الاثنين، 8 سبتمبر 2014

وجه المكان



وجه المكان يغمره رذاذ البحر، ويتظلل بعيداً عن الشمس بنظرات بنية قاتمة، علق بخار الملح بعدستيها اللتين تتخفى خلفهما عينان اكتساهما احمرار اﻷرق المغلف بالتجاعيد، يرى بها الناس مُصفريّ المُحيا، يستنشق نفساً عميقا بقدر عمق رمية لطفل يقفز من أبعد وأعلى حجر يشبه في شكله عظمة يتسوّر بها ميناء بنغازي البحري، ويتزفر بزفرة البحر.اعتاد المكان أنْ يرى أغلب هذه الوجوه، إلا أنّ بعضها غاب عن دائرة المشهد، يرفع المكان عن عينيه النظارة ليتفحص قسمات هذا البعض مليّاً ثم بنقرة على جانبيها يسقطها متزحلقة حتى يكبحها أنفه الذي لم ينكسر لتقلبات العصور، ثم يحكم تعديلها، يتكئ بظهره على مسند من سعف النخيل واضعاً رجله على اﻷخرى، يشعل لفافة من فوهة بخار باخرة صينية حُمِل عليها الطوب تستعد لتمخر عباب البحر عائدة إلى ذويها، ثم يشبك أصابعه ويلصقها ببطنه التي تصنع مع سحابة عالية زاوية مقدارها ثمانون درجة، يغمض عينيه ويتوه في سديم تموجات الظلام ونبضاته التي يراها بعقله تفقع وتقتم اﻷرجاء.المكان حيّز من فراغ وأرض، يحجز ما مضى من وقت ويفرغه في سجلات مهترئة يطّلع عليها بين الفينة والثانية، هنا كان في ذاكرته مبانٍ ونشاط، هنا كان ثمة بشر وحجر، مات البشر بسقوط الحجر، هنا كان حجر، مات بعد زواله بشر، نبضة قاتمة من أفق بعيد تأتيه كموجة مسرعة ترمي بين حاشيتي عينيه حكايات وشخوصاً أفلت نجومهم، في غبش التفاصيل تحيا أصوات وأغانٍ ممزوجة بإيقاع يتسارع فيختزل المسافات القصية لقضية مدينة.يقطع انفجار مدفعي مدوٍ سرد إلهام المكان من مكان آخر حديث العهد بالسكان، يتألم لأجله فيدعو له ويدعوه أن ينام قريرَ العين هانيها.للمكان مشاعر جمّة عاطفية إنسانية أخوية ينتخي لغيره من اﻷمكنة ويشعر بعظيم مصابها، غير أنّ المدفع لم يخرس وزاد من شدة وحدة انفجاراته التي صرخ منها المكان البعيد، أسّاقط صرخاته ودعا له ودعاه أن يُرحّل له أبناءه كنازحين، فالوجوه التي غابت عنه ولم يرَها منذ أمدٍ قصي هي النازحة التي عاش أجدادها بين جنباته لدهور فهم ورثة المكان وشاغروه من قبل.أصل الأمكنة في الأزل مكان واحد، والمكان يمقت التشتّت والتفتّت يستوعب الكثرة يفسح قلبه للآتين إليه يغمرهم بذكريات آباءهم، يُكافئ الشيوخ بأنياط الوفاء كلما تحدثوا عنه لذراريهم، ويمنحهم الحظوة، أما المتنكرون له فيتجاهلهم وكفى.. أوابده سقطت لشيخوختها ولم يستطع أحد أن يدكّها على رؤوسهم، أما المهدوم منها فقد تهاوى بفعل فاعل، وقد أحيط نبأً بموعد وترتيبات هدمها، غيره من اﻷماكن انهارت بنياته بفعل مفعول به.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية