4:57 م , Anonymous غير معرف يقول...

ماشاء الله عليك يازياد ننقنك مبدع وفارس
العمروني

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية