السبت، 9 أكتوبر 2010

صور رمضانية ( 2 / 2 )


في يوم الاعتداء على الصحفي 'محمد الصريط' : 21 رمضان 1431 للهجرة31 / 8 / 2010 ميلادياً
بعد الإفطار مباشرة، توجهت من فوري نحو المطبخ، لجلي الصحون المُتسخة التي يعجُّ بها، باراً بوالدتي، التي منحتني أجازة الإجادة في هذه المهمة الصعبة على الليبيين من الرجال، التي لايحسنون القيام بها، إلا في مطاعم وبارات أوربا وهم يلبسون القفازات، حينما صرّحتْ: 'الصلاة ع النبي عليك..أنت مش كيف خوتك.. اللي لما الواحد منهم ايخش للكوجينة.. ويبي ايدير روحه ايساعدني.. ايرحّوس الدنيا.. ما شاء الله عليك.. وربي ايحط ايدياتك في حنة الجنة.. وايفكك من ذراري الحرام.. حتى اعدالة الشاهي لما اتمصمصها.. يقعدن البراريد و اللقامة و السخّان والمحبس يشّاكعن.. والطواسي ايتلاصفن.. اتقوليش!'.
في الحقيقة، لم أتحصّل منها على هذه الإجازة، إلا بعد ثلاثة أيام من الجلي، حيث واجهتني صعوبة في بدء الأمر، بدت واضحة في أنها، كانت تستغرق مني ساعتين في كل يوم منها ، حتى أنّ الـ (ماما) كانت تطلب منّي ترك الصحون وشأنها، والجلوس مع العائلة، لتناول شاي الإفطار، لأنها في الأصل، لا تحبُّ أنْ ترى الرجل يعمل في المطبخ، ويمتهن مهن النساء، وترى في ذلك حطاً من شأنه، فقلت لها في قرارتي: 'هابا.. لو تمشي لسوق الحوت واتشوفي اللي ما يخطر على بالك.. هناك ستجدين من يخلل المصير، و من ينقع الزيتون، ومن يصنع الحلواء بأصنافها كلها، بل أنك لو ذهبت إلى هناك، ستجدين حتى من يكسكس السميد، ويبيعه كسكسواً في قراطيس'.. ولكنها إزاء إصراري وإثباتي لمهارتي، منحتني شرف الجلي، بعدما نظّمت نفسي، وصرتُ أستعمل محبسين صغيرين، كي لا أهدر الماء والصابون في غير وجهيهما، محبس أضع فيه كمية من الماء فقط، وأغطس فيه الصحون المُلطَخة بالدهون، ثم أقوم بشطفها سريعاً، ويبقى جزءٌٌ من الدهون عالقاً بها، أحوّلها فوراً إلى المحبس الثاني، الذي فيه فقاعات الصابون، لأجليها بطريقة جيدة مستعملاً الليفة، حتى أتخلّص من الدهون و الأوساخ و الأدران كلها، ثم أضعها رأساً على عقب (مكفيةً) على المرمرة، حتى أتمَّ مهمة التنظيف، ومن بعد يأتي دور تمرير الماء عليها، أما الأواني المعدنية، ومنها (اعدالة الشاهي والسفر الألومنيوم) فأتركها في نهاية المطاف، بعد أنْ أضيف إلى المحبس الثاني، كمية بسيطة من المبيض (البوطاس) وأدّعكها بليفة ألومنيوم، حتى تنكمش جلدة أصابعي.

أثناء جليي لهذه الصحون، كنت أستمع إلى المذياع، الذي نسيّتْ والدتي إخراسه، وصادف سماعي، برنامج مائدة الرحمان، عفواً أقصد مائدة الإفطار، من خلال برنامج إذاعة بنغازي المغلية، أنْ تخلل البرنامج إعلانٌ عن بشرى سارة، تمثّلت في حفل فني ساهر كبير، سيقام في الملعب الجانبي مساءً، يشترك فيه مجموعة من المغنين الليبيين، ثم أعلنت الإذاعية عن أنّ ضيف شرف هذا الحفل، هو مطرب الجيل، صرخت فرحاً، لكوني قد ظننته صاحب اللقب الأصلي، الفنان الليبي 'أحمد فكرون' فهو الذي كان يُعرَف بهذا اللقب محلياً وعربياً، مثلما المطربة السورية 'ميّادة الحناوي' التي لُقبت بـ 'مطربة الجيل'.. غير أنّ دهشتي سُرعان ما تحولت إلى حسّرة، حينما أردفت المذيعة: 'ضيف الشرف سيكون الفنان المصري ثامر حسني.. مبارك'.
أقفلت المذياع بلكمة وكلمة 'يا خسارة'.. ثم انصرفت إلى مقهى 'سي داوود' هناك وجدت 'علاوي' شقيق 'باسط' يقوم بتسخين الماكينة المكياطية، ويضع فازوات شكولاطة نونتيلا والعسل الصناعي في صناديق، جلست إلى جانبه، حينئذ دخلت عجوز في إثري، وسألته :
- ها يا علاوي.. وتّيتلي اللي وصّيتك عليهن؟.
- لا واللهي يا خالتي ارقية.. لنقني انسيتك بكل.
- عارفتك يا باتي.. ما عمرك درت فايدة.. اجعنها ما تنقال من بعد ابسوطة لمسقم.. اللي عامنول (العام الأول).. وتّاهن ليا من قبل الصيام ابيومين.. وعطاهن ليا في مكاوة.. ولما روحت للحوش.. وفتحت المكاوة.. لقيته حاطلي معاهن ثلاث اشكيرات.. كل وحدة فيها حكر كيلو لوز حمر وخزايني وكاجو.. واللهي حسّني- شعوري مش تامر حسني- رايفت عليه.. زعمك كنّه خذا وجهه غادي؟.
- واللهي ع الخبر اكويس وايجي بعد يومين.
- باهي إن شاء الله ايروح طيّب.
بعد أنْ انصرفت العجوز 'ارقية'.. صفّت سيارة (قلع) أمام المقهى، وإذا بشاب يسأل 'علاوي':
- ها يا علاوي واتيات الوحدات؟.
- نعم.. بس راهو الفازو ابربع اجنيه.
- ما عندكش مشكلة.. بس أهم حاجة ايكونن مغسولات.
أخرج 'علاوي' ما يقارب المئتي (فازو شكلاطة نونتيلا) قام بغسلها وإزالة الملصق الذي عليها.. فهمت من ذلك، أنّ الشاب يعمل كمحصّل للفازوات لحساب محل كبير لبيع المواد المنزلية، يشتريها بسعر خمسة وعشرين قرش للفازو الواحد، ويبيعه بخمسين دلفين فقط.
أوه.. كم افتقد 'باسطاً' في هذا الشهر الفضيل، فهو بصُحبة والديه في مصر المحروسة،من قبل الشهر بيومين، وهي أولى زياراته لهذا البلد، الذي يحبُّه، لقد كان في شوق دائم للسفر إليه، ليطّلع عن قرب، على التجربة النضالية الإخوانية، المتمثلة و الممثلة للإسلام المعتدل ( إسلام القراويط والكرافتات) فقد قرأ كثيراً عن مؤسسي وروّاد هذا الفكر وتأثر بهم- حسن البنا والسيد قطب- فأحبّ أنْ يعيش أجواءهم، و أنْ يتعرف على الظروف، التي أنشأت هذا التيارالإسلامي وأوّجدته، لا أدري إلام توصل في زيارته هذه، فهو لم يعد بعد ليخبرني، وربما لم يجد متسعاً من وقت لهذا، فقد ذهب إلى قاهرة 'المعز لدين الله الفاطمي' الشيعي، لعلاج أبويه، بعد أنْ صار كل همِّه في هذه الدنيا التي نحياها، إرضاءهم ونيل رضائهم، حتى أنه كسر (شقّاقاته) التي يحتفظ بها تحت سريره، لكونه لا يملك رقم حساب جاري، ولا توفير في بنوكنا، ولمّلم منها كل ما جمّعه في ستة أعوام، من عملات معدنية من فئة (الخمسين قرش) هي حصيلة عمله واقفاً خلف ماكينات القهوة ومشتقاتها، حتى تصلّبت قدماه، وتخشّن عموده الفقري المُدقِع (اسم الله على ابسوطة وخلاص.. اللي مشّاها وقّافي.. عملاً وحالاً).. ووضعها في كيس أسود، وخرج بها من البيت وصار كل من يراه يعلق عليه: 'كيف صار يا ابسوطة خشيت ع الخبزة اليابسة' في حين أنه كان ماضياً بها إلى مصرف التجارة و التنمية، ليستبدلها بعملات ورقية.. فعل كل ذلك، مع أنّ أمه نصحته: ' يا أوليدي لمّ افليساتك..تلقى روحك.. بالكي تو نلقولك ابنية حلال.. راهو أنا ما فيا ابليطي'.. فرد عليها: 'يا فقري ماغناك قعود.. راني يا أمي نشتغل في القهوة من الكساد بس.. عارفها مش ح اتديرلي صيور.. وبعدين راهو توا قعد عمري 43 سنة.. وما نبيش نقهر بنات الناس امعايا.. الوحدة فيهن تقعد اتراجي في نصيبها بيش تطلع من حياة الفقر مع هلها.. وبعدين تلقى روحها في فقر أفقر .. لا واللهي حرام يا مينتي.. ربي يسعدهن' .. ثم همس في نفسه: 'أنا ما نبي إلا ارضاك بيش انخش الجنة.. إلا الدنيا هذي.. سليت يدي منها من زمانات'.
نعم فقد أخبرني 'باسط' بأنّه قد زهد في الدنيا، وصارت لا تعني له شيئاً، حتى أنه ذات مرة، علق بهذه الحقيقة التي توصل إليها، في ردِّه عن إجابة ليّ عن سؤال طرحه عليّ في يوم ما، منذ خمسة سنوات من الآن: 'يا زياد أنا راني قريت واجد.. ولاحظت عليك أنك ما تستهلش في نصوصك بعبارات وقفشات لكتاب عالميين ومعروفين.. ليش ما اتديرش زي غيرك.. بيش ايقولو عليك مثقف؟'.. فأجبته: 'أنا لا أعبّر إلا عن نفسي وتجربتي الخاصة، و لا أتمثل في نصوصي ولا أستعين إلا بآي الذكر الحكيم وسنة رسوله الكريم.. فهل نسيت قول الإمام دار الهجرة 'مالك': 'كل منا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر'- وأشار بيده إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم- فكل قول يؤخذ ويردُّ عليه إلا صاحب هذا القبر'.. فلا أبني معمار كتاباتي على قواعد لغيري، وتبقى لكلِّ كاتب تجربته، يا عزيزي الموهبة هي كل شيء، انظر مثلاً إلى اللاعب 'ونيس خير' و هو يراوغ 'فيزبا' هل شاهدته ذات مباراة، يراوغه ثم يقف قليلاً ويقول له: اسمع يا فيزبا القصة اللي درتها لك توا.. وخليتك اتنحف في الفرشة.. وضحكّت عليك بيها الجمهور.. هذي راني متعلمها من اللاعب الهولندي 'كرويف' وتوا راني نبي انقصك قصتي الخاصة؟'.. أو هل سمعت 'فريد الأطرش' في إحدى حفلاته، يبدأ بوصلة موسيقية طويلة، ثم يطلب إلى قائد الفرقة أنْ يتوقف، فيتوجه إلى الجمهور بعد ذلك، ويخاطبهم: 'الموسيقا اللي سمعتها ليكم دلوقتي.. أنا متعلمها من الموسيقار العالمي بيتهوفن.. ودلوقتي ح اسمعكم الموسيقا ابتاعتي'.. ردّ عليّ: 'لنقنك خرياط.. ايش دخّل الكتابة في الكورة والموسيقا؟' .. 'يا ابسوطة كله راهو إبداع '.. ولعلمك حتى النص، هذا لو أردت أنْ استفتحه بعبارة لكاتب معروف، قد يكون 'الماغوط' أو 'الكوني' أو أحد الغربيين، ممّن لم أقرأ لهم سابقاً، أستطيع ذلك، بطريقة لا تخطر لك على بال، وذلك بأنْ أضع مثل هذه الكلمات:'الجلي' – 'الغسل' - ' الفساد' ككلمات مفتتحية في محرك البحث (القوقل) مثلما فعلت بخصوص كلام الإمام 'مالك' حيث إنني كنت قد نسيت صيغته تماماً، لكني استعنت بمحرك البحث (القوقل) فأوجده ليّ .. بس خليها بينا وفكنا من الشهدرة.. ثم ألا تتذكر أنك مرة اصطحبتني إلى أمسية، دعتني إليها الأستاذة الإذاعية 'عفاف عبد المحسن' وكنت لا أرغب في حضورها، لكنك أبيت إلا أنْ أذهب وترافقني إليها، ماذا جرى هناك؟.. بعد أنْ قامت كاتبة جديدة وجيدة من مدينة طرابلس، بإلقاء نصوصها الجميلة، وبعدما فُتحت حلقة النقاش، أنّ أحد الناقدين النافذين، أحد الإدريسين – ابن الطيب أو المسماري- لا أتذكر أيهما بالضبط، قد سأل الكاتبة: ماذا تصنفين ما ألقيتيه الآن على مسامعنا؟ هل هو شعر أم فنّ قصصي؟ فردّت عليه: يا أستاذ، أنا لا أحفل بمثل هذه التسميات، هناك شيء في قريحتي أردت أنْ أترجمه كلماً فقط، وأسمعتكم أياه'.. فضحك أحد هذين الناقدين النافذين، وعلق: إذاً فأنتِ ينسحب عليك قول الكاتب الليبي الكبير 'الصادق النيهوم': لكل إنسان أمنيتان، الأولى أنْ يكون له بحر، وأنْ يكون مليئاً بالأسماك، وهي الثانية..هل تذكر بمَ قمتَ يومئذٍ؟.

- لا واللهي.
- يا باسط تذكّر جيداً، فقد جعلت تصرخ وتقول: ' هذا هراء، فأنا لا أريد إلا الجنة، وهمست في أذني و معاها ابنية سمحة.. فطلبت إليك أنْ تصمت، وراهو بالمارة جيت قرصتك في عظمتك.. قصدي في ذراعك لمجعك.. وقلتلك يا راجل ما اتشهدرش بينا.. راهو هذي أول مرة نحضر فيها أمسية.. ورد بالك.. 'النيهوم' له محبوه ومريدوه ومقلدوه.. وسوف ينزعجون منك.. راهو واللهي انكان ما اتغم تو ننصفط عليك.. وانقول مش جاي معايا.. لا صاحبي ولا بعرفوه.
- أه تذكرت.. بس أنت اللي قلتها يا زياد مش أنا.
- لا أنت يا باسط.
- لا أنت يا زياد.
- لا أنت يا باسط.
- لا أنت يا زياد.
- باهي باهي.. يا باسط عيب عليك يا راجل.. انذكّرك ابحاجة اخرى درتها هذك اليوم؟.. راك قعدت اتقولي.. كنك هازي عليا.. راني حتى أنا مثقف وشاعرغنائي.. وغنالي حتى 'احميدة بونقطة'.. وطلعت من جيبك الوراني ورقة.. لاصقات فيها خمسين قرش امكرمشات كيف صباحك وسبسي رياضي مكسور.. مكتوب في الورقة كلمات اغنية يا شمعة ذبتي ذوب.. وجيت تبي تقراها بيش اتذوب البنيات اللي غادي.. ممهورة بتوقيع الفنان 'السيد بومدين' وكاتبلك فيها عبارة: أنت شاعر موهوب وينتظرك مستقل زاهر بزهرة بوقرعون.. يا باسط فكنا من الطروح.. أنت اللي قلتها.. كنك قعدت متذبذب زي إخوانك الإخوان المصريين؟.
شرد باسط قليلاً، وهو ينظر إلى التلفاز، متابعاً مسلسلاً سورياً تاريخياً، ثم صار يقهقه، سألته عن سرّ هذه الهيستيريا، فأجابني: في سنة 1987 ميلادياً مرة سمعت في الراديو الليبي تمثيلية بالفصحى عن (حادثة الفداء*) في برنامج انظني اسمه (على هامش الجغرافيا) أو (على هامش التربية الوطنية) واللهي انسيته.. فيها ممثل ليبي يجسّد بصوته زعيم الكفر أبا جهل وهو يقول: سنختار من كل قبيلة شاب.. فحاوره ممثل آخر، يجسّد بصوته شخصية أبي سفيان: لماذا يا أبا جهل؟.. فرد: لنقتل محمد صلى الله عليه وسلم ( فكروا فيها ملياً، وستعرفون علة الضحك).
جئت لأخرج من المقهى، فتذكرت أن لـ 'علاوي' في ذمتي ديناران، استدنتهما منه البارحة، فأرجعتهما إليه، ودعوت له 'ربي ايوسع عليك' ردّهما عليّ (ردة مرخية) ثم وضعهن في جيبه، فتذكرت قولة الحاجة ارقية له: ' عارفتك يا باتي.. ما عمرك درت فايدة.. اجعنها ما تنقال من بعد ابسوطة لمسقم' .. يا رقيق الغرض.
عند عتبة المقهى اتصلت بـ ' باسط' في مصر، وجرى بيننا هذا الحوار الأثيري في ثلاثة دقائق، وقد كلفني ثلاثة دنانير، لكن مش اخسارة في ابسوطة:
- خويا باسط.. شنو الجو و كيف حال الشياب؟.
- و اللهي الحمد لله.
- ها شن داير غادي؟.
- و اللهي جو سمح بكل .. صقع عليك يا زياد.. بس خاطري في مكياطة امسقمة.. ما حصلتهش في القاهرة.
- البلاد اللي اتقولي عليها صقع عليك.. مش ح انجيها طالما فيها رقص شرقي.. ومظاهر الشركيات، التي تحدث عند الأضرحة (السيدة زينب والشيخ بدوي).. قول لجماعة الإخوان اللي غادي.. قبلما تطالبون بالسلطة، عليكم بالإصلاح الأخلاقي.. يا ابسوطة أرى أنّ الحركة الوهابية، كانت أنجع من حركة الإخوان المسلمين، لأنها رفعت راية التوحيد عالياً، وقضت على الشركيات.
- يا زياد واللهي ما قدرت انتعرف على الفكر الإخواني بشكل أكثر.. راني ما حصلتش وقت نمشي فيه للمكتبات.. اليوم بس درنا عملية للشايب.. وبكره نبدوا في علاج العزوز.
- عارفك انت تبي اترضي والديك.. بيش اتخش للجنة .. تذكّر الأمسية هذكي و الجو الشين اللي درته فيها؟.
- ههههههه.. خطرها شنو جو الأستاذ إدريس هذكاهي؟.
- اجعنه كيف حالي وحالك.. قالوا حصل هو وسميته.. يومين اسماح صاموهن في روما.
- خلاص خلاص.. سكّر.. حسّك نكدت على صيام أمي.

فصلت المكالمة.. الرصيد تمّ.. والحمد لله أنْ فصلت، لأنني أثناء المكالمة، كنت أستمع إلى صدى صوت، لم أعرف مسبّبه.
***
انطلقت إلى الطريق السريع لأمتطي حافلة، غير أنّ ضوء السيارات الخاصة، أبهر عينيّ، من كثرة إشاراتها إليّ، فلمحت خيمة عزاء جيراننا في السبالة آل السعيطي، الذين فجعوا بمقتل ابنهم إثر عملية قتل بواسطة آلة حادة.. وسرت (كنّداري) وحيداً دامع العينين، فالمغدور، ذكّرني بوالدي رحمهما الله، فقد كان أحد طلبته في مدرسة 'جندوبة'.. حتى وصلت جسر المدينة الرياضية، هناك وجدت مجموعة من الشبان الفقراء، جالسين على عتبة حديد الحماية، ووجوههم ناحية الملعب الجانبي، وأظهرهم للسائقين المتهورين، مكتفين بالاستماع لا الفرجة، ومستهزئين بالمغني الليبي، الذي يُقدّم وصلته، ريثما يحضر مطرب الجيل.. على الرصيف الخاص بالمشاة، وجدت سكيناً ملقيّاً على الأرض، تلقفته وتسلحت به، رامياً بقلمي الرصاص (سلاح الكتّاب) أسفل الجسر، وضعت هذا السكين (خوص بوموسى) على رأي 'ميلود العمروني' في إحدى مسرحياته- التي غابت عنا، في هذا الموسم- ورشقته بين بنطالي وخاصرتي، جاعلاً حلقته للخارج، أي تحت القميص المنسدل إلى الخارج.. انحدرت إلى أسفل الجسر ماضياً نحو حديقة العوينات (23 يوليو – الآن).. لحظتئذٍ تناهت إلى سمعي، صرخات الفتيات: ووووووووك منك يا تمورة (كما كتبت غيداء التواتي).. يانا عليا (صرخة مفردة).. يانا علينا (صرخات جماعية).. جئت لأرجع لأستبيّن الحكاية، فتذكرت إحدى قواعد المرور المعمول بها، وهي أنّ (الأندياترو) ممنوع، وكذلك الوقوف على الجسور، أدركت سبب صراخهن، فالواضح أنّ هرمونات الأنوثة، قد علت عندهن، لدى رؤيتهن المغني المصري، بعد اعتلائه للمسرح، مسكينات هؤلاء الفتيات، فهن لا يدركنّ بأنه مخنث، على الرغم من أنه حرص في الفترة الأخيرة على تربية اللحية، وفتح زري قميصه العلويين، لو كان الأمر بيديّ، لحاكمت من استقدموا هذا المغني، بتهمة الدياثة وإفساد الذوق العام، وتهمتي لهم ستزداد، لاسيما ونحن في شهر رمضان المبارك، كان عليهم بدلاً من أنْ يجمعوا هؤلاء الفتية و الفتيات على صوت هذا المغني، أنْ يجدوا حلولاً مستقبلية لهم، وأن يجمعوا بين كل اثنين منهم، تحت سقف بيت واحد.. في أسفل الجسر ثمة بقعة ظلام موحِشة جداً، أحسّست عند إدراكي لها، بأنّ ثمة من يلاحقني، فضغطت على الزناد- عليك تكبير اشورخ- أقصد أرجعت يدي إلى الوراء، ساحباً السكين من حلقته، فإذا بشاب يقول لي: ' يا خويا معليش راهو الموس امتاعي أنا وطاح مني'.. سألته: طالما أنك آتٍ لحضور الحفل، فلماذا تحمل معك هذا السكين؟.. لا أنا مش جاي انتفرج.. أنا راقيلي من الجو اللي ايديرن فيه بناتنا.. ولما تكمل الحفلة.. ننغز بيه أول واحد ايرقيها ليا.. هكذا إذن.. أرجعت إليه سكين المسكين إلى صاحبه، مع اعتذاري الشديد له، وأنا أحدث نفسي: 'خُذ سكينك، فأنا لا أخشى في هذه البلاد إلا الله تعالى'.. وما أنْ خطوت خطوتي الأولى، حتى قابلني شخصُ تبدو عليه الصرامة- بمعناها العامي والشعبي- يمدُّ لي قلمي الذي رميته من علٍّ ويقول: ' يا أستاذ مش هضا قلمك؟.. خوذه راني سنيته بموسي الخوصي.. بحيث تقدر تكتب بيه على نفسك.. وتطعن بيه لما اتدافع بيه عن نفسك'.. شكرته، وحدّثته: 'لا أنا مش خايف من حد إلا الله.. والحمد لله ورايا اعويلة البركة الفزاعة اللي ما يحملو فيا احويجة.. واجعني ما نفقدهم هم عزوتي وونسي.. عادل بالرووووووس، رفيق كشيك، باسط، أشرف، صلاح البيف، التوأم أشرف وجمال،أسامة الصقر، هشام سلحوبة، حسن ذبانة، عبد السلام النيقرو' وغيرهم الكثيرون.
هربت من تلك الظلمة- وأنا أستمع إلى 'ثامر حسني' يدندن: 'آه.. آه'.. والبنات يطربنّ وراءه: 'وووه منك.. وووه منك' والشباب يعلقون عليهنّ: 'وي.. وي.. وي'.. ثم أعاد مطلع أغنيته الغرائزية: 'آه.. آه' وأنا أرد عليه: 'أجعن عصا.. اتعلّم على ظهرك'- هربت من الظلمة، مُخترِقاً الحديقة المقابلة لمبنى الحسابات العسكرية في شارع جمال عبد الناصر، وأنا ألتفت ذات اليمين واليسار، وذات الشمال والجنوب، وذات الأعلى والأسفل، مثل رادار سوفياتي على تخوم وجدار ألمانيا الغربية، يترصد ذبذبات طائرات الفانتوم اليوأسأيية، مترصداً ضربة من أحد الساقطين من قمة الشرف والإنسانية، فقد أرجعت السكين إلى صاحبه، وتنازلت عن هويتي (قلمي).. الحمد لله أنني دوماً متحفزّاً لمثل هذه المواقف، وارتدي لذلك حذاءً خفيفاً، يساعدني على الركض بأقصى سرعة ممكنة- فالجري نص الجدعنة- على قولة العرب اللي عندهم باسط، إذا كان الاعتداء (نسرة اكلاب).
مضيت شمالاً، ورداري يتحرك إلى الجنوب، حتى أحسّست بطرقعة في رقبتي، حتى كادت أنْ تنكسر من التواءاتي.. الشارع كان مزدحماً بالمشترين، بل أقصد المتفرجين على الملابس.. على أعمدة الإنارة، ثمة من يعلق مصابيح منيرة ملونة بأضواء الطيف، على هيئة ورود وطيور، ذكّرتني ببرنامج 'دنيا الأطفال' الذي كانت تقدمه المذيعة الطرابلسية 'نورية هويدي' في الثمانينيات، فأدركت أنّ سبب هذه العجقة، أنّ اليوم يوافق 31 / 8 / 2010 أي (كبيرة) 1 / 9 / 2010 ميلادياً، والدنيا زيطة.
يس يم.. يسار يمين.. إلى الإمام سرّ والكفاح الأدبي مستمر، رجل بدّل وعلى حد ما اتعدّل، سليت نفسي بهذه الإيعازات، حتى وصلت إلى ميدان الشجرة، حرصت على أنْ أمرَّ على مكان الواقعة، التي تعرّض فيها الصحفي الشاب 'محمد الصريط' للحِرابة في وضح النهار، وفي الشهر الحرام، عند مكتب المترجم القانوني المُلامس لحلاق سليم.. على البلاط العمومي، ثمة بقايا شظايا زجاج متناثرة، وبقعتا دم زكيتان، نزفتا من جسد هذا الصحفي- الذي لم أرَه حتى هذه اللحظة- يبدو أنّ الغاسل، قد نسيّ أنْ يستعمل (البوطاس) ليخفيهما، فروّاتا ميدان الشجرة العطشانة.. ما أحزنني في هذا الاعتداء الأثيم، أنّ الصحفي 'الصريط' لم يجد من يدافع عنه من المارة هناك، على الرغم من أنّ هذا الميدان، لا يخلو تماماً من الحركة، حتى في وقت متأخر من الليل، فأين مرؤتكم يا أبناء بنغازي، فأنا بعد هذه الحادثة صرت على يقين، لو أنّ أحدهم قام بتعرية إحدى بنات بنغازي في المكان نفسه، لن ينتخي لها أحدٌ، من الذين يقفون ويمرّون من هناك، لا فسوف لن أعتمد على (اعويلة) البركة، سوف لا أعوّل إلا على نفسي، سأشتري سكيناً ولو بأي ثمن، حتى لا يحدث معي مثلما حدث مع 'الصريط' الذي عوّل في يوم ما على (أعويلة بن يونس) فخذلوه.. فأنا وغيري من المثقفين، من يطالبوننا بالكتابة والمشاركة في المظاهرات والانضمام إلى البيانات التضامنية، وهم لا يقومون حتى بإجارتنا ولا نـُصرتنا.
وصلت إلى ميدان سوق الحوت، فوجدت طاولات العرض الحديدية - من نموذج انبيوة وانجيوة- و اللدائنية و الخشبية، متكئة على حوائط المباني هناك، غير أنّ ما شدّ عنايتي، أنّ محيط هذا السوق، قد تجاوز ناصيتي سوقي الحوت والربيع، وطوّر من نفسه – بحسب نظرية النشوء والارتقاء - حتى نبت له رأس، فتجاوز جامع 'بن كاطو' ووصل إلى شارع 'أحمد رفيق المهدوي' حيث وجدت هناك نفايات بضائعهم من الصناديق الفارغة: (صناديق حليب جهينة- حليب وعصير المزرعة - عصير الريحان - عصير بووذن - قمر الدين – قمر الزمان – بدر البدور- كسر خبزة تنور – شعيرات اكنافة).. وعن هذا السوق أحدثكم، فقد طلب إليّ الصحفي 'محمد الصريط' المشاركة باستطلاع، يبتغي إرساله إلى صحيفة مال وبنون، عفواً أقصد صحيفة (مال وأعمال) عن هذا السوق، بعدما أعلمني بأنه يعتزم ذلك، لما لهذا السوق من مظهر حضاري متعلق بموروث وتاريخ المدينة، فأخبرته بأنّ إدلائي سيكون مختلفاً لما أراد، فتعامل معي بعقلية الصحفي المتفتحة، وطلب مني أنّ أقول ما أرى بحرية، فأدليت له بتصريح- ويبدو أنني كنت وجه شؤم عليه- ولست أعلم إنْ كان قد نُشِر، أم أنه لم يُنشر حتى هذه اللحظة، ولست أتذكره، ولا أحتفظ بنسخه منه، لكني أتذكر شيئاً منه، حيث إنني أخبرته بأنّ هذا السوق، لا يمت بأية صلة حضارية للمدينة، وهو يعكس حالة التخبط والعشوائية و البطالة المقنعة، التي يعيشها هؤلاء الباعة من الشباب، يا احميدة، تذكر بأنك لست تسألني عن سوق عكاظ ، ولا عن سوق الحشيش، الذي عُرفت به المدينة'.. نعم فهذا ما تعلق بذاكرتي من هذا التصريح، الذي أدليت به.
فلو استمرت حالة البطالة على ما هي عليه، فإنني أحتمل أنْ يصبح لهذا السوق ذيلٌ، يخترق شارع العقيب، ويمرّ بالبيت المكسورة لافتته، وتقام فيه الأمسيات بطريقة سرّية وغريبة، حيث إنك حينما تمرُّ من هناك، تجد بابه موارباً وأمامه شخصين صارمين-بالنطق الشعبي لهذا الوصف- فتتحرج من الدخول إليه، غير أنني منذ يومين مرّرت مع الصديق الشاعر 'الحبيب الأمين' من أمامه، فوجدنا جمعاً من المثقفين يخرجون منه، منهم الصحفيون والكتّاب والمؤرخون والمثقفون: أحمد خليفة ونعيم العشيبي واحميدة لطيوش وفرج نجم ورمضان جربوع والدكتور مُفتي الديار الدرناوية وما حولها، وحينما دخلنا وجدنا بضعة كراسي مطروحة في (أرض ادّيار) وعند البحرة (النافورة) كذلك، غير أنّ لا دلاعة تسبح فيها، وبقايا الحلواء في الصحون، وزجاجات الماء الحلوة الصغيرة، الواضح أنّ الجماعة كانوا (يكسرون الصفرة**) على قولة (الزلم).. عموماً جو المكان، يذكّرك ببيت 'أبي عصام' في مسلسل (باب الحارة) ها أنا أصفه لمن لم يتمكن من الدخول إليه.. الغريب هو مواربة هذا الباب، على الرغم من أنّ باب الحارة الأصلي، قد اقتلعه الفرنسيين في الجزء الخامس من المسلسل.. عموماً فإنني أتوقع في الأعوام القادمة، أنْ يصل ذيل هذا السوق إلى ميدان الشجرة، خصوصاً أنه قد صار بيئة صالحة للإجرام، ومن هناك ستمتد له عدة زعانف ويصبح مثل الهامة، ويصبح الشعب الليبي كله، يبيع .. يبيع.. يبيع أي شيء، فيضيع .. يضيع.. يضيع كل شيء.

لن أطيل النفس، رجعت إلى ميدان الشجرة، وهناك مرّت أمامي سيارة جاري 'عوض لملوم' مشرف مائدة الرحمان في البركة، جالباً فيها صناديق الحليب و التمور والمياه والعصائر و الفواكه: موز – انجاص – دلاع – عنب – اعوينة.. لوجبة اليوم التالي.. صعدت إلى جانبه، ورمى بيّ أمام بيتي، دخلت لألقى صحون السحور في انتظاري عند تمام الساعة الرابعة فجراً، اكتفيت بقطعتي بيتزا، وبدأت في جلي الصحون، كانت هناك كمية بسيطة من البوطاس في الجالون، سكبتها في المحبس، وأخذت الجالون بعدما فرغ، لأحفظه لمن ينقعون الزيتون و المصير فرمضان القادم ودعيت أنْ يبلغنا الله أياه، على وقع آذان الصبح، لكني عدّلت عن هذه الفكرة، فسوف لن أشجّع على هذه المهنة الموسمية، فقصصته وعزمت على أنْ أزرعه في النهار بستان ورود.
(لنكتفي بهذا .. خلاص حسّني تعبت).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): لو تمعنّ أولو الألباب والبصيرة، في هذه الحادثة جيداً، سيصلون إلى حقيقة تهدم الفكر الدخيل الباطني، الذي يدّعي عصمة الإمام 'علي' كرم الله وجهه، وعلمه بالغيب، كما يزعم سدنة هذا الفكر الصفويّ المنحرف، فلو كان بحق يعلم الغيب، فهذا يعني أنه كان يدرك بأنه سينجو من هذه الحادثة، ما يعني أنّ لا مأثرة له، فهم بذلك بدلاً من أن يعلوا من شأنه، يحطون منه.
(**): سألت الشاعرة السورية 'ريد السباعي' عن هذا المعنى، فأعلمتني بأنه ليس كما تخيل ليّ (تحطيم السفر والأواني) بل كسر إفراز الصفرة المعوية، بتناول وجبة دسمة، هي بين وجبتي الفطور والغداء.

2 تعليقات:

في 7 فبراير 2015 في 11:24 م , Blogger Unknown يقول...

هههههههههههههههههههههههههههههههههههههه ... تاريتك ضارب روحك بزلياط ... وما اغلى عليك شكلك ... نرجسية مثيرة للشفقة .. تباهى اللى ما جيتش رئيس والا ممثل معروف ... يا مسيكين .... ههههههههههههههههههههههههههههههههه

 
في 16 فبراير 2015 في 3:49 م , Blogger زياد العيساوي يقول...

هذه مدونتي يا حمار ننشر فيها اللي نبي

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية