الثلاثاء، 11 يوليو 2017

أعين وأنوف


لا أتذكر وجود باب بمصرعين أسودين من حديد، لا يشف من وراءهما ضوء ولا صورة ولا حتى خيال، بمحاذاة قاعدته مصطبة من عتبة واحدة إسمنتية متعرجة تضغطه ستة طوابق إلى أسفل، في الجهة المماثلة من المبنى يبدو مدخل آخر للخروج الطارئ عند ذروة الازدحام به باب حديدي أسود أيضا، جعلت له سطيحة تحمل خمسة أعمدة بينها مسافة تسمح بالكاد لمرور اليد إلى الداخل، تشخص عدة مقاعد خشبية من لوح فاخر غرست في مساندها وإلى أعلى علامة من وراء قطعة بلاستيك شفافة مكتوب بداخلها (milano) على مساند هذه المقاعد لطالما ارتخت الأجساد ومدت الأقدام على حواشيها في استهتار وعنجهية، لا تنتهي إلا عند تسلل المشرف (صاروخ) القابض على مصباح يدوي (بيلة) يبهر الأبصار في عتمة المشاهدة والمتعة.
في وسط الواجهة ثمة باب أتذكره بعرض أربعة أمتار مثبت على سكة ينزاح مصراعاه إلى اليمين واليسار محدثا فارقا في المنتصف، يلج من خلاله القادمين، في لحظة الدخول، يقابلك باب خشبي بمقابض ذهبية يجلس أمامه عامل إلى جانبه صندوق خشبي يرمي في عمقه قصاصات التذاكر، وعلى يمين المدخل ثمة يافطة كهربائية تلصق عليها الأفيشات للأفلام التي ستعرض بعد إسبوعين، وإلى الشمال ثمة سلم ينقلك إلى الشرفة مدفون تحت هذا السلم ذي الجوانب الخشبية والعتبات الحجرية كشك صغير، يبيع صاحبه الكاكاوية المالحة الجالبة للعطش من أول حبة تقرمشها وكراميلي وبسكويت الشمعدان من إنتاج مصنع كانون بالرويسات ومستكة نعناع يابسة يجلبها المهربون من تركيا لتباع بربع معمر آنذاك.
تجد نفسك تمر في أرجاء ردهة الاستقبال لبرهة من الزمن، لتأخذ فكرة عن الفيلم الذي سيعرض في الفترة القادمة، بعد أسبوع وفي الغد وبعد شهر، تسجل المواعيد في ذاكرتك إن كانت نشطة وشابة، وبعد ذلك تتقدم ناحية شباك التذاكر لتشتري تذكرة دخول إذا لاقى ملصق الفيلم المعروض اليوم استحسانك، عندما يقتحم وجهك الصالة المنحدرة يتسلل إلى أنفك عبق الخشب الإيطالي المعتق في المقاعد الوثيرة المرقمة من جوانبها كقواطع (أ ب ت ث ه) وفي أعلى كل كرسي تجد رقما مكتوبا بالأسود ومحاطا بهالة من ذهب اللون، تأخذ الصالة في الانحدار والضيق شيئا فشيئا حتى تتصير نهايتها في عرض الشاشة الماكثة وراء ستارة من قماش بني سميك.
عند جلوسك تضع إصبعيك في أذنيك حذر سماع أغنية (خطاوينا في درب المجد/محمد حسن) لأنك كنت قد تركتها وراءك في الإفطار الصباحي بالمدرسة وبتلفاز ومذياع البيت وفي فترة الاستراحة ما بين شوطي مباراة النجمة ضد التعاون في مسابقة الدرجة الثانية المدارة قبل أن تشرب شاي الظهيرة في ملعب 28 مارس، وبمجرد أن تنطفئ الأنوار تطلق العنان لهما وتستمخ بالموسيقا الصاخبة والتصويرية للأفلام القادمة (البروفا)،
في لحظات الظلام وسماع جهاز التشغيل وقد سرت فيه الكهرباء تشعر بأنك مثل من يجلس في طائرة ينصت إلى أزيز محركاتها ويستعد لرحلة بزمن الفيلم.
لهذه المقاعد المرمية والمقلوبة الآن ويعلوها الغبار وينسج العنكبوت على أقدامها الحديدية الصدئة الشباك، حكايات طويلة وسحيقة وذكريات جميلة، فقد كان كل واحد منا يختار لنفسه مقعدا منها ولا يطيب له المقام والمتعة إذا وجد غيره جالسا في محله، كنا نخدش ألواحها وأسفنجها بأنصال مفاتيحنا كاتبين عليها حروفنا وأسماءنا، هي اليوم لا قيمة لها وما مكوثها إلى اليوم في هذا المكب إلا لتكاسل من كلف برميها، وإلا صار مطعما آخرا بفعل معتد.

دور العرض مثلها مثل المطاعم تقدم خدمات للزبون، فذاك الباب الأسود الذي لم أتذكره صار مدخلا لمطعم حميد الذي انتقل من وسط البلاد بسبب الحرب ليجدد نشاطه وحرفته بسينما الهلال في البركة، فجعل من اليافطة الخارجية للعرض القادم المتعامل معها بالأعين نافذة نافثة لأطعمته يتعامل معها بالأنوف.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية