الأحد، 1 مايو 2011

حبيب الملايين يأسر الحبيب الأمين


زياد العيساوي صحبة الحبيب الأمين/تصوير طارق الهوني
معتصمين من زمان في هذا المكان
 انشطر وانفطر هواه بين مدينتين، مسقط رأسه "مصراتة"- التي أرّخ ووثــَّق لمعالمها، فحضرت بأرجائها من زاوية المحجوب، ببعدها الديني والتاريخي، إلى الدافنية وطمينة وقصر حمد ووسط المدينة في عديد مؤلفاته، ومخطوطاته، التي تنوعت بين الشعر وفنّ المقالة، ولم ترَ النور بعد، لأنه هجر مطبوعات الدولة، وفضّل أنْ ينشرها على حسابه الخاص، بعيداً عن التودّد والتزلُّف لأساطين وأبواق السلطة، كي لا تتلطخ كتبه بعار وشنار التبعية لسلطة الرقيب الثقافي- و"بنغازي" التي عاش فيها أكثر من نصف عُمره، وتزوّج بإحدى بناتها الماجدات.. بنغازي، التي عاشت بزخارفها ونقوشها وأطلال بيوتها في تلابيب وخزائن صفحات ذاكرته.. بنغازي، التي بنى أبيات قصائده وشعره من حكاياتها وبطولاتها ومآسيها وأفراحها، ونثرها في نثره وتعابيره بأطيب المُنى والمفردات.. بنغازي، التي آمن بأمومتها لثورة، رآها آتية لا محالة من صميم أوجاعها.. بنغازي، التي انتصر لمضطهديها وشبابها المطحونين برحى الاستبداد والاستعباد.. بنغازي، التي تعلَّم وتخرّج في جامعتها، وألِف ناسها وأحبهم، وتعلـَّق بروح الثورة المُتأجِّجة في صدور أهلها، وصار أسيراً لشعارات ثوّارها المُعتصمين كل يوم سبت في مركز المدينة، من أسر ضحايا سجن (بوسليم) فتتبع واقتفى بصمات خُطاهم- لا يلوي على شيءٍ- المُترجمة للحيف والظلم، الذي وقع عليهم، فسجّل الكثير من تنديداتهم في مفكرته، التي يحملها على الدوام بين يديه، ليرقن في صفحاتها وعلى خطوطها، خواطره وبواكير كلمات كل قصيدة له، وشعارات هؤلاء الخالدة، التي دقـّت المسمار الأخير في نعش النظام المقبور، فأُخِذ بما سطّروه على لافتاتهم طويلاً، من دون نُصرة من أحد لهم، وشاركهم وقفاتهم الاحتجاجية، وهو يردّد معهم: (دم الشهداء ما يمشيش هباء) و(ارفع رأسك فوق أنت ليبي حر)، في غياب العديد من المثقفين، أيام تطبيق قرار سريان حظر التعبير، وزمن الإعلام الموّجه، وخضوعهم له إلى الآن، بعزفهم عن التواصل مع روح هذه الثورة، التي خطفت منهم قصب السبق والإدعاء بتبنيها، لكونها ثورة شعبية لا نخبوية، فاجأتهم وأرغمت العديد منهم على الانضمام إلى ركبها، وركوب موجتها والاغتسال بزبدها من أدران الخنوع والذل، وجعلت من بعضهم، من يحاول، من خلال وقوفه وراء ناقلات الصوت وعدسات القنوات الإخبارية، أنْ يُظـّهـِر وجهه، بدلاً من كلماته المرقونة في الصحف التي هجرها، لعلمه المسبق، بأنه قد أحرق ذخيرته الشعبية، ورمى بنفسه من علٍّ إلى درك (الدرك والعسكر والسلطة)، وبقلمه في حطب وحُطام لا مُطفئ له، بعد تسلمه لجائزة الفاتح، التي قدرها عشرة آلاف دينار (مُعمريّ)- نسبة إلى معمر- لن تـُعمِّّر في تاريخه، أما البعض الثاني، فراح يبحث له عن دور، وهو يتسابق مع شبابها، كي يسبقهم إلى ما هو آتٍ، بالتنظير إلى صياغة الدستور وسُبل تطوير البلاد، وكتابة المقالات الإنشائية، التي تدعو إلى حب الوطن، جاهلاً بأنّ شباب كهؤلاء، ما تحرّكوا واستطاعوا أنْ يفجروا ثورتهم من العدم في ظلِّ نظام قمعي ومستبد كهذا، ومن دون تجربة سابقة لها في البلاد، إلا لمحبتهم لوطنهم، وسوف لن يعجزوا عن إعداد الدستور العصري والحديث، الذي سيكتسب شرعيته من مكوِّنات الشعب كله، بعد إعلان النصر المؤزر، ولملمة جراحهم، لكنهم سينزعجون من روّاد المنصات وعُبّاد الصالونات الثقافية، ودوّاري الاتجاهات السياسية ناحية مركز السلطة دائماً، الذين دأبوا على بثِّ روح الخوار والهوان وتثبيط و(تهبيط) كل من رأى في ثورة التغيير، سبيلاً للخلاص، ممّن لم يؤمنوا في يوم واحد، بلغة الحوار مع من يخالفهم الرأي؛ سأذرُّهم لحكم القرّاء، فهم يعرفونهم جيداً.
انغمس بين شقيّ رحى الحبّ، قلبٌ لطالما نضح ونصح بعشق "ليبيا الحبّ" في كلماته ودفقه الشعري، هو قلب الشاعر "الحبيب الأمين" الباذخ والنابض بروحٍ وعصارة طازجة بحُبيبات الثورة في قصائده والتقاطاته الشعرية، التي غارت في تفاصيل قوالبه ومُعلباته، من دون أية مواد حافظة وسامة، اللهم إلا من مخزوناته المُولـِّدة لمفرداته الباعثة للانتفاضة الكُبرى، التي أُهيلت عليها رمال الاستكانة والخمد لزمن مديد، والكشف عنها بأزاميل عُمرة المستحثات الحجرية والزخرفية، مستعيناً بدراسته الأكاديمية في علم الآثار وتفوقه في تخصصه المُتعلق بالزخرف والتحف الرومانية العصر، حيث إنه تحصَّل على درجة (الماجستير) في هذا الشأن من إحدى الجامعات الإيطالية في مدينة (بروجي) وكان بصدد نيل درجة الدكتوراة، وقبل عام واحد من ذلك، خُيَّر بين مواصلة علمه بالإقرار الخطي بتبروئه من أخيه المعارض "حسن الأمين"، وبين قطع المنحة الدراسية عليه، حال رفضه، فاختار أنْ يبر بأخيه الأكبر، وأنْ ينتصر لوطنيته، قبل أية شهادة ومنصب، وهذا ما جعله في حياته الثقافية، ينصرف عن المنصات والشللية الثقافية، فوهب قلمه لوطنه من دون أيِّ مطامع وطموحات مشروعة وغير مشروعة، وابتعد به عن التربُّح والتكسُّب من فتات السلطة.
في يوم 15 فبراير 2011 اتصل بيّ الشاعر "الحبيب الأمين"- من مدينة "مصراتة" لأنه كان بصدد تجهيز وثائقه الرسمية للسفر وزجته وابنته للعلاج في تونس- ليتأكد من خبر اندلاع الثورة في بنغازي التي آمن باندلاع الثورة منها، فأخبرته بصحة الخبر، حينها صاح بـ"الله أكبر"، وكانت آخر عبارة سمعتها منه، بعد أن أُعلِمت صبيحة اليوم الثاني، بأنه قد أُسِر وأخاه الفنان التشكيلي "محمد الأمين"- بتعلِّة عزمهما على إجراء مداخلة في إحدى القنوات العالمية- من قِبل كتيبة أمنية للقذافي، بقضِّها وقضيضها في مشهد إرهابي، لا مثيل له، كي تـُحرَم ثورتنا من قلم صادق، كان سيتبناها بنثره وشعره وحبِّه.
أترككم مع مقاطع من قصيدته هذه، التي استشرف بها قيام الثورة، عندما همس لأنامله، أنْ تـُزخرف لنا لبنات هذه القصيدة الثائرة، التي بناها بأزميل قلمه ذي الأثر الثائر، ضد حبيب الملايين والبلايين من الأموال لا الشعوب:

همست لأصابعي أكتب (آتية)

(1)

الزمن لا يتشاسع جلده

عن جسد الحكاية

بالساعات الممددة

ناب الضيق غائر

الراوي على البندول الهزاز ينتقر

يفصص السم للعقارب

والسامع تقرعه أجراس التأويل

يمضغ قشور الراهن بلا لب

(2)

بين ليلين كان لنا هلال ونجمة

وعناقيد أحلام دانية

بين ظل وظلمة كانت لنا شمس

تغزل على التلال مسارد للشعر

وكانت المطر حلوة تسمع الشفاه

تهرق العسل من جرات السماء

(3)

أيتها الشمس

نهشة البزوغ بكفيك

ألا منحت الوعد صرة الشعاع ؟

ذات يقين همست لأصابعي أكتب " آتية "

مذ كنت طفلاً رسمتك على الكراسي باسمة

كل الشفاه حالكة كل الأحزان فاقعة

تمددي على وسائدهم السوداء..


بنغازي/مقهى البحّار وساعة القرصان تشير إلى الثانية صباحاً
10 رمضان - 21 /10/2010


0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية