الأحد، 22 مارس 2015

ذات عشية في سوق العشية


طيور على أشكالها تقع، حمام على أشكاله يطير، حيوانات على أشكالها تصدم، باعة صحون باعة صابون وأحذية وملابس باعة قطع غيار وغيار أطفال، شامبو صانسيلك وبانتين وشامبو تركي علبته كبيرة ورائحته مثل رائحة بول أردوغان، حبوب للعصافير والديوك البشرية التي ترفع اﻵذان ولا تصلي، قطط مستوردة لا تتمتع بحاسة المواء، أمواس حلاقة أمواس بقر سكاكين مطبخ ملاعق معالق ألبسة، أقفاص ومعدات كهربائية ومستلزمات بناء.
(يفتحلك الله) هناك لا تسمعها، ففي سوق اجنيهين الكل يبيع ويبتاع، سيارة نصف نقل تصل لتوها محملة بأكياس القمامة، وما أن تفرغ شحنتها حتى يأتي الحارق ليشب فيها النار، في لهفة من مفتشي الروبابكيا، شعلة نار قدحت في طرف سرير خشبي، أب وأبناه يسحبانه من الجهة اﻷخرى فوق ربوة من النفايات لا كمامات على أفواههم يتنشقون الرداءة، بين السديم يلوح خيال شخص حاملاً في يده دجاجة توقوق بينما طفلته تطلق فرحة رنانة "الدجاجة دحت يا بابا".. ومن هناك يبدو شبح بني أدم غائصاً وغائراً بين بقايا ثلاجات وإلى قربه مسن أسمر يتحسس باباً حديدياً مُقتلع من جدار بدهان أخضر، يفصح عن أنه كان لمؤسسة حكومية لطالما أُغلق في وجوه المواطنين، فعادة ما يكون للمؤسسات من مثل هذا النوع عدة أبواب في جوانبها وواجهتها وأخر للطوارئ حين تزلزل الطرقات الباب الخشبي لمدير عام وهو منهمك في مناقشة خطط العمل مع سكرتيرة بلهاء تدعك وتعلك لوباناً في حجم مضغة خبز، فتحدث فرقعه من بالون يلتصق على شفتيها المُسوّكتين بسواك حنائي يخضوضر على اللسان، فيفر من ملاقاة المطالبين بإنهاء معاملاتهم اﻹدارية، نعم فقد جرى الدأب أن توصد هذه اﻷبواب جميعها ولا يفتح منها إلا باباً واحداً مغاليقه في جيب غفير قاس.
يُسمع دوي صليات على بعد بضعة كيلو مترات، ترى منها ومضات التنوير فلا يهتم أحد بها، عند جزيرة الدوران تسمع هتافات متظاهرين تطالب بدعم الجيش والشرطة غير أن عدد الذين في السوق أكثر منهم، في مبنى مولد الكهرباء المفقود ذي الباب المفتوح على مصرعيه لك أن تتسلى بحياة الحمام فأحدهم يمكث هناك يأتي عند لحظة العمل بالسوق فيفتح الباب لزبائنه ليختبروا ما سوف يشترون من حمام من ناحية نشاطه في الطيران والتكاثر وإطعام فراخه والذود عن عشه المبتني في جالون مُعلّق في سلك المصباح الكهربائي المشدود من وسط سقف الغرفة المتشقق نتيجة صدمة جولاطينة في أيام تحرير الكتيبة، والمظلمة إلا من شعاع شمس العصر والشفق، تتنوع صنوف الحمام لدى الحمائمي فمنها الداجن والطائر وتتعدد عنده التسميات خنافر هنداوي مقطوم فرفاله مقطوم هللاهللا مالطي ثلوثي نيسي شكولاطي امسرول عراقي زلمي، هو لا يبيع بمنهج المزاد العلني، أزواج الحمام كلها تعني له الكثير فلا يفُرّق بين الزوج وفراخه يمنح المشتري قسطاً من الوقت لمعاينة ما تقع عليه عيناه ويودّ اكتساباه، يجيب عن كل سؤال ومن ذلك عمره وكم باض في حياته مرة، وفي يده حفنة من قمح تسمعه وهو يشترط على الزبون أنه سوف لن يعيد الحمام إليه إذا عاد بعد مضي ثلاثة أيام من بيعه، يسأله شخص من خلف الازدحام: كم عطو فيه؟ لا يجيب..يسأله آخر: ابكم؟ يرد برقم من الدنانير ثم يسهب: هذا الزوج -بعد أن يمسك برجلي الذكر بين يديه ثم يشده من منقاره إلى أسفل فيحرك جناحيه-أرأيت الانحناءة في أعلى منقاره في إشارة وإمارة إلى أنه يطعم فراخه وكثير التفريخ ثم يأتي بأنثاه ويشدها بالطريقة ذاتها غير أنه يدخل أصبعه في مؤخرتها ليتحسس بيضة على وشك النزول فيما تغمض الحمامة عينيها من شدة الوجع ويطلب من المشتري أن يتأكد بنفسه فلا يخجل من إجراء التجربة، ثم يطلق الزوج ليطيرُ حول مبنى الكتيبة فيما الزبائن يختبرون مدى شبابه وقدرته على التحليق وعند وصول الزوج يدخل إلى عشه البلاستيكي فيسد الفتحة بيده ويسلم البضاعة للزبون وهو يذكره: "بعد ثلاث ايام ما دخلنيش بيك.. قصّبه أو رمّله" ويعطيه حفنتي قمح فوق البيعة.
عربة أخرى تأتي مُحمّلة بالنفايات تصعد كمركبة عسكرية مجنزرة بين النفايات حمولتها عبارة عن أوراق ونماذج إدارية مما تُمهر بختم أخضر وفي ذيلها عبارة (لا مانع) سرعان ما تبتلعها النيران بمبالاة من اﻷب وطفليه الذين لم يجدوا فيها ما يستحق عناء التفتيش والتقليب..
"نبو جيش ونبو شرطة..بنغازي راهي في ورطة" تصيح حناجر المتجمهرين عند الجزيرة بهذا الهتاف.
لا نساء في سوق جنيهين مع أن هناك أصنافا عديدة من البضاعة تلاقي اهتمامهن في اﻷصل كالمكايير وأصباغ الشعر ومحسناته وأنواع كثيرة من كريم البشرة والجلد، عجوز سمراء متوشحة بقماش أسود عليه وردة متفتحة صفراء تفترش اﻷسفلت عند المنعطف حيث باعة المواسير PPR والمواد الغذائية التي شارفت صلاحيتها على الانتهاء، تعرض شفرات حلاقة ومعجونها أمشاط معالق مفاتيح زريعة بيضاء لب كاكاوية موبايلات مستعملة لم يعنيني شيئاً مما عندها سوى أكياس بخور قالت لي بلكنتها "خوذ لأمك منه" لم آلف نوعه من قبل فرددته عليها بحجة إننا لا نستعمل هذا النوع قالت لي (.....) لم أتبيّن ما قالت فثمة صوت انفجار ضخم ضج به المكان راقبت وجدت الناس غير مُبالين لكأنهم اعتادوا ذلك واختلط صوته بتصفيق الناظرين إلى زوج حمام منطلق من تلك الغرفة يحلق في مساره المعروف.. رددت البائعة جملتها: "جربه.. جربه.. ولو ما أعجبكش رده"..ما أردت أن أكسر بخاطرها فقبلت العرض ودرت إلى الوراء لأجد سيارة أخرى آتية بمخلفات عبارة عن لافتات خشبية في وسطها حامل من لوح تم جمعها بعد انفراط المظاهرة وقد صعدت بذات الطريقة، عرض الحارق وأبناه البضاعة على بائع الحمام علّه يستفيد منها في صنع بيوت لطيوره، بمقابل ألا يتأخر فيلتهمها الحريق، عند ذلك فكرت في قرارتي ربما لن أجد البائعة غدا لو لم يعجبني بخورها فرميت-للتجربة- بحفنة منه في كوم الحريق فتناثرت في الأرجاء رائحة لم استطيقها، رجعت إليها فورا وقد عزمت على ألا أكسر بخاطرها فقررت أن أستبدله بشيء آخر من لدنها وكانت شفرات حلاقة هندية المنشأ.. انطلقت صليات أخرى من مكان بعيد لتصيب زوج الحمام فتسقطه أرضا وهو على مشارف الغرفة فانطلق عويل البائع وهو يصرخ: "انعنجدكم..... ابعين الزززح" وأوصد أبواب غرفته مؤذنا بنهاية العشية.
عند عودتي حلقت لحيتي ورسمتها كقفل، رميت مفتاحه في أتون المحرقة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية