الأحد، 19 ديسمبر 2010

بقايا إنسان

"الشعب الليبي.. ما ايريح منه شي.. اللي ايودر افلوسه.. ايقولوله: ياخذن سوّك.. واللي تنقلب عليه القهوة.. واللا يتعرض لقصف عشوائي من طائر في الجو أفرغ كل حمولته.. ايقولولهم: جياّتكم افلوس.. واللي ينهبل عندهم.. يحسبوه في عِداد لمّرابطين*".
وبالفعل، نحن نهذي بهذا، مع معرفتنا أحياناً، بأنّ مُضيع مالـَه وما لهُ، قد يكون إنساناً طيباً، ولا سوءاً فيه، وبه، وقد سّدد ما عليه، ونزداد هذياناً، حين تصبيره بعبارة مُلحَقة، تحتاج إلى تأكيد صيغتها، في شكل أسلوب شرطي عامي، قبل الإتيان بجواب الشرط، عند ضياع- بل- وسلب كل شيءٍ منا: "انكنهو رزق حلال؟.. توا ايرد" فماذا إذا ضاعت الحقوق والأموال العامة؟ ولم ترد لأصحابها، فهل سنغلق مخازن أفكارنا بأقفال هذا الخرف الصدئ، ونعتبر أنّ هذه الأموال، ليست من رزق حلال، ولا من كسبه؟ وهي ممّا لا مرية فيها، أموالٌ حلال زلال بنصاعة لون زُلال البيض، لأنها لا تـُكتسَب بالغش والاحتيال، وإنما بإخراجها بسيناريو وتصوير تكنولوجي وتقني معروفين، من جحيم باطن الأرض، ما يعني أنّ فرص الغش مُنعدِمة هنا أصلاً، ولا ثمة مجالٌ للعب بكُرتِه، على أرضٍ غير معشوشبة.. ونغثي بذلك، كذلك، في مسألة فقدان العقل، حتى لو فـُقِد من جرّاء تعاطي المخدرات، وبتجاوز هذا الهذيان والغثيان، اللذين نحن فيهما وعليهما- نعم هذيان وغثيان- فكم من طائر فعلها معنا، وكم من فنجان قهوة، اندلق على ملابسنا، واستبدلناه- وملابسنا- بغيره ولم نرَ شيئاً ذا قيمة، وكم من عاقل جُنّ، وحسدناه على هذه الرفعة الدينية، التي وصل إليها نتيجة، لتعاطيه الممنوعات المُنوعات، كي نتهرب من مسؤولياتنا تجاهه، فكلما رأيناه في الشوارع، وهو ينطق بما لا نستطيع حتى التفكير به، نقول عنه بحسدٍ مُتجرِّد من الغبطة: "عطاه ربي.. ما يندري ع الدنيا وين تفتح" فقد رُفِع عنه التكليف، وصار في مصاف التشريف- هذا إنْ لم نحسبه على المُخبرين- برأينا وتفكيرنا الخائبين، في حين، أنّ أغلب المجانين، يعاني أشد العناء في حياته، وقد يكون ما آل إليه، عِقاباً دنيوياً على ما فعل، ففيمَ وعلامَ الحسد إذاً؟.
***
هي عادتي، التي لم أعرف بعد إنْ كانت حسنة أو سيئة (النسرفة) التي جمعتني به، بعد أخر لقاء كان بيننا أيام الدراسة.. بقايا إنسانٍ، هذا كل ما أستطيع أن أصفّ به "اعبوده" فقد صار بثيابه الرثـّة، كما فزّاعة الطيور، من يراه يبتعد عنه، ليأمن شرّ خيره، تبدو عليه أعراض كل من له أغراض لم يحققها في هذه الحياة.. كل كلامه تنهيدات، تنديدات، تسديدات لا تعلو العوارض، ولا ترتطم بالقوائم، ولا تـُلقي بالاً لصافرات الكلام، ولا لـ(حامرات) العيون.. تأسّنت حدائق حدقتي عينيه، بـِبرك دموع شتوية، وبلون استعجبتـُه فيهما، وأجفلت طيورها إلى بُغية في ضِفاف بكر، لم تـُبتكر وتكتشف بعد على يدي (
كريستوف كولومبس ) الأحلام، فضاعت، ولم تعد كما الطيور المهاجرة، التي أُفترِست..

استقطاع:
هل تهاجر الطيور حقاً؟ فلمَ تعود، والحال كذلك؟ إذاً هي تسافر، طالما أنها تؤوب إلى أوكارها، فقد أحسنت "شادية" لما غنت: "وبعثنا مع الطير المسافر جواب".. فأحلامنا هي من هاجرتنا، وآلامنا هي من استوطنتنا.
..استكمال:
ضياع الأحلام من قبضات مخيالاتنا، لا عوضٌ عنه، و(فلتان) الأيام من سني أعمارنا، لا مسترجع له، وذهاب العقل من جماجمنا الهشّة، لا إياب ضده ينفذها، فهذه الثلاثية، ينطبق عليها المعنى الحقيقي للقول: "اللي اتبدد.. ما اترد مليانة".. مع أنني لا أتفق مع هذا القول المأثور، الخائر المعنى، الذي نردّده كثيراً من دون الخوض فيه، فإذا اندلق كأس الماء أو أي سائل من آنيته، لك أنْ تعيدها مليئة به، حال توافره، لكن ليس بمكنتنا أبداً التعويض والاستبدال والتغيير والإرجاع، لِما يضيع من عقول وأحلام وأموال، فكذبَ برأيي من يحادثك عن رجوع الأموال بعد ضياعها، التي أضاعت وراءها عقول الكثيرين، إثر أيّة صفقة خاسرة، فما بالكم حين سلبها من أي مواطن عنوةً؟ فدعونا إذاً، نقول بأنها مسألة غيبية وخلافية بيننا.
***
حضنت "اعبوده" بدفءٍ أحتاجُه لنفسي ، بدفء صيوف عشرين سنة، لم أرَه فيها، ساعياً إلى تعوّيضه عن برودة إحساس ودمّ من يتثاقلون عليه بأطنان (الصماطة) وتجشّمت عناء استنشاق رائحته النتنة، بعد أجّهشت إلا قليلاً.. ثمة في الجوار أحد يشير إليه، فدنا منا مُرحِّباً بـ"اعبوده" ومستفسرأ:
- صحيح باتك مات يا اعبوده؟.
- نعم.. الله يرحمه.
- راح سوّك في بوك = ياخذ سوّك بوك.
***
هل من أحد يرضى أن يلاقي أبٌ ربَّه، وهو محمّلٌ بسوء وسيئات ابنه؟.
لا بأس، طالما إننا لا نجيد إلا القول.. ولا نواسي بالقول الثائر بل المأثور.
لا بأس، طالما إننا اعتبرنا الحركة قول لا فعل.. فمن خلال حديثنا أحياناً ونحن نصف ما جرى بيننا وشخص غائب، يحدث دوماً أن نقول مثلاً: "لزّني.. وقالي بيده حل".. قالي بيده: يعني حرّك يده طارداً إياه.. وحركة اليد فعل، لكننا اعتبرناها وما فتئنا (قول).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*):عبارة ليهودي ليبي مطرود- وما خذا سونا- انتقلت إليّ بالتواتر.




1 تعليقات:

في 18 مارس 2013 في 3:10 م , Anonymous غير معرف يقول...

جميل جدا جدا....

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية