الجمعة، 15 أغسطس 2014

لسان حذاء


الحذاء رياضي أبيض، مقاسُه اثنان وأربعون سنتميتراً، على كل جانب في خفيه خطّان أسودان متوازيان، ويحمل كلِّ واحد منهما ثماني فتحات متقابلة، يخترقها خيط طويل، يزيد عن الحاجة حتى يلامس طرفاه المهذبان بالنايلون الأرض، وعند ربطّه بإحكام يشكّل فوق لسان الحذاء مظهر وردة. 
وضعت منتصف الحذاء على حافة الرصيف، ثم أخذت أنحني إلى أنْ تراصف رأسي مع الأفق، لربط شسع الحذاء حتى انكمش لسانه، فلسان الحذاء راضٍ بالخرس أصلاً، ووظيفته فقط، هي تخليص الكاحل من ضغط الخيط عليه، تركت الثقبين العلويين من أحد خفي الحذاء متنفسين للضيق، فالمشوار يتطلب راحة ويسراً في السير.
كنت لا أتقن هذه المهمة من بين أترابي، الذين عادةً ما يتطوعون لتخليصي من هذا المأزق المُحرج، حينما أطأ على الخيط فأتعثّر، ولا أفقه من أبجدياتها سوى ربط العقدة اﻷولى، لأنّ الثانية صعبة وأعجز عن ليّ رقبة كل خيط على حِدة، ثم القيام بعملية التضفير والامتشاج، اﻷمر الذي يضطرني دوماً إلى اﻹمساك بأطراف الخيطين اﻷربعة وحشرها ما بين الجوارب وجلدة الخف، ثم أسدل عليهما طرفي البنطال حتى يلامسا اﻷرض، وتظهر نتائج هذه العادة في نهاية طرفي البنطال الذي أحبذه من الجينز الطويل المتسع قليلاً إلى أسفل، حينما تبدو أنسجتها البيضاء تحت زرقة لونه كقطع الشاش التي يُطبَّب بها الجرحى..أشدُّ البنطال من عند الركبتين إلى أعلى، ثم أقوم بحكّ قدمي الحذاء بالتراب العالق على الزفت متخلصاً ممّا علق بهما من قطع العلكة المتيبسة، وما يستعصي عليّ منها كالطين المُبتل أخرطه في زوايا اﻷرصفة اﻹسمنتية المسلحة أو على عتبات الرخام أمام قصور اﻷغنياء.
الشبشب لا يتماشى في المشي معي، فقدماي مثل كفاي، غالباً ما يتقطران عرقاً أُجاجاً، فأجدني حافياً، وقتما ينتفض الشبشب مني لمسافة لا يصلها أصبعي الكبير- الذي التصقت به حبيبات الرمل- ليجرّها ظفره، وأنا في حيرة الموقف بل في ربكة المسير.
أخطو ثم أخطو، فيبتلع اللسان نفسه منطوياً على ذاته ومنزلقاً القهقرى، ألا يكفيه أنه صامت، فلماذا يتراجع ويهرب متخفياً ومختفياً؟ لا أعطي سؤالي بالغ الاهتمام.. أرتكز مثل جندي على خطّ الجبهة، لأسحبه من طرفه إلى أعلى الكاحل ثم أدخل أطراف الخيط في الفتحات الأربع العلوية وأعيد خنقه بإتقان، حتى يتجمد الدم في أعلى الكاحل ويرتسم حيّز قانٍ.. ربط الحذاء بهذه الكيفية يعطي لجسمي نشاطاً من نوع آخر، ويدفعه دفعاً لا إرادي إلى الأمام.
يرتخي عنق الجورب ويسفل حتى لا يكون ثمة عازلٌ بين عقب القدم وجلدة الحذاء الداخلية، ونتيجة للاحتكاك بينهما يدّمي.. أجلس القرفصاء مثل تارقي في الصحراء وهو يترقب الأفق، واضعاً ثقل وزني على ركبتيّ، كي أفرج عن اللسان بإرخاء الخيط وأنا أبعد بين جانبي الفتحات، حتى أخرج قدمي شاداً الجورب إلى أعلى نقطة في الساق يمكنه بلوغها.. أقحم الأصابع في الحذاء، مستعيناً بقطعة من منديل ورقي، ينثر رائحة الياسمين لتخفّف من حِدة الألم التي تعتصرني نتيجة الاحتكاك، ثم أتوكأ قليلاً على مشط القدم لأتحسّس شدة الألم التي تتملكني.. يناديني أطفال أنْ أرجع كرة شردت عنهم بعيداً نتيجة تسديدة عشوائية من أحدهم، أغالب ألمي وأركلها بشدة لبعد ملعبهم، حتى تقفز قطعة المنديل خارج حذائي، تخطئ الكرة اتجاههم، فيطلقون صيحة استهجان، وأطلق صرخة وجع حااااااااااااد.
أنزع عقدة الخيط ، فيخرج مُنسلاً من فتحاته، فينبعج لسان الحذاء ولسان حاله مُطبَق كلسان كاتب في زمن ثورة تزداد تعقيداً.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية