السبت، 16 أبريل 2011

الدينار السياسي

"مُذ رأيت صورته جالساً، وهو يرتدي الجرد، ويضع كفـَّه على خدِّه، ويضحك أمام مريديه، الذين يتبادل وإياهم دور الاستخفاف، فهو يستخفهم بدجله، وهم يستخفونه طرباً بهتافهم له، أدركت أنه ليس طيباً"، هذه كلمة للحاج "إبراهيم التريّة" رحمه الله، عن رأيه الشخصي في شخص وأخلاق "القذافي"، الغريب أنّ تلك الصورة التي يعنيها، هي عينها، التي صكَّها صاحبها على العملة الليبية النقدية (الدينار) لتؤرخ لحكمه.
في العُرف السياسي الإسلامي، ومنذ أنْ استولى الخليفة الأموي الأول "معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما، على الحكم، استحوذ على بيت مال المسلمين، بعدما كانت ملكيته تعود لهم، وتـُصرَف فيما يرضي الله، ويعود عليهم بالخير والرفاة، من دون أيِّ وجه تفريق، فمنذ زوال عهد الخلافة الراشدة، صار صكِّ العملات النقدية باسم الحاكم، أمراً متداولاًً وعُرفاً سياسياً شائعاً بين الولاة، إلى وقتنا الراهن- في تقليد واضح لإباطرة الروم ودولتهم- يجاريه في ذلك بناء مسجد للسلطان، وهذا ما قام به حضرة العقيد بخصوص العملة، وما لم يفعله فيما يتصل بأمر المساجد، فالقذافي، ينفي حتى يومنا هذا، تمثيله لأيِّ منصب سياسي في ليبيا، والواقع يقول بأنه منذ توليه الحكم الفعلي، باستيلائه على السلطة في عام 1969 ميلادية، احتكر هذه القوى الناعمة، لتسيّير عجلة طموحاته ومشاريعه السلطوية الفاشلة، ولتعزيز حكمه بشراء الذمم والأمم، وتصريف أعماله، بصرف أمواله التي هي من حقـِّه- هكذا يرى- في غير أوجهها اللازمة، حتى وصل تأثير هذه القوة إلى الجانب الدعائي والإعلامي في الداخل والخارج، وقد لمسنا تأثيرها على هذا الصعيد، في تزمير وتطبيل الأبواق وكـُتـَّاب السلطة له، ماضياً وحاضراً، ولعلّ ما يؤكد ذلك، ما نشاهده في الفترة الأخيرة، أي بعد تفجُّر ثورة السابع عشر من فبراير، هو غياب الأقلام العربية الكبيرة عن شاشات القنوات الفضائية المشهورة في برامجها التحليلية المتعلقة بالشأن الإخباري والسياسي، بعكس ما كانت تقوم به في أحداث ثورتي "تونس" و"مصر"، حيث لم ينقطع حضورها في تلكم الأيام، إلا بانقطاع البثِّ الناجم عن التشويش، الذي تقوم به الأجهزة الاستخباراتية التابعة لنظام "القذافي"، في تحدٍّ صارخ منه للثورات العربية، حيث إنّ قمع وظلم هذا النظام، لم يسلم منه أحد، وتعدَّى واعتدى حتى على وسائل الإعلام الحرّة، بتسخير الأموال الطائلة أيضاً، لهذا الغرض المُغرِض، باستجلاب الفنيّين والخبراء من أصقاع العالم، والبذخ عليهم من أموال الشعب الليبي، بلا رقيب ولا حسيب ولا وازع من ضمير حيّ، وهو الذي طبع عليه، نصَّ الآية الكريمة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
سيّس ودوّل "القذافي" الدينار الليبي، وعوَّمه لتنظيف وإخفاء جرائم زبانيته وزبالته من منعدمي الإنسانية، وسخـَََّر سِحر هذه القوة الناعمة، على كل ما من شأنه، أنْ يطيل من عمر بقائه في الحكم، ولإخراجه من أزماته السياسية المتفاقمة، وأخطائه الفادحة، منذ قفزه على هرم السلطة في ليبيا، فكلما تعرّض لمحنة سياسية، رأيناه يلجأ إلى خزانة الشعب الليبي، لسداد المخالفات والضرائب السياسية لشرطي العالم الأول (الولايات المتحدة الأمريكية) شريطة إعطائه الآمان وانتفاء ملاحقته القانونية، وهذا ما لم يقـُم به تجاه ضحايا الداخل من الليبيين، ولا المُتضرّرين من حماقاته التحوُّلية الشاذة، من دفع التعويضات وجبر الضرّر، وحتى وقت قريب تمنيت على ضحايا مجازر "القذافي" في حرب (تشاد) وسجن (بو سليم) والطائرة الليبية التي أسقطها فوق "طرابلس"، وكذلك قضية حقن الأطفال بالإيدز، ألا يقبلوا بالتعويض المالي، لأنه في النهاية سوف لن يدفع من كيس "القذافي"، بل من مال الشعب الليبي، لست أقول هذا بدافع الحسد- فلسنا في مقام التحاسد، وليس ثمة ما يحسدون عليه- بل إنني، مع تعويض أسر الضحايا، بأكثر ممَّا دُفِع لأسر الضحايا الفرنسيين في حادثة تفجير طائرة الـ(UTA) فوق (النيجر) حيث بلغت قيمة التعويض مليون دولار أمريكي، وأكثر حتى مما سُدِّد لكل أسرة أمريكية من أسر الضحايا، في حادثة تفجير طائرة الـ(بانام) حيث ساوى التعويض عشرة مليون دولار أمريكي، لكل عائلة، وللعلم، فقد أعلن النظام مسؤوليته الأدبية والجنائية على الحادثتين، ودفع ما دفع، بعد وساطات دولية، ضمنت له سلامة رأسه، لكنّ ما لم يقنعني، هو عبث "القذافي" بأموالنا وتوظيفها لمصلحته الشخصية، فمن المعروف في العُرف الليبي، أنّ من يُقدِّم على ارتكاب جريمة قتل عن عمد، أو نتيجة حادث سير وبلا قصد، أنْ يلتزم بدفع الديّة من جيبه الخاص أو من صندوق عائلته، أو من خلال مؤسسة التأمين- في الحالة الثانية- لقاء أقساط سابقة، دفعها آلياً لهذه الجهة العامة، فما دخل الشعب الليبي، كي يتحمل وزر جرائم "القذافي"؟، فبتصوري، عند قبول الشعب الليبي بهذا التبذير لثروته، لأجل فرد غير مسؤول على ثروته، يكون ومن حيث لا يدري، قد اعترف ضمنياً بمشاركته في هذه الجرائم، وقد شرعن وسنّ قانوناً وضعياً، يصبُّ في مصلحة هذا السفيه، يخوّل له التصرُّف في أموال الشعب، لدفعها يميناً وشمالاً، من دون وجه حق، ولا مسوّغ قانوني، إذ من البديهي، أنْ يُقدَّم هذا المجرم للعدالة، وتأخذ مجراها، لينال الحكم العادل، بعد تجريمه، وإلا عليهم بالصبر، حتى تتبدل الأوضاع القائمة.
ولم يتوقف "معمر" عند هذا الحدِّ، بل تجاوزه إلى مراحل أخرى، في فترات فائتات، حيث إنه موَّل بالدينار- في الداخل- والدولار والفرنك والليرة والين- في الخارج- الكثير من الميلشيات، لخلق حالة من الفوضى السياسية في عدة نواحي في غير قارة، وبها أنشأ المشاريع الاقتصادية الاستثمارية، لإغراء واستعباد بعض الأنظمة، واستبعاد البعض الآخر المناوئ له، واعتقدَ بأنّ نجاحه الذي استمر لفترة سيدوم، غير أنه صار في كل مرة، يتفاجأ بارتداد الموالين له، ما يجعله يموّل خصومه كنكاية فيهم، ولمجرد العناد، ليس إلا، ما سبّب في استنزاف مال الشعب الليبي في غير فائدة، وعلى أعمال طائشة- لا تصدر إلا عن متهور وأهوج- تأتي حسب مزاجه الخاص، وما حكاية الاستثمارات الليبية في الخارج المُتكتـَّم عنها، وعن مردودها وجدواها، حيث علمت منذ عشر سنوات قد خلت، بأنّ حجم وأصول الاستثمارات الليبية في الخارج، يُقدَّر بألف بليون- أي ما يساوي مليون مليون- من الدولارات، وأنّ الدخل العام الليبي، يساوي في مجموعه تسعة بلايين دولار، خمسمئة مليون- أي نصف مليار- دولار منها، هي عوائد الاستثمارات في الخارج، ما يعني أنّ ثمة هدراً كبيراً في طاقة هذه الاستثمارات، لم نتبين حجم الفاقد من دخولها، ما يعني أنّ أصل هذه الأصول المالية، لم يستثمر لأجل الرُّقي بالشعب الليبي، وإنما ذهب كمال سياسي، أُريد منه توظيفه فيما يعود على النظام بالفائدة، ويحقـّق طموحاته الشرهة، ويجعل له وزناً دولياً، حتى لو لم يكُن له أية (كريزمة) ولا أية رؤية سياسية ذات قيمة، في زمن صار فيه الأسوأ هو الأفضل، في كل مجال، ويقدَّر وزن الرجال، بوزن ما يملكون من قناطير الذهب والفضة والدنانير السياسية.







0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية