الخميس، 11 نوفمبر 2010

ضد الطبيعة

' نحن قومٌ ، نتناسب و نتصاهر عكسياً مع الزمن ، مع ثبوت الفساد و الاستكراد ، حتى نتلاشى '

من دون أنْ أتظاهر بالوطنية ، سأتظاهر اليوم في شوارع المدينة ، بنفسي ، فلست في حاجة إلى النقابات و الروابط المهنية و رابطة الكتّاب و الأدباء ، و لا إلى ما إليها من جهات رسمية أخرى ، فأساساً ، لست منضماً إلى أية واحدة منها ، و سأحمل لافتة مخطوط ٌ عليها : ( اسم الله علينا .. و يا ناري ع الغوالي .. و فرقتْ حالنا ) و ما إليها من عبارات أخريات ، قد سمعتها من عجائزنا المباركات ( المدروشات ) .. لم أهتف ، بل جعلت هتافي ، دندنتي لهذه الأغنية ، التي تتناسب طردياً ، مع ما هو مكتوب في لافتتي ، و تندغم معه إلى حدّ الطرب و الوجد :

' يا عيني ع المحبة .. و ع الناس الطيبين

اللي ذايبين محبة .. ما بين شوق و حنين

اللي امفارق غوالي .. و اللي سهران ليالي .. يستنى في الغايبين * '

تفصلني الآن ، مسافة عشر خطوات عن مبنى الباستيل ( البحث الجنائي ) المقابل لمدرسة شهداء يناير الثانوية ، و تمضي أمامي عجوز بصُحبة كريمتها ، و هناك شرطيان واقفان أمام مدخل هذا المبنى الإيطالي القديم ، يحرسان بابه الفولاذي ، و بمجرد أنْ اقتربتا منهما ، رأيت أحدهما ، يفتح أزرار قميصه العلوية ، و يدخل يده إلى صدره ، و هو يتكأ على قائم الباب ، و قد لوى عنقه نحوهما بزاوية 180 درجة ، مثل ذئب جائع ، أو خائف من مطاردة الكلاب له ، مطلقاً ( غنّاوة علم ** ) غرائزية الكلمات ، تعري المرأة من أخمص قدمها حتى جبينها ، و شعرها من الجذور حتى الأطراف - ليس لمنع التقصف - و قد ألحقها بمعاكسة : ' بنتك سمحة يا احويجة .. زوزيها ليا ' .. فالتفتت نحوه العجوز الأصيلة ، التي عرفت أصالتها ، من خلال ارتدائها لرداء عمل ، الذي بان ، بعدما سقط عنها جردها الأزرق المزلز بالأبيض ، فظهر عقد الفردغ في صدرها و التكليلة في أذنيها ، و قد خلعت قبقابها و مسكته في يدها ، التي ترن بصوت امفكرن الفضة ، وقد أمسكت بيدها الأخرى خصلة من جمتها المُخضَبة بالحناء : ' و اللهي يا منجوه .. لو عندي عشر بنات عور و حول و عرج .. ما نعطيك وحدة منهن .. خزيت و لعنت عليك و ع اللي رباك .. الحق مش عليك .. الحق ع اللي دارك شرطي .. تي و اللهي لو في أيدي سُلطة .. ما انحطك حتى باب ع الكلاب .. رعشتني الله ايرعّش بقاك ' .. انكمش مثل قميصه الذي يرتديه من دون كيّ ، و أطرق رأسه إلى ما بين رجليه ، مرّرت بجانبه ، و قد انحنيت ، لالتقط عشرة دنانير ملقاة من أحدهم على الأرض ، و أكملت مسيري ، صاح خلفي : ' يا شبوب راهن حقــّـاتي ' .. ردّدت عليه : ' حاجة في الوطا معش تنعطا .. أنت إنكان عندك عشرة اجنيه في جيبك .. راهو ما هضا حالك .. و مانك قاعد بوّاب ' .

***

' يا عيني ع المحبة .. و ع الناس الطيبين

اللي ذايبين محبة .. ما بين شوق و حنين

اللي امفارق غوالي .. و اللي سهران ليالي .. يستنى في الغايبين '

عاودت مطلع هذه الأغنية ، لأكثر من عشر مرات ، حتى بان أمامي مُدع ٍ ثقافي ، لا أراه من الناس الطيبين ، فقطع عليّ حبل غنائي .. ( لنقنه مش وقته بكل .. واحد مش امخطم عليه من الثقافة إلا جانب السخافة منها .. و ما عنديش له راس و لا اخلوق و لا انياط بكل .. ما أثقل دمه و خلاص ) أراه من بعيد كالشبح ، و هو وراء الصنم النصفي للرئيس المصري الراحل ' جمال عبد الناصر ' - خارجاً من مركز أبحاث و دراسات الكتاب الأخضر - قادماً نحوي و صرفي ، حاملاً في يده جهاز ( لابتوب ) - أهداه إليه وزير الثقافة ، كما أخبرني ، و أحدس بحدس الكاتب ، بأنه شحذه منه في طرابلس - يخزّن فيه صوراً و مقاطع ( فيديو ) فاضحة و فاسدة ، ما ينمُّ عن فساد في أخلاقه ، لا أودُّ أنْ يراني ، لأني حلفت مرة بيني و بين نفسي : ( لو نلقاه قدامي .. اندفه تاكو ) و هو الآن في شارع رئيسي ، سوف أهرب منه ، إلى أول شارع فرعي يقابلني ، فربما من سوء حظ ّهذا المُدعي الثقافي ، أنْ يكون ( مدعي عليه و املقط دعا شر و غضيب ولدين ) فيدخل هو الآخر إلى هناك .. هربت منه ، و من سؤاله المتكرّر ، الذي يطرحه عليّ دوماً : ' وينك ؟ كنك ما انشوفوش فيك في الأمسيات و الأصبوحات و الفجريات و القيلولات و العشيات الثقااااافية ؟ تي كنك عاطيها لروحك ؟ ' فابتسم له ، و أتركه من دون أنْ أجيبه ، فيظنُّ بأنني مُتفهيقٌ و متعالٍ عليه ، في حين ، أنني خجول ، و لا أريد أنْ تتحول علاقة المتلقي معي ، من قارئ إلى مستمع ، فأصبح عندئذٍ ظاهرة صوتية فقط ، و لا أجد نفسي هذه الأوساط ، التي أسّهمت في تناسبنا العكسي مع الزمن ، لجهة الكتابة ، فنحن في زمن وجوب الكتابة ، لم نكتب ، و صرنا نسخّر هذه المحتفلات للتأبينات ، التي نستطيع أنْ نقيمها في صالوناتنا و بتبرعاتنا الذاتية ، و خارج المباني الثقافية .. و حينما صارت الكتابة مغنماً ، بات الجميع يكتب .

هو ممّن يعلنون عن محاربة الفساد - مع أنه فاسد أخلاقياً ، و عليه أنْ يصلح من ذاته أولاً ، لكون فاقد الإصلاح لا يعطيه - و يطلب إليّ أنْ أذر المقالات الفنية ، و أكتب مثله في هذا الصدد ، فأجبته مرة :' بين الفساد و الإصلاح ، تكمن كلمة واحدة ' ، فظنّ بأنني ، أتهرب من هذا النوع من الكتابة ، فشرحت له يا عزيزي : ' كتبنا و ما كتبنا و يا خسارة ما كتبنا .. كتبت و لم أتجاوز الخطوط الحمراء ، التي قد تهيج علينا الديكة الرومية ، و الثيران ذوات القرون المنكسرة .. و تناولت موضوعاً بسيطاً .. يخصُّ العمارة المائلة ، و كذلك النافورة الصدئة التي في ميدان الشجرة .. و لم يهتم بكلامي أحد .. فما زالت العمارة تميل*** ، و النافورة تسيل قرفاً ' .. و أردفت يا عزيزي : ' طالما أنّ الهوّة ، لم تـُجسّر بين المثقف الليبي و السلطة التنفيذية ، فلا فائدة من الكتابة .. و سيبقى الفساد مستفحلاً ' .

فلو قــُضي على الفساد ، ماذا يتبقى لهذا المُسخـّف ، أنْ يقول يا ترى ؟ لذا أرى من الضرورة بمكان ، إخضاع كل من يدّعي الوطنية من الكتّاب ، لامتحان معايرة عام في الوطنية ، كي يتمَّ تأهيل الصادقين و إقصاء النفعيين و الوصوليين ، لكن المُلام ليس هو ، بل من أهداه الـ ( لابتوب ) .

في الزقاق الفرعي ، بحي ( السكابلي ) قابلني صديق عزيز على قلبي ، اسمه ' مودي ' جالساً أمام محله - لبيع المواد الغذائية - و قد ازداد وزنه عن آخر مرة رأيته فيها ، فدار بيننا هذا الحديث :

هو قبل أنْ أصله بخطوتين : ما زلت اتكعب ؟ .. يا راجل راك اضعيّف .. و ما فيش داعي للرياضة اللي اتدير فيها ؟ .

أنا : تي لا يا راجل .. أنا ما نمشيش بيش انذوب الشحم .. أنا نمشي بيش انذوب الهم و الغم .

هو : باهي يا سي .. ايش أخباركم ؟ و شنو صار في موضوعك أنت و هذك البنية السمحة ؟

أنا : أحوالي تمام .. بس حبيبتي عدت هي و أيامها .

هو : خير إن شاء الله .

أنا : ما اهناك إلا الخير .. خذاها مني واحد شايب .

هو : تاخذ سوك .. البنات زي الهم ع القلب .. بس عرّي على اذراعك .

أنا : اللي فيا ما اتعيبني .. و ما فيا سو .. لين نعطيه لها .. و تاخذه مني .

هو : ها ؟ لقيت عمل .. و اللا ما زلت اتدور ؟ .

أنا : لا .

هو : دوّر وتو تلقى .

أنا : ضحكتني يا مودي .. اللي في عمري توا .. تلقاه ايفكر في إجراءات التقاعد .. الله يرحم بوي اللي عقبلي ادكيكين نسترزق منه .. حالي خير من حال ناس واجدة .. و غنيت له :

ارحم بوي خلاني هــواوي .. كيف النجم في قلب السـما

***

دخل ' مودي ' ليعد ليّ فنجان قهوة ، تذكرت بعد حواري معه ، بقية حديثي مع ذلك المُدعي الوطني ، في أخر مرة التقيته فيها ، حيث إنه ألحّ عليّ ، لأجل أنْ أكتب في الشأن العام ، بعد أنْ أعلمني بأنّ الكتابة في هذا الصدد ، أصبحت متاحة للجميع ، و حقّ التعبير يكفله القانون ، و طلب إليّ أنْ أعطيه بعض من كتاباتي ، لكي يقوم بإيصالها إلى صحف ( تومورو ) خصوصاً بعد أنْ أصبح من يديرها ، هو الأستاذ ' سليمان ' - لا أتذكر بقية اسمه - القادم من عاصمة الضباب و الديمقراطية الأوربية ( لندن ) .. فقلت له : ( اجعني ما نفقدك .. بس نبي انقولك احويجة .. الكتابة الوطنية ، و التي تـُعنى بالشأن العام ، في عُرفي ، ليست غاية بل وسيلة ، و لا تنتج بأمر ، أو دعوة من أيٍّ كان ، فهي تشتجرُّ مع الكتابة الأدبية و الفنية و الذاتية ، و أبلغته أيضاً ، بأنني حينما أكتب في هذا الصدد ، فإنّ ما في قلبي على قلمي ، و لا أعتبر نفسي تلميذاً في مدرسة ، يكتب موضوع إنشاء عن فصل الربيع مثلاً ، ثم يقدمه للأستاذ ' المتصفح **** ' فيعطيه علامة عشرة من عشرة في التعليقات ، أو يمنُّ عليه أحد المسؤولين بجهاز لابتوب ، كالذي تحمله الآن ) .. و لأنه يعاني من عسر في التفكير و ثقل في رأسه ، مثل الذي في دمه ، لم يفهم شيئاً مما عنيت ، مما اضطرني لأنْ أطنب في شرحي ، و أنا أضع يديّ على كتفه العريض : ( اسمع يا ' ... ' الكتابة الوطنية تستلزم شروطاً قبل الخوض فيها ، و الحكاية ليست حكاية صحف جديدة ، و حرية تعبير و إنشاء ، فطالما لم تؤخذ كتاباتنا بجدية ، فلا داعٍ لها ، و ستظلّ مهمة هذه السُّخفِ المطبوعة ، هي احتواء الكتّاب ، كما صرّح مرة ' البوسيفي ' لا أتذكر أول اسمه .. و لك أنْ تتأكد بنفسك ، من أستاذك القادم من بريطانيا ، بخصوص العلاقة بين المثقف و الأجهزة التنفيذية هناك .. يا خويا راهو الجماعة يستكردوا فينا بالعربي .. تي افهم عاد ما اثقل دمك و فهمك ) .

عاد ليدّعوني للكتابة مجدداً ، فالفرصة مواتية برأيه : ما تلويهش يا خويا .. و ما اتديرش حكاية العمارة و النافورة سبلة .. و أنشد : ' داير حوش خواله سبلة يدهور و ايجي من قبله ' .. فأخبرته : و لأنني على الدوام ، ممّن يبحثون للآخر عن عذر ، احتملت أنْ يكون أمر إزالة تلك العمارة المائلة صعب جداً ، من الناحية الهندسية مثلاً ، لذا سأتناول في هذه الموضوعة ، بضعة أشياء في عدة مجالات ، لكني لن أنشرها في صحف ( تومورو ) لكن على مواقع الإنترنت ، و سأعطي السلطات التنفيذية مهلة طويلة ، لأرى و أياك ، إنْ هي فعلت فعلاً ملموساً بشأنها :

الكلام للقرّاء :

( 1 ) - اقتصادياً :

زمان ، كان يشتغل في محل ' مودي ' والده ، رحمه الله ، مثله مثل ، كل من يديرون المحلات آنذاك ، من كبار السن ، و كانت التجارة تسير على نحو طبيعي ؛ و كذلك الشاحنات الكبيرة ، وقتذاك ، لا يقودها إلا من هو فوق الخمسين سنة ، أما الآن فمن يدير هاتين الحرفتين ، هُم الشباب المتهورون ، الذين لا يكترثون لهذه المسؤولية ، و لا لأبسط قواعد القانون ، و يظلُّ الواحد منهم ، مقعداً كما المُعاق ، في مقعد القيادة أو في المحل ، ليوم كامل أحياناً ، ما جعلهم يصابون بالشيخوخة المبكرة ، و جعل البلاد تفقد شبابهم و حيويتهم ، فقد كانت التجارة ماضياً ، تمضي بشكل أفضل ، فلا مشكلات و لا ديون و لا غش ، و لا أي شيء سييء ، كذلك بالنسبة للشاحنات و الحافلات و سيارات الركوبة العامة ، لذا ، لم تكثر الحوادث و الجرائم آنذاك ، فالشباب في تلك الفترة الزاهرة ، كان كل همهم ، هو الترفيه عن أنفسهم ، بممارسة الرياضة و السفر و الهوايات جميعها ، فتجدهم أمام شركات الطيران العالمية ( الأولمبيك اليونانية ) و السويسرية ، و غيرهما من شركات عالمية ، كانت تزدان بها مدينتنا ، حتى اكتسبوا ثقافات عامة ، تندر عند الشباب العربي في الدول الأخرى ، و لأننا نمضي ضد الطبيعة ، تولدت لدينا ثقافات الرعاع بين فئة الشباب ، التي غـُيبت عن همومها ، نتيجة اللهث وراء كسب الرزق ، على حساب الثقافة و العلم و الإبداع ؛ فصارت ثقافة الشاب الليبي ، منذ أنْ يصل إلى السادسة من عمره ، هو أنْ يدرس ، ثم يتخرج من التعليم العالي ، بعد أنْ يبلغ عمره ( 22 أو 23 ) سنة - إنْ لم يفشل في تعليمه - و بعد ذلك ينضم إلى فلول المتدربين في العسكرية ، ثم عليه أنْ يذوق و يتجرع مرارة الوقوف في جيوش البطالة ، حتى يتحصل على عمل بالوساطة و المحسوبية و المحاباة ، ثم يعمل حتى يصل عمره إلى ( 35 ) سنة ، فيكوّن نفسه بعد هذه الرحلة العمرية الطويلة ، ليتزوج فقط ، ثم يبدأ بعد عملية ( تصفير ) الحساب من جديد ، لينشئ رأسمالاً جديداً ، بعد أنْ يستنزف ما لديه من مدخرات في مشروع الزواج ، ما جعل مفهوم تكوين المستقبل لديه ، هو الزواج ، في حين أنّ مسألة الزواج ، لا تستحق منه كل هذا العناء ، مقارنة مع الشباب في الدول الأخرى ، حتى المجاورة لنا و الأكثر فقراً منا .

***

( 2 ) - اجتماعياً :

أ - علاقات :

كان المجتمع ، لا يسمح بأنّ تعيش بين ظهرانيه امرأة عازبة ، أرملة كانت أو مطلقة ، فيهبُّ أفراده ليتزوج بها ، عملاً بما كان يعمل السلف الصالح ، و جبراً لخاطرها ، أما الآن فحتى العذراوات ، أصبحنَّ سلعة بالية في سوق البشر ، فمبالكم بالأخريين ؟ ففي تلك الآونة ، أسّهم الزواج من الأرامل و المطلقات ، خصوصاً ممّن لهن أولاد ، في كفالة الأيتام ، و من ثم ، في مدّ أواصر العلاقات بين العائلات ، و الوشائج بين القبائل الليبية ، بهذه المصاهرات ، حتى صار المجتمع في أغلبه ، إخوة و أخوات من الأم أو الأب ، و هي ظاهرة طيبة ، لكن بعد ما جرى ، تولـّدت العنصرية في هذا المجتمع ، و صار الليبيون يعيشون أزواجاً أزواجاً ، لا علاقة طبيعية ، و لا مجتمعية لأي زوج بآخر - فرقت حالنا - مقارنة مع الحمام .. و هذا مؤشر سيئ ، ينبئ بتلاشي المودة و المحبة مع مرور الزمن ، الذي نتصاهر معه عكسياً ، إذا استمر الحال على هذا المنوال .

ب - أخلاق :

' إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ، فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا '

شاهدت في ذلك الزقاق ، و أنا أنتظر القهوة ، شاباً من أبناء الجيل الجديد ، يقف مع فتاة - و هو يرتدي ( شورت ) قصير تنمو على ساقيه غابة من سفانا الشعر - هي أخت صديق له - كما أخبرني ' مودي ' حيث إنه أعلمني ، بأنه يقوم يومياً بهذا التصرف ، مستغلاً ذهاب أخيها لمحله التجاري ، فيخون صديقه ، و يستغل هذه الصداقة فيما لا يجوز ، و عندما سألت ' مودي ' : ' ليش ما اتهزبه ؟ ' .. أجابني : ' ما نقدرش انسيب الدكان .. و بعدين مش شوري .. ايتملحوا .. ايش دخلني بيها ' .. و هذه السلبية الاجتماعية ، ستسبّب أيضاً في تلاشينا مع الزمن إذا استمرت .

ج - أداب عامة :

إماطة الأذى عن الطريق آخر شعبة من شعب الإيمان ، و صارت الآن شيئاً غير مهم ، طالما أنّ الشركات التي تقوم بأعمال الصيانة ، هي من تزرع الأذى في شوارع المدينة ، بحفر الطرق ، وزرع المطبات - بدلأ من الأشجار - التي تعيق حركة المُعافين قبل حتى المُعاقين ، حتى ظنّ الجيل الجديد ، بأنّ هذا المشهد طبيعي و فطري ، و ليس منبوذاً في الأصل ، فاستمرأه .

فإذا استمرت هذه السلبيات التي اخترت لكم جزءاً يسيرا منها ، فهذا يعني أننا بحق نتناسب عكسياً مع الزمن ، فهذه الأمراض لم تكـُن معروفة لدينا ، من قبل ، و عندما تقدّم الزمن إلى الأمام خطونا إلى الوراء

***

تركت ' مودي ' يلتهم رقائق ( التشيبس ) - المحمض بملح الليم و الجبنة و الكاتشاب - أمام محله ، و أكملت تظاهرتي في الأزقة و الشوارع الخلفية لبنغازي ، و في أحد الأحياء مرّرت بمجموعة محلات تحت مبنى واحد ، لكل منها نشاط مختلف عن الآخر : ( صيدلية - سمكري سيارات - قصّاب - حلاق - مزين للنساء - تغيير زيوت سيارات ) ما يدلّ على العشوائية ، التي تعاني منها المدينة في التنظيم ، التي من شأنها ، أنْ تسبّب في عدة مشكلات لا يحمد عقباها ، هو مشهد مألوف و موجود في أحياء كثيرة من المدينة ، و بات غير غريب ، و نظراً لضيق ذات اليد ، يدير هذه المحلات شباب ، ما عدا مزين النساء طبعاً ، الذي تعمل به مجموعة من البنات ، لقد كان - و مازل في اعتقادي - أنّ خروج المرأة إلى العمل ، دليلاً على الضائقة الاقتصادية للمجتمعات ، خصوصاً من شريحة الفتيات غير المتعلمات و غير المتزوجات ، اللائي يعولنّ أسرهنّ ، لكأنك في حارة من المجتمعات المنهارة أخلاقياً ، و أنت تستمع إلى ما يخرج من ورشة سمكرة السيارات ، التي يسيل الزيت على مصطبتها الإسمنتية المنحدرة ، صوت مغني ( بحبك يا احمار ) و من القصّاب نشرة أخبار إذاعة الجماهيرية ، و الحلاق يبث أغاني الشاب خالد ، أما مزين النساء ، فيصدر من داخله ، غناء فنانة شعبية ، تغني ( غالا غالا .. عرف قلبي قبلك كثير وغالا / غالا غالا .. لكن شهادة كيف زولك لا لا ) .. فجابهت هذه الأغنية بأغنيتي التي كنت أدندن بها ، و فرّرت من هذا الضجيج و قلة الحياة بعيداً ، و قرّرت ألا أعود إلى الخوض في غمار هذه الكتابات - من غير سو - حتى تغيّر تلك الجهات نظرتها إلى هكذا كتابات ، لأني أعلم بأنها لن تكترث بما كتبت ، و يكتب غيري من الأساتذة ، ما عدا ذلك المُدعي ، الذي ينتظر أنْ يمنحوه سيارة كورية الصنع في القريب العاجل ، بعد أنْ يأخذ الترتيب الأول في مادة التعبير عن موضوع ( الوطنية ) قسم المشاهدات السلبية ، لكي يجمّل وضع الكتابة في بلادنا أمام الأجانب .

***

عود على بدء ، ما زلت أصرُّ على أننا قوم نتناسب و نتصاهر عكسياً مع الزمن ، مع ثبوت الفساد و الاستكراد ، حتى يفضَّ الأخير عقد السفاح بنا ، فإما أنْ تكون علاقتنا به طردية ، و تمثل على المنحنى البياني في شكل خط مستقيم ، و إلا فلا ضرورة لها ؛ و خير دليل على صحّة تصوري ، أننا في الوقت الذي يجب أنْ نبني فيه الثقة بين المثقف و السلطات التنفيذية و التشريعية ، نتحدث عن حرية التعبير ، التي نراها مكتسباً ، و حتى إنْ كانت كذلك ، فقد جاءت متأخرة ، ثم أنّ حرية التعبير في الأصل ، حقّ تكفله الطبيعة ، و لا لأحد الفضل و الجميل فيه علينا ، هذا ما يفترض بنا أنْ نعيه ، قبل أن تستمر الحال على ما هي عليه ، و نـُمثــّـل في علاقتنا مع الزمن على الرسم البياني عند نقطة الأصل ( 0 ، 0 ) و إنْ استمرت بعد ذلك ، فسوف نسفل تحت الصفر ، و نقاس بسوالب الأرقام و شذوذها و شواذها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( * ) : كلمات الشاعر الغنائي الليبي : يوسف بن صريتي .

لحن الموسيقار المصري الراحل : سيد مكاوي .

غناء المطرب الليبي : جلال أحمد .

( ** ) : لست أعرف من أين جاءت هذه التسمية ؟ فما يسمونه بغناوة العلم ، عبارة عن بيت شعري ، يختزن و يختزل العديد من المعاني ، و يلقى بطريقة خاصة ، فأنّى له أن يكون أغنية ؟ فالأغنية في أبسط قواعدها مؤلفة من مطلع و كوبليهين ، أوجه سؤالي إلى المثقفين الذين انصرفوا إلى تجميع هذا غناوي العلم .

( *** ) : رأيت منذ يومين طفلاً ، يبيع التبغ أمام تلك العمارة المائلة ، فيبدو أنه وجد في الرصيف الخاص بها ، مكاناً إستراتيجياً و تجارياً ، خصوصاً و أنها ، تتوسط أكثر من ثلاثة مقاهي ، زبائنها يحتاجون إلى هذه السلعة التي هي قرينة الدخان بكل تأكيد ، و هو لا يدري بالخطر الذي يتهدده ، فطالما أن الإخوة لا يريدون هدم هذه العمارة ، فعليهم على الأقل ، أنْ يضعوا أمامها لافتة : ' لا تقف هنا ' أم أنّ حتى هذه صعبة ، لا فسوف لن أجد لهم عذراً على ذلك .

( *** ) : أعتبر المتصفح معلماً بتصوري .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية