الخميس، 11 نوفمبر 2010

أجواء بنغازية

اليوم السبت ، أنا الآن في طريق عودتي ، من ميدان الشجرة إلى حيث سُكناي ، و قفت هناك ، لأستقل حافلة صغيرة ( باص ) و كلما مرّت بحذوي سيارة ممتلئة ، و أشارت إليّ بأنوار مصابيحها الصباحية ، أجعلها تـُكمل مسيرها ، من دون أنْ التفتّ إليها و لا أعطلها ، و بعد مرور قرابة عشرين سيارة بهذه النوعية و الكيفية ، يئست من إيجاد سيارة شاغرة المقاعد ، و أشرت إلى واحدة من الممتلئات ، كان هناك محل ليّ بجانب القائد و شاب بجانبه ، و عندما فتحت الباب لأصعد ، نزل ذلك الشاب ، و قال ليّ : ' تفضل جوّه ، أنا نازل قبلك .. بيش ما انتعبكش .. بعد نبي ننزل ' - ردّدت عليه ساخراً في قرارة نفسي : ' باهي يا اطروح ' - هي طريقة عادةً ما يقوم بها الجالس بقرب السائق ، و لم أجد لها معنى ، سوى أنها تدلُّ على الأنانية ليس إلا ، عموماً نزلت في محطتي قبله ، ما جعله ينزل للمرة الثانية ، و يصعد من جديد ، فابتسمت بسُخرية ، دونما استهزاء ، فقال ليّ :
- كنك تسّهوك ؟ السّهوكة راهي للبنات .
- من اهبالك ، إنكنك من البداية .. خشيت جوه .. راك ما تعبت هالتعب كله .. و راك ما نزلت من الحافلة بكل .. لكن هذي الأنانية امتاعك .. أنت تبي اتكون جنب الروشن .. و ما تنزرش في النص بس .. و الحكاية مش حكاية جنتلة .. و إثار على النفس .. يا اطروح .
و هذا الحكم ليس انطباعياً و لا عبطياً ، فالشابُ ذاته ، صلى معي صلاة الجمعة ، و كان قاعداً بجانبي ، أثناء الخطبة ، في جامع ( بن كاطو ) عند سوق الحوت .. و لما تقدَّم المصلون ، لتكملة الصفوف الأمامية .. بلاحت ثغرة في الصفّ ، الذي أمامنا مباشرةً ، و من ناحيته هو تحديداً .. فوضع يُمناه على كتفي الأيسر ، و بسط راحة يُسراه ، قائلاً ، بابتسامة كريمة : ' تفضل يا شاب .. سد الفـُرجة .. بارك الله فيك ' و قد كنت سأقفز عليها من دون جميل منه .. و لما قــُضيت الصلاة ، و بدأ الناس ينتشرون في الأرض ، و بينما كنت على باب المسجد لأخرج ، و إذا بيدٍ ، تقع على كتفي الأيسر ، فالتفتّ لأجده هو عينه ، نظرت إليه ، و انتظرت منه ابتسامته الحانية ، و إطلاق يده اليُسرى أمامي ، لكنه دفعني بيُمناه من كتفي إلى الوراء ، و وضع يُسراه على حاشية الباب ، و اندفع قافزاً ، كما غزال جبلي رشيق ، خارجاً قبلي .
المسكين ، لم يكـُن ليعلم بأنّ السلف الصالح ، كانوا يتدافعون إلى حدّ المداعكة ، لنيل أجر و ثواب الصلاة في الصفوف الأمامية ، و أنهم كانوا يتكاسلون عن الخروج من المسجد .
***
من عمارة ( بوشاقور ) مدّدت ذراع نظري إلى مقهى ( سي داوود ) و أنا عائد من رحلتي اليومية الصباحية ، التي غالباً ما تنتهي ظهراً ، فوجدت ' حمّادي ' يقف أمام المقهى - واضعاً قدمه اليُسرى على حائط المحل ، و سماعات الـ ( هتفون ) على أذنيه - في غياب ' باسط ' الذي عادةً ، ما يأخذ قسطاً للراحة في هذه الفترة ، و يترك المقهى مفتوحاً للشباب الموثوق فيهم ، مثل ' جمعة ' و ' عبدو ' و ' حسن ' و ' حنفي ' و ' صالح ' ليقضوا فيه وقت فراغهم بمشاهدة المباريات ، و الأغاني في قناة ( روتانا ) - هم يشعرون بالسعادة لغياب ' باسط ' في هذه السويعات ، و وجود أخيه ' علـّوة ' المنفتح على هذه الأمور ، بعكس أخيه المُتشدد - و يعصرون رحيق الماكينة كما يحلو لهم ، و من دون أيِّ مقابل ، شريطة ألا يقفوا أمام المقهى ، و ألا يتحرشوا ببنات مصرف التجارة و التنمية ، و لا بعابرات سبيل شارع جمال عبد الناصر - و خاصة منهن ، المارات في الاتجاه العكسي للسيارات - و أنْ يحافظوا على سلامة ( الماكينة ) و ينظفوا أثار ما يتركونه .
' حمّادي ' شاب يحاول بقدر المستطاع ، أنْ يجعل من نفسه وسيماً في عيون البنات ، ففي كل عام يختار لنفسه ( لوك ) جديداً ، و نحن الآن في سنة 2010 و قد أطال شعره و دهنه بمحسنات الشعر الطبيعية و الصناعية - و ربط ذيله بـ ( أستيك مقلاع ) لم يخسر فيه شيئاً ، إذ وجده مرة ، ملقى أمام مدخل مصرف التجارة و التنمية ، و عندما تلقفه من الأرض ، و اشتمه ، فاحت منه رائحة الأموال ، فأراد أنْ يعطر خصلات شعره بهذه الرائحة - فصار كما المكسيكيين تماماً ، أحسّست بأنه سيقوم بفعلة مشينة ، لذا ، عدت إلى بيتي من منتصف الطريق بمحاذاة الجامع ، تفادياً للاصطدام به .
عرّجت - بُعيد صلاة المغرب بقليل - على المقهى حاملاً لـ ' باسط ' بعض حبيبات شجرة التين المغروسة بفناء بيتنا ، فقام بغسلها ، و وضعها في صحن من اللدائن ، مرسومٌ عليه بعض الفواكه - اشتراه من معرض شاطئ السنابل - و تناول منه اثنتين فقط ، و ترك الصحن على ( بوفي ) المحل في متناول الجميع ، فبدأ الأطفال يتوافدون على المقهى ، بعدة حُجج واهية ، و ذرائع جائِعة ، فواحدٌ يريد أنْ يشرب ، و آخر يبحث عن أبيه ، و في الحقيقة ، هم طامعون في تناول هذه الفاكهة اللذيذة و المباركة ، شقيقة الزيتون و النخل و العنب ، فأخذوا حصتهم منها ، ثم دخل مجموعة من الجيران كبار السنّ ، الظاهر أنهم اتفقوا فيما بينهم ، على أنْ يجتمعوا في المقهى - الذي صار منتدى للجميع ، بعد الصلاة ، فالكلُّ يعرف الوقت المسموح له بالمكوث فيه ، ففترة الصباح للدراويش ، و الظهيرة للبطّالين و المُحالين على المركز الوطني ، و بين المغرب و العشاء للشيوخ ، أما فترة السهرة ، فهي لأصدقاء ' باسط ' خصيصاً ، من دون حتى طلب المشروبات ، المهم أنْ يلتزم الجميع بالآداب العامة ، و المحافظة على النظام ، و منع الخوض في أعراض الناس ، بقدر المتاح ، و عدم السماح بالعبث بجهاز ( الرمونت كنترول ) فهذا الشيء الوحيد ، الذي لا يسمح صاحب المحل بتجاوز فيه - لأجل أنْ يذهبوا معاً ، إلى مأتم جار قديم لهم ، انتقل إلى منطقة أخرى ، و إلى رحمة الله ، بعد أربع سنوات من ذلك ، فدخل عمّي ' المريمي ' و الحاج ' اقدوره ' و الشيخ ' مفتاح ' و ظلوا ينتظرون الحاج ' سليمان ' فقدّم لهم ' باسط ' ما تبقى في الصحن من التين و ( طاحوا فيه بعيونهم ) و دعوا أنْ يرزقه الله ببنت الحلال - و لم ينـَل صاحب الفاكهة من دعائهم نصيباً - ثم قرأ عمي ' المريمي ' الفاتحة له ، و على روح المرحوم ، و أمّن وراءه ، الحاج ' اقدوره ' و الشيخ ' مفتاح ' .. و ما هي إلا لحظات حتى خرج ' باسط ' مسرعاً ، و مثل البرق عاد خلف الماكينة ، و من حرارة مائها ، كان يغلي في صمت و انتظار ، حاولت أنْ اسأله ، بعد أنْ أدرت له يديّ ، بقاعدة البريمة لليد اليمنى ( حينما يكون الإبهام إلى أعلى ) فغمزني بعينه ، و أشار إليّ بطرف لسانه نحو الضيوف ، بقصد انتفاء إمكانية الحديث ، مرّرتها له ، لأني أعرفه جيداً ، فهو دائماً ، يحاول أنْ يُظـّهر نفسه ، الوحيد الذي يعرف أصول الحديث و أدب الجلسات .
( بيب بيب بيب ) صوت مزمار السيارة ، ' لا حول و لاقوة إلا بالله ' قالها ' باسط ' في انزعاج ، فوق انزعاجه الأول ، فردّها عليه الحاج ' اقدورة ' : ( وسع بالك يا اوليدي .. هذا راهو إلا ' ونيس ' وصل هو و الحاج ' سليمان ' .. هيا يا ' المريمي ' و أنت اتكركر في عقابك و تنعس .. هيا يا جماعة .. سقـّدوا ارواحكم عاد ) .. و في لمح البصر ، خرج ' باسط ' بكوبي شاي أخضر لمن في السيارة ، و دعا لهم بأنْ يصلوا سالمين ، و أنْ يعتذروا له ، من أبناء المرحوم ، لأنه لم يستطِع مجاملتهم ، على الرغم من أنه ، قد حضر مراسم الدفن ، فأخبره الحاج ' سليمان ' : ( يوصل اعتذارك بعون الله .. و خلاص دوبينك حضرت الجنازة يكفي .. و أنت عارفينك ما اتغيبش .. زيك زي الأستاذ ' فيصل فخري ' .. في كل سهرية ماد وجهك .. ربي ايطول في عمرك يا باتي ) ثم أخذ ' باسط ' على جنب ، و انهال عليه بجسده ، ليسرََّ إليه : ( ما تنسش الولية من الكرموس .. راهي اتوحم عليه .. و عمك سليمان راتبه ما نزلش .. و معش قدرنا حتى على شراء الكرموس .. رخيص لبضاعة ) .. فوعده ' باسط ' بـالكرموس ، اتقول خاسر فيه حاجة من جيبه ، بعدما ردّ : ( يا سي سليمان الدعاء هذا ما انحبش .. لنقنك قول .. ربي ايطيحك في بنت حلال امسقمة ) فضحك الجميع ، و أمنوا : ( آآآآآآآآمين ) بما فيهم ' باسط ' ثم دخل إلى مقهاه منتشياً بهذا الدعاء ، و أخرج علبة عصير الريحان بنكهة الخوخ و ( قرطعها ) في جرعة واحدة ، و رمى بالعلبة الفارغة في سلة المهملات ، التي تبعد عنه بمسافة أربعة أمتار ، فأصابت عمقها ، لكأنه يختبر مهارته في لعبة السلة ، فصرخ : ( واااااااااااو .. و ايقولولك النصر أحسن من الأهلي في السلة ) ثم أصدر زفرة حرّى ، حقداً على مشجعي نادي النصر ، و خاطبني :
- يا ازويدة .. لنقني ما عنديش روح مع الشيّاب هذوما .. و انقولك حاجة .. ما اخسارة فيهم شي .. و ما تنسش بكره اتجيبلي معاك .. كيلوين كرموس .. و أنت جاي في الصبح .. هذه لم تعجبني منه ( يجنتل على حسابي ) .
- حاضر يا ابسوطة .. حتى أنت ما اخسارة فيك شي .. بس ايدك على البطمة .. عطيني خمسة اجنيه .. نبي نمشي انجدد بيهن اشتراك النت في كفي البلابل .. اللي في الرويسات الجميل .. و انكسد مع الشباب غادي .. و زيدني خمسين قرش أخرى .. مرات نلقى الخط فاصل عنده .. و انعدي لكفي شارع فياتورينو .
- ( باهي .. بس اللي تطبعها .. جيبلي منها نسخة من المسودة اللي بخط يدك .. و ديرلي عليها توقيعك السمح .. اللي يمسح الكبد .. و هاك عشراية .. راهو ما اخسارة فيك شي * ) .
- امنور يا ابسوطة .
- خطرها .. و النبي كيف حال الأصفر ؟ .
- ما زال أصفر .. و ما غيّرش لونه .
- ما تنسش الكرمووووووس .. امتاع سيدك ' سليمان ' .
- تي باهي يا سكنان .. و أنت سريبك ما ايفض بكل .. أشر من سريب ' أحمد الفيتوري ' .
- من ' أحمد الفيتوري ' ؟ .
- واحد ما تعرفش .. و جوّه ما يركبش على جوّك .. و أنت كل حاجة داك فيها خشمك .. ريّح روحك .. راهو اتجي على خشمك لسّود لنوّد .
- لا معناها فكـّني منه .
الأحد مساءً .. ظهرت من البيت بكيس مليء بـالتين ، و وصلت إلى ' باسط ' بعد مسافة زمنية مقدرة بثلاثة دقائق فقط .. و قد ذهب نصف وزنه على أطفال الشارع .
- آسف يا باسط .. ما اقدرتش نمسكه ع العويلة .. هضا اللي فضل منه .
- شجرة الكرموس مباركة .. و خير واجد يا خويا .. هي مش مونة .. لكن القصة قصة وحم .
انتقى ' باسط ' حبتين منه على حِدة - لأحد القادمين مودة ً- و وضع الكيس في ثلاجته الخالية من المياه ، التي تذكرك بثلاجات بيوتنا الخالية من كل شيء ، سوى الثلج و البخار و ( رباطي ) البصل و المعدنوس و علبة الطماطم و الزيت فقط .. الوقت الآن بُعيد المغرب ، و قارب موعد قدوم ( شيوخ ** ) المنطقة ، فجّهز لهم ' باسط ' مقاعده الفاخرة و الأرائك ، ثم أخرج صحن من التين لهم ، و فجأة عدل عن رأيه ، و هو يحدث نفسه : ( يا ودي خذوا قرعتهم أمس .. تو يرقى عليهم العسل .. و يعسلولي هنا .. و اليوم في مباراة سمحة .. يبوا يحضروها معايا اعويلة طاب لنا *** ) .. ثم نظر إلى الخارج ، فلمح خيال شخص ٍ بالجوار ، فأعد له كوب ( مكياطة اسبشل ) و أضاف إليه ملعقتي سكر بنات ، و رجّه كي يمتزج السكر بالبن و الحليب ، ثم ضرب قاعها بقاعدة الـ ( بوفي ) و لحس الـ ( رغوة ) التي علقت في أصابعه ، مُصدِراً - مع إغماضة عينه اليُسرى - مؤثراً صوتياً تعلمه من أمه ، حينما تلحس أخر لـُقيمة من ( قصعة لوح ) الحساء الدرناوي ، الذي تجيد إعداده ، فعلقتُ عليه :
- الحركة هذه ايديرن فيها الصبايا .. لما ايذوقن طعم الحناطة .. مش الحلاوة .. يا امبلد .
- ابتسم ابتسامة ماكرة ، و علـّق على ما علـّقت :
- هذي للصامط اللي قاعد بره .. و ناقصته الحناطة .
- قصدك من ؟ .
- حمّادي .
لم أخرج وراءه ، لكنّ النقاش الذي دار بينهما ، وصلني بـ ( التاء و الباء ) على الرغم من محاولة ' باسط ' التحكم في ارتفاع ذبذبات صوته :
- يا حمّادي .. مش قايلك أنا من قبل .. معش اتصبي هنا .. خاصة في الوقت اللي أنا امخصصه للشيّاب المصوطين .. يا اصويمط .
- امغير كنك يا ابسوطة ؟ ديما امشهدر بيا يا راجل .
- و اللهي أنت اللي امشهدر ابروحك .. سمعتك أمس فيش اتقول للبنت اللي خطمت .. امغير تحشمت انهزبك قدام الشيّاب .
- و اللهي ما قلت حاجة .
- سمعتك يا راجل ، اتقوللها : ' نجّك ليا .. و يانا عليا منك ' .. شكلك خشيت على قراية روايات الأصفر ؟ .
- و راس أمي ما صارت .. راني ولد ابلاد .
- ايتهيالك .. ولد البلاد الأورجينال ما ايديرهش .. و تحلف أخرى .. لنقنك كذاب و املاطعي .. تي عيب عليك يا فاشل .. راني نعرف الصياعة من أيام نخل البركة .. تعرفه وين ؟
- لا و الله .
- عرفت الطريق السريع .. اللي بين العيساوي و السبالة .. اللي اتزر عليه بسيارة باتك .. من غير ما اتسمي ( بسم الله ) هذي كانت زمانات .. جبانة ( الصحابة ) .. و كانت كلها نخل .. و نا راني متمرغد في طينها في العرايك .. و ذايق من حلاوة بلحها و رطبها و نخلها قبلك .. يعني ذايق من حلاوة البركة و الصياعة من قبلك .. و مع هضا .. ما عمريش أنا و جيلي .. صبينا في شوكة .. وعاكسنا البنات .. وأنت ابروحك اتشوف فيا .. ما عمريش قمعزت قدام المقهى .. و اللهي الله .. لو نلقى حتى اللي قاعد جوه توه .. امقمعز بره .. انقوله : حل .
- و اللهي يا ابسوطة .. اندير هكي من القلق .. سامحني يا خويا .. و ما تغلطش في زياد .
و بسرعة قام ' باسط ' بفتح كتابي صحيحي ( البخاري و مسلم ) المطبوعين في رأسه ، و انتقى له منهما خمساَ و عشرين حديثاً صحيحاً ، و بعض آي الذكر الحكيم ، و قام بنصحه بالترهيب و الترغيب ، لكأنه على منبر مسجد العيساوي .. إلا أنه في ( شوكة ) الشارع ، لذا أضاف إلى هذين الأسلوبين شيئاً من ( التخزريط ) و ( التهويب ) بقبضة اليد من دون ( بهبرة ).. فخرجت إليه و أرجعته إلى مقهاه :
- يا ابسوطة .. مالك و ماله يا را ؟ .. هضا واحد صايع .. و راك تحصل فيه .
- يا زياد .. هذي مش اصياعة .. هذي قلة حياة .. زمان قمعزت غادي - أشار بيده إلى المصطبة التي أمام بيت شيخ الجبل رحمه الله - كنت جاية في استشارة شعرية ، فطلع عمّي شيخ الجبل من حوشه .. خطم واحد .. وقعد ايصفر .. جا عمي شيخ الجبل لزّه .. قلتله يا سي السيد ' بومدين ' .. ما اتديرش راسك ابراسه .. راهو هضا عيل صايع .. قالي يا ابسوطة .. الفسّاد ( حاشاك ) نوعين .. في فاسد أخلاق .. و في فاسد فكر .. و العيل هضا .. فاسد فكر .. و راهي الصياعة مش ساهلة .. راهي حتى هي فيها فنّ .. زي فن المرسكاوي بالزبط .. خوذ كلامي هضا قاعدة منهجية لك في الحياة و كتابة الشعر .
' باسط ' شاب حنون و ( مش صاحب موجعة و لا سيّة ) لذا أحسّ بأنه تحامل و قسا كثيراً على ' حمّادي ' ، فعاد و سخـّن كوب المكياطة بدفء حنانه ، و أضاف إليها الملعقة الثالثة من السكر ، و أخرج حبتي ( الكرموس ) اللتين أدّخرهما مودة ً للقادم ، و أعطاهما لـ ' حمّادي ' بعد أنْ قرأ عليهما ، سورة : ' و التين و الزيتون و طور سنين ' و دعا له بالصلاح .. فقام المهزب بالاعتذار ، و بتقبيل رأسه ليسامحه ، و يده احتراماً له ، و وعد ' باسط ' بألا يعود إلى هذا التصرف الشائن ثانية ً ، و قال لباسط :
- امنور يا ابسوطة .. على هالبسطة السمحة .. اللي بسطتلي بيها حاجات واجد .. لنقنكم جيل غيرعادي .. و معليش .. يا ريتك تكتبلي الآيات و الأحاديث اللي قلتهن ليا امبدري .. و اللهي خشن خاطري .. و ما هن عاديات بكل .. و تعطيني امعاهن من الكرموس أخرى .. مع أني ما كنتش انحب الكرموس بكل .. أصله ايتلصق في الأيدين .. و ايعطش فيا .. لما انصبي في الشوكات .
- الآيات و الأحاديث مقدور عليهن .. بس الكرموس .. و اللهي كمل .. نوعدك بيه بكره .. لو عطانا الله عمر - رد يجنتل على حسابي - بس ليش ؟ .. ايش تبي في الكرموس؟ .
- خلاص مش مشكلة يا ابسوطة .. تو ناخذ منه اقريمة .. و الباقي ( كرموسة و نص ) نبي انشيله للصياع .. اللي قاعدين في شوكة منشأة البحر المتوسط سابقاً ، و تحت عمارة الصفطية .. نعطيهم منه اقريمه اقريمة .. واللا حتى اتشيشة اتشيشة .. بالكي ربي يهديهم .. بعدما ايذوقوا من حلاوة و بركة البركة .. اللي ما طقـّوش فيها .. بس حكاية المرغدة في الطين هذي صعبة .. و ما نوعدكش بيها .. توا قعدت قطران في كوالينا .
دخل ' باسط ' إلى مقهاه منتشياً دامعاً العينين ، يحدث نفسه ، متجاهلاً وجودي ، و وجود الزبائن الذين دخلوا إلى المقهى و غادروا ، و قمت بإحصاء عددهم ، و ضربته في ثمن كوب المكياطة الواحد ، فوجدته ( عشرين ) ديناراً ، معتبراً بيقين ، أنّ الحسنات التي ستكتب له عند الباسط القدير ، أفضل و أبقى ، جرّاء هدايته لهذا الـ ' حمّادي ' لكأنّ أبواب السعد صارت مشرعة أمامه ، هو هكذا دائماً ، أكثر ما يسعده أنْ يقوم بعمل الخير ، عندما يخرج بعضاً من ( دراه الكبد ) الذي يستضيق منه خاطره ، قائلاً : ( الحمد لله على أية حال ) .
خرجت من عنده :
- توصي على حاجة يا ابسوطة ؟ .
- سلامتك .. ابرم بكره .. راني اموتيلك 200 عدد من مجلة العربي و طبّب نفسك .
- ردّدت عليه جهراً و سُنياً : شكراً يا ابسوطة أجعني ما نفقدك .. و في سرّي شيعياً : جيب العربي و الأخرى خليها عندك .. و طبّب نفسك أنت بيها .. يا فسري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) : هو يتوقع أنْ أكون كاتباً جيداً في يوم ما ، لذا يريد أنْ يحتفظ بنسخ كتاباتي بخط يديّ ، ليبيعها في يوم آخر ، لذا قلت له : ' طبّب نفسك ' فقد انتهى زمن الكاتب النجم .
( ** ) : لا أعني بها المعنى الديني ، لكن المرحلة العُمرية .
( *** ) : حي ( طابللينو ) .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية