الاثنين، 8 سبتمبر 2014

تحدي الرياح

ذات شتاء أمام شباك المقهى، حيّيت الحاج علي بتحية الصباح فرحّب بيّ: "امريحبا بوجه الخير.. وين ديارك لك فترة مش باين؟.. راني انتونس بيك أنت عرقوبك جلاّب يا باتي".
عمق الجيب بطول براجم الإصبعين، شدا الدينار وأخرجاه من الجيب الخلفي للبنطال لأسدّد ثمن قهوة عربية ما عدت لأشربها حتى في البيت بعد رحيل الحاج "علي الشومالي" رحمه المولى عزّ وجلّ، صاحب مقهى بنغازي ذاك المبنى المقام على أعمد الألومنيوم والزجاج بكورنيش بنغازي القديم، وكان ليد الرياح قولٌ آخر إذ هبّت رياح شمالية عاتية فذهبت وطوّحت بالدينار على الأرض، انحنيت لأخذه فابتعد قدر دينار غافلته ووطأت بقدمي عليه لكنه انزاح شعرت برغبة في التحدي كالصاري الصارم، خطوت نحوه والحاج علي يناديني: "تعال يا وليدي ياخذ سوك"، أصرّرت متقفياً أثره في الهواء ركضت هرولت، وجدته بين قدمي همّمت بالانقضاض عليه غير أن قدم الرياح راوغتني و(دحتني) انطلق الدينار بين قدمي بالاتجاه المعاكس للريح عبرت الطريق إليه ومنبهات السيارت تشتغل (بييييب بييييب) وكأني بالحاج علي أمام هذا الموقف يصرخ "رد بالك من السيارات يا وليد تعال خلاص ياخذ سوّك"..شعرت بحرج شديد لو ضاع مني ذلك الدينار لأني سأكون في أعين المتفرجين مهزوماً، مسحت طبقة الخجل من على وجهي وغطيته بطبقة سميكة من البلادة، صار وجهي مثل أيقونة ماسنجر صفراء أسنانها للخارج وشدقاها للداخل، أحسّست بأنّ الرياح ككائن حي يريد استفزازي ويستهزئ بيّ، تبعت ديناري بطريقة توحي للرياح بأني غير مهتم صرت أمشي على أمشاط القدم والتفت إلى الخلف مبتسماً بخجل ووجل وألوّح للحاج علي الذي خرج من مقهاه وترك الزبائن الذين يتزاحمون-عرقوبي جلاب- على الشباك ليتكيفوا بقهوته العربية المُنكهة بالكسبر، وجدت بأن المسافة التي قطعتها صارت تبتعد شيئاً فشيئاً لأن الرياح باتت تأخذ الدينار لمسافة أبعد، هنا قررت الركض صوبه محفزاَ حواسي كلها، وبجواري تأتي موجات من أصوات المارة تقول: "يا ساتر..وسّع بالك يا شاب".. في لحظة ما، ثبت الهدف محله غير مزحزحه حتى أدركته، ومستغفلاً توقف الرياح قفزت عليه ككرة مُنفذة من ركلة جزاء فأصابت الشباك، نهض الدينار مسافة نصف متر إلى أعلى ثم دُفع برياح من جهة أخرى أدخلته وراء سياج منارة سيدي خريبيش وأنا مرمي على بطني، لم أتوان على القفز فوق السياج القصير وما إن لامست قدماي الأرض حتى خطر ببال الرياح أن تخرج ضالتي إلى الطريق مرة أخرى.
خطوة مني تقابلها خطوة في نفس الاتجاه منه وجدتني عند مقر الفندق الجديد الذي لم يبتدأ العمل به بعد، فكرت في الرجوع لكني لن أخسر شيئاً فقد ضحك عليّ الجميع.
بعد برهة رجع الدينار إلى حالة السكون، أخذت أبسبس له (بس بس بس) كدابة أليفة موحياً له بصغر قيمته عندي وقبل أن اتجه نحوه أخذته عاصفة إلى أعلى وأطاحت به بعرض البحر.
رجعت القهقرى إلى المقهى، هناك مدّ ليّ الحاج علي كوب ماء منكه بالزهر وباليد الأخرى ناولني قطعة قماش مبتلة لأمسح بها لطخات الاتساخ بهندامي وهو يبتسم أعطاني فنجان قهوتي الذي تيبس من البرد، وصار هذا الموقف تذكرة ليّ كلما جئنا على سيرة النصيب: "زي هذك الجنيه اللي بهدلك".

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية