الاثنين، 22 سبتمبر 2014

قراءة في نصّ من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي

قراءة في نصّ (من بنغازي إلى طرابلس للكاتب زياد العيساوي)
بقلم الأستاذ: عبد الله أحمد عبد الله 
***
من طرابلس إلى بنغازي .. كل من يشرع في قراءة قصة هذه الرحلة يعرف أن العيساوي له موضوع إداري يريد أن ينهيه في عاصمــة الروتيــن والمركزيــة المقيتة طرابلس . وإلا فما الهدف من هذه الرحلة . سنرى ..!!
(في البدء كان الكلمة) كما جاء في الإنجيل . وكما جاء في فن الإلقاء (براعة الاستهلال) , وكما خلق الإنسان عجولا فقد صرح العيساوي انه يريد أن يعرف آخر هذه الحكاية الدنيوية , مدام لكل شيء بداية ونهاية , فهو لا يحب الانتظار , وكان هو آخر الصاعدين إلى الحافلة وقد طال انتظار الركاب لآخر الصاعدين . 
هكذا انطلق زياد العيساوي عبر رحلة برية إلى مدينة طرابلس , ومنذ البداية تعجبك أشياء يستعملها قلم زياد ..فمثلا استعمال لفظة ( واللهي ) بالياء بدلا من الكسرة (والله) حتى لا يضع لفظ الجلالة في غير محله الصحيح , وقد أعجبتني الفكرة وإنا إذا فعلتها بعد الآن فستكون بتدبير من الأديب زياد العيساوي , ولكنه يعود فيستعمل السكون بدل الفتح في لفظة (لله) وهي لفظة عربية كريمة لها أصول أمازيغية مستعملة حتى الآن , إذا لنقرر أن اللغة الأمازيغية ما هي إلا لهجة من اللهجات العربية القديمة التي ألغاها الإسلام عندما اختار عليها لغة قريش . وحتى الآن يستعملون لفظة ( لله أو للا ) في مناطق من المغرب العربي . بمعني السيدة , وعلى لغة زياد الموسيقية نذكر بأغنية ( للا فاطمة ) , أعود فأقول استعمل زيادة السكون (لله) بدل الفتحة (للا) لأن لفظ الجلالة يناسب هذا المقام .
زياد العيساوي ..أديب بطبيعته , وهو أديب درامي بامتياز . فهو قادر على صياغة الحوار , ولابد أن تستفيد منه الكتابة الدرامية يوما ما . وهو قدير أيضا في صياغة السيناريو المناسب للكتابة التلفزيونية والسينمائية . وبالتأكيد منهما معا تتكون الكتابة القصصية أصلا ولكن تبرز عند العيساوي بشكل ملفت فتجد نفسك أمام مشاهد درامية متكاملة .
يؤكد زياد في أكثر من موقع لرحلته بأنه يميل إلى الوطن الواحد , ويكره كل ما يمت إلى الجهوية بصلة , حتى تمنياته بالزواج من بنات الغرب الليبي متمثلا بالقول الشعبي بنات الغرب للشرق وبنات الشرق للغرب .
وأسلوب زياد سواء العامي أو ما هو بالفصيح يتداخل أحيانا , فأنت تراه يستعمل مثلا عبارة مثل ( ليس هناك لا غبار ولاشيء من ذلك ) وهو تعبير عامي . لأن اللغة العربية لا تستعمل التوكيد في النفي , وهو ما يبدو في الجملة لأن العامية تقبل مثل هذا وإلا لقال ( ليس هناك من غبار... ) مثلا , بدل تكرار كلمتي النفي (ليس ولا) في جملة واحدة .
أما المخزون الموسيقي والغنائي لدى زياد فحدث ولا حرج . فمعرفة الزميل زياد بأصول الغناء والإبداع فيه , وثقافته الفنية وحسن اطلاعه على المخزون الفني الليبي والعربي يبرز واضحا في ما يكتب وقد حفلت رحلته (من طرابلس إلى بنغازي) بحديث الطرب والغناء في أكثر من مكان وبتوظيف يدل على ذكاء , فكل أغنية جاءت في مكانها الصحيح . 
بدأ حديثه الغنائي منذ الوهلة الأولى عندما كان يعبر عن حبه للنهايات معتبرا البدايات لا أهمية لها وكذلك الوسط . ليصل إلى النتيجة مباشرة فقال : لواني اعلم خاتمتي ما كنت بدأت , وما إن انطلقت الرحلة الطويلة حتى أبدى تبرمه مستندا على قول المزداوي غناءً : مشينا مشينا والطريق اطوالت .وعندما اسرع السائق بناء علي غضب الراكبة اتكأ ثانية علي شادية وهي تردد سوق على مهلك سوق .
نشتم رائحة الوطن الواحد وكراهية الكاتب للجهوية , التي عبر عنها في أكثر من موقع من رحلته , وما إن عرج على مخزونة الغنائي حتى كان عادل عبدالمجيد حاضرا , ليحول أغنيته : لا تقوللي شرقي ولا غربي أنا عربي , فقال زياد ( أنا ليبي) .
سخر من أغنية تونسية ذات كلمات دموية عن مطربة تبحث (عمن يطول وريدها) , ومنها تحدث عن تصرفات أم كلثوم العبثية المشهورة دائما بمحاولة التحكم بطريقة عبيطة في المؤلف فتعدل له الكلمات وكذلك الملحن الأمر الذي حرمها من أعمال كبيرة كالربيع عندما امتنع مأمون الشناوي عن تعديلها وحملها للموسيقار العالمي فريد الأطرش , وتصرفها هذا كان حائلا بينها وبين التعامل مع الموسيقار الكبير مع أسباب أخرى , وأشار كيف أن المؤلف السابق حول أغنيته الدموية إلى رثاء لصدام حسين .
للكاتب زياد العيساوي القدرة علي التوليد والابتكار من الفكرة الصغيرة . يبتكر من الحركة ومن الجملة , ورأينا ذلك أكثر من مرة عبر النص , ففي الجملة الحركية (طق طق) تتداعى الأفكار عنده فيقدم الجملة بأكثر من ثوب , وكالعادة لابد وأن يمر بذاكرته الغنائية القوية فيروي شيئا عن أغنية (يطق القلب) وعن مطربها وشاعرها وملحنها .
في مخزون معرفته بأنواع الغناء والألحان الشعبية يستغرب ما سمعه من تسمية (أغنية طرابلسية) وتساءل هل حقا توجد أغنية طرابلسية , لم تسعفه الذاكرة بشيء من هذا وإنما يعرف أن هناك غناء مرسكاويا من مرزق , أما طرابلسيا فلا يذكر , لذا أشار بصراحة انه لا توجد أية إشارة إلى تفرد الأغنية الطرابلسية بأية صفة تميزها كما في المرسكاوية مثلا , وتقوده خطواته إلى محل الفنان سلام قدري .
لم يشأ أن يسأل الفنان سلام قدري عن قصة الغناء الطرابلسي , ولكنه لم يسأل سلام قدري نتيجة لصحته المتدهورة , وأحسن أنه لم يفعل , لأن سلام قدري فنان متميز تلحينا وغناء , إلا أن ثقافته لا تؤهله للرد على مثل هذا السؤال المهم , وإذا أحال زياد سؤاله إلى الفنان الموسيقار إبراهيم أشرف فسيجيبه على الفور بقوله : إن عقلية سلام قدري لا تغادر حانوته !! وسيضيف : لا توجد أغنية طرابلسية , هم بتصرف عنصري يريدون أن يقولوا ذلك , الذي كان له دور مهم في نشر الأغنية في تونس وطرابلس هو (بشير فهمي فحيمة) , وهو فنان فزاني من الجنوب , وهذا سبب تجاهل هذا الرجل عندهم في طرابلس , لماذا ؟ لأنه ليس اطرابلسيا , للفنان بشير فهمي بعض الأغاني في طرابلس منها لحنه لأغنية (ريدي اليوم باعثلي سلامه) , وأغنية أخرى لنوري كما ل .
ويستمر زخم الغناء في رحلة زياد , فهاهي الفنانة عبير يسمعها في الصباح وهو يغادر الفندق إلى (مطعم خيري) تقول عبير (يا صبح لافي لفيت بخيرك) , وقد ذكرته بأغنية المساء التي سمعها عندما جاء مساء إلى الفندق , وهي لحن فؤاد حافظ , وبالمناسبة هو ملحن فلسطيني وزوج لعبير تقول الأغنية : الليل مهما يطول والشوق مهما يزيد .
وقبل أن يغادر زياد طرابلس وفي عودته للفندق يجد المدير يستمع إلي عبير تغني (حكايتنا يا قلب غريبة) , وأصر زياد أنه ليس بغريب عن عاصمة بلاده .
بسبب المركزية اللعينة كان لابد للسائق أن يستغل الرحلة فيحمل حاجيات متبادلة بين سكان بنغازي وسكان العاصمة , وعند الحديث عن الحاجيات التي يحملها السائق وتكرارها وكثرتها يستطيع الكاتب أن يعطي لمحة عن مشاكل المركزية .
لاشك أن الحوار مع فتاة الحجز مكتوب بدقة متناهية , وقد عاد للحديث عن الفكرة عندما أشار إلى أنه رمي الكارت الذي أعطته له الفتاة وفيها رقمها بخط اليد من شباك السيارة وهو في طريقه إلى المطار , ليشير بذلك إلى الموضوع ولكن بحجم المسؤولية الوطنية 
لزياد رأي متعسف عن التاريخ والآثار عندما رفض مشاهدة متحف السراي , يبرر رأيه بأن الغربيين قد زوروا الكتب المقدسة , فكيف لا يزورون التاريخ , صدق زياد , فالقرآن الكريم سجل لهم هذه الحقيقة بقوله : (يحرفون الكلم ..) وأيضا (إن التاريخ الموجود أغلبه لا يمثلني , بل هو تاريخهم في بلادي , فأنا لا أريد أن أهتم به) وصاغ زياد الفكرة بشكل حديث عندما طلب منه الطلياني أن يصوره وخلفه أثر من آثارهم , فأعاد له الكاميرا معتذرا , فتولى ذلك أحد التبّع الذي زاد من إكرامه للطلياني فقدم إليه قطعة من الشيكولاته .
ويوم الجمعة انطلق زياد لأداء صلاة الجمعة فاختار مسجدا قديما , والكل يتوقع أنه سيقول إنه جاء ليشتم عبق التاريخ الإسلامي , ويشاهد أثرا من الآثار الإسلامية القديمة التي تركها أجدادنا نحن , أو ليشاهد العمارة الإسلامية القديمة أو ما شابه ذلك , ولكنه فاجأنا بشيء آخر جميل وراق , مناسب للحدث وهو الصلاة الجامعة , فقال : إنه يحب الصلاة في المساجد القديمة , ويفضلها عن سواها , لأنها ذكر فيها اسم الله أكثر من المساجد الحديثة , وهذه لعمري لفتة رائعة .
وفي إشارة عابرة لمساوئ الحضارة التي تطبع الأفراد بطابعها حتى يصبحون هكذا , فيلهثون وراء المصالح المادية , وتصبح العلاقات الإنسانية مرتبطة بالمصلحة فقط , ولن يتحدث معك من يعرفك إلا لمصلحة , وسيكون اللقاء سريعا حسب المصلحة فقط ..وصف لقاءه بأديب طرابلسي دعاه إلى الشاي في مقهى , ولكنه هو الذي دفع الحساب , السبب حضاري بلا شك , فهو يعيش في مدينة بنغازي التي مازالت فيها تقاليد البادية , وتتميز بالكرم الذي يختفي عادة مع تطور المدينة وانتشار المظاهر الحضارية , حيث يصبح الفرد يهتم بالأشياء العملية , ولا يهتم بالعلاقات الشخصية . 
ذكرني هذا بعديل ابن عمي عندما قابلني في زليتن في عزاء عمي , وعندما عرف أنني أكتب السيناريو تمسك بي , وأصر أن يعمل معي مشروعا فنيا لأن لديه المال , فهو من عسكري في (قسورة) , ولديه المال , ويريد أن ينتج عملا فنيا , وأخذ تليفوني من ابن عمي , وهو يقول : أنا أسكن في زاوية الدهماني , فقلت له أنا عندما أحضر لطرابلس أسكن في زاوية الدهماني فبيت خالتي هناك , فقال على الفور إذن سنلتقي هناك في مقهى , وأضاف ..ففي زاوية الدهماني الكثير من المقاهي , وسنناقش الاتفاق على راحتنا , فابتسمت وقلت له : لماذا (القهاوي) يمكنك أن تحضر إلى في بيت خالتي فنجلس هناك , وافق ولم يعلق , ذكرني أن يكون ضيفا على الضيف بالشعر الذي يقول : 
يــا أيها الخــارج مـن بيتــــــــــه وهـــــارب مـــن شـــدة الخـوف
ضيفـــك قــــد جـــاء بــزاد لــــه فارجع وكن ضيفا على الضيـف
ويصل زياد إلى الهدف من الرحلة والذي لم يكن كما توقعنا , فكل من يشرع في قراءة قصة هذه الرحلة , يعرف أن العيساوي له موضوع إداري يريد أن ينهيه في طرابلس مدينة المركزية المقيتة , ويريد أن يرينا مدى المعاناة منذ البداية , فاختار الرحلة البرية , لقد اختار الأصعب بالتأكيد , ولكنه يفاجؤك بنبل الهدف الذي حدا به أن يتكبد المشاق , ويسافر إلى طرابلس عاصمة الروتين والمركزية , فكانت الرحلة لزيارة قبر جده الأكبر , وقصر ومسجد وزاوية جده الأوسط , ليقرأ الفاتحة على روحيهما .
العودة إلى بنغازي , كانت عبر الرحلة الجوية السريعة , لذلك اكتفي زياد العيساوي بوصف سريع لها (فن – طب) !! .. جملة شعبية بليغة , عبرت عن سرعة الرحلة , (فن – طب) , بلا أي تعقيد ولا تشكيل , وهنا قمة البلاغة , فالبلاغة هي مناسبة القول لمقتضى الحال .
وجه الكاتب خطابا في نهاية الرحلة للقراء , أشار فيه إلى أنه يصف الشيء كما هو .. فإذا كان بلا (ألوانِ) بالجر .. فليكن ذلك كذلك , ويختصر أيضا بأنه يركز على المساوئ لأنه لا غرابة في وجود المحاسن أصلا .

الاثنين، 8 سبتمبر 2014

تحدي الرياح

ذات شتاء أمام شباك المقهى، حيّيت الحاج علي بتحية الصباح فرحّب بيّ: "امريحبا بوجه الخير.. وين ديارك لك فترة مش باين؟.. راني انتونس بيك أنت عرقوبك جلاّب يا باتي".
عمق الجيب بطول براجم الإصبعين، شدا الدينار وأخرجاه من الجيب الخلفي للبنطال لأسدّد ثمن قهوة عربية ما عدت لأشربها حتى في البيت بعد رحيل الحاج "علي الشومالي" رحمه المولى عزّ وجلّ، صاحب مقهى بنغازي ذاك المبنى المقام على أعمد الألومنيوم والزجاج بكورنيش بنغازي القديم، وكان ليد الرياح قولٌ آخر إذ هبّت رياح شمالية عاتية فذهبت وطوّحت بالدينار على الأرض، انحنيت لأخذه فابتعد قدر دينار غافلته ووطأت بقدمي عليه لكنه انزاح شعرت برغبة في التحدي كالصاري الصارم، خطوت نحوه والحاج علي يناديني: "تعال يا وليدي ياخذ سوك"، أصرّرت متقفياً أثره في الهواء ركضت هرولت، وجدته بين قدمي همّمت بالانقضاض عليه غير أن قدم الرياح راوغتني و(دحتني) انطلق الدينار بين قدمي بالاتجاه المعاكس للريح عبرت الطريق إليه ومنبهات السيارت تشتغل (بييييب بييييب) وكأني بالحاج علي أمام هذا الموقف يصرخ "رد بالك من السيارات يا وليد تعال خلاص ياخذ سوّك"..شعرت بحرج شديد لو ضاع مني ذلك الدينار لأني سأكون في أعين المتفرجين مهزوماً، مسحت طبقة الخجل من على وجهي وغطيته بطبقة سميكة من البلادة، صار وجهي مثل أيقونة ماسنجر صفراء أسنانها للخارج وشدقاها للداخل، أحسّست بأنّ الرياح ككائن حي يريد استفزازي ويستهزئ بيّ، تبعت ديناري بطريقة توحي للرياح بأني غير مهتم صرت أمشي على أمشاط القدم والتفت إلى الخلف مبتسماً بخجل ووجل وألوّح للحاج علي الذي خرج من مقهاه وترك الزبائن الذين يتزاحمون-عرقوبي جلاب- على الشباك ليتكيفوا بقهوته العربية المُنكهة بالكسبر، وجدت بأن المسافة التي قطعتها صارت تبتعد شيئاً فشيئاً لأن الرياح باتت تأخذ الدينار لمسافة أبعد، هنا قررت الركض صوبه محفزاَ حواسي كلها، وبجواري تأتي موجات من أصوات المارة تقول: "يا ساتر..وسّع بالك يا شاب".. في لحظة ما، ثبت الهدف محله غير مزحزحه حتى أدركته، ومستغفلاً توقف الرياح قفزت عليه ككرة مُنفذة من ركلة جزاء فأصابت الشباك، نهض الدينار مسافة نصف متر إلى أعلى ثم دُفع برياح من جهة أخرى أدخلته وراء سياج منارة سيدي خريبيش وأنا مرمي على بطني، لم أتوان على القفز فوق السياج القصير وما إن لامست قدماي الأرض حتى خطر ببال الرياح أن تخرج ضالتي إلى الطريق مرة أخرى.
خطوة مني تقابلها خطوة في نفس الاتجاه منه وجدتني عند مقر الفندق الجديد الذي لم يبتدأ العمل به بعد، فكرت في الرجوع لكني لن أخسر شيئاً فقد ضحك عليّ الجميع.
بعد برهة رجع الدينار إلى حالة السكون، أخذت أبسبس له (بس بس بس) كدابة أليفة موحياً له بصغر قيمته عندي وقبل أن اتجه نحوه أخذته عاصفة إلى أعلى وأطاحت به بعرض البحر.
رجعت القهقرى إلى المقهى، هناك مدّ ليّ الحاج علي كوب ماء منكه بالزهر وباليد الأخرى ناولني قطعة قماش مبتلة لأمسح بها لطخات الاتساخ بهندامي وهو يبتسم أعطاني فنجان قهوتي الذي تيبس من البرد، وصار هذا الموقف تذكرة ليّ كلما جئنا على سيرة النصيب: "زي هذك الجنيه اللي بهدلك".

وجه المكان



وجه المكان يغمره رذاذ البحر، ويتظلل بعيداً عن الشمس بنظرات بنية قاتمة، علق بخار الملح بعدستيها اللتين تتخفى خلفهما عينان اكتساهما احمرار اﻷرق المغلف بالتجاعيد، يرى بها الناس مُصفريّ المُحيا، يستنشق نفساً عميقا بقدر عمق رمية لطفل يقفز من أبعد وأعلى حجر يشبه في شكله عظمة يتسوّر بها ميناء بنغازي البحري، ويتزفر بزفرة البحر.اعتاد المكان أنْ يرى أغلب هذه الوجوه، إلا أنّ بعضها غاب عن دائرة المشهد، يرفع المكان عن عينيه النظارة ليتفحص قسمات هذا البعض مليّاً ثم بنقرة على جانبيها يسقطها متزحلقة حتى يكبحها أنفه الذي لم ينكسر لتقلبات العصور، ثم يحكم تعديلها، يتكئ بظهره على مسند من سعف النخيل واضعاً رجله على اﻷخرى، يشعل لفافة من فوهة بخار باخرة صينية حُمِل عليها الطوب تستعد لتمخر عباب البحر عائدة إلى ذويها، ثم يشبك أصابعه ويلصقها ببطنه التي تصنع مع سحابة عالية زاوية مقدارها ثمانون درجة، يغمض عينيه ويتوه في سديم تموجات الظلام ونبضاته التي يراها بعقله تفقع وتقتم اﻷرجاء.المكان حيّز من فراغ وأرض، يحجز ما مضى من وقت ويفرغه في سجلات مهترئة يطّلع عليها بين الفينة والثانية، هنا كان في ذاكرته مبانٍ ونشاط، هنا كان ثمة بشر وحجر، مات البشر بسقوط الحجر، هنا كان حجر، مات بعد زواله بشر، نبضة قاتمة من أفق بعيد تأتيه كموجة مسرعة ترمي بين حاشيتي عينيه حكايات وشخوصاً أفلت نجومهم، في غبش التفاصيل تحيا أصوات وأغانٍ ممزوجة بإيقاع يتسارع فيختزل المسافات القصية لقضية مدينة.يقطع انفجار مدفعي مدوٍ سرد إلهام المكان من مكان آخر حديث العهد بالسكان، يتألم لأجله فيدعو له ويدعوه أن ينام قريرَ العين هانيها.للمكان مشاعر جمّة عاطفية إنسانية أخوية ينتخي لغيره من اﻷمكنة ويشعر بعظيم مصابها، غير أنّ المدفع لم يخرس وزاد من شدة وحدة انفجاراته التي صرخ منها المكان البعيد، أسّاقط صرخاته ودعا له ودعاه أن يُرحّل له أبناءه كنازحين، فالوجوه التي غابت عنه ولم يرَها منذ أمدٍ قصي هي النازحة التي عاش أجدادها بين جنباته لدهور فهم ورثة المكان وشاغروه من قبل.أصل الأمكنة في الأزل مكان واحد، والمكان يمقت التشتّت والتفتّت يستوعب الكثرة يفسح قلبه للآتين إليه يغمرهم بذكريات آباءهم، يُكافئ الشيوخ بأنياط الوفاء كلما تحدثوا عنه لذراريهم، ويمنحهم الحظوة، أما المتنكرون له فيتجاهلهم وكفى.. أوابده سقطت لشيخوختها ولم يستطع أحد أن يدكّها على رؤوسهم، أما المهدوم منها فقد تهاوى بفعل فاعل، وقد أحيط نبأً بموعد وترتيبات هدمها، غيره من اﻷماكن انهارت بنياته بفعل مفعول به.

السبت، 6 سبتمبر 2014

من بنغازي إلى طرابلس



بُعيد العِشاء و العشاء ، بكأس الماء المُنكسِرة و المُذابة فيه بلورات السكر - كعادتها - تودعني الوالدة ، عند باب المنزل ، والقطط الصغيرة ، بعضها في الداخل ، والبعض الآخر ، يتشاكس عند العتبة و يشيعني بعيونه التي تلمع من انعكاس الضوء عليها ، مُستغِلة ًلحظة فتح الباب ، لتطالع – بحذر مشوب - و تتطـّـلع على العالم الخارجي - فرشّت ( سكر في امية ) في عقـِبي - و أنا أشفق عليها ، من أنْ تعوز السكر من بعدي – الذي ارتفع سعره عشر مرات ، بعد أنْ رُفِع عنه الدعم ، كسلعة تموينية أساسية ، و انسخطت أكياسة ، من زنة خمسين كيلوجرام إلى جرام واحد فقط - داعية ليّ :
- مربوحة يا اوليدي .. توصل طيّب إن شاء الله .. و رد بالك من ارويحتك .
- يا أمي راني مش ماشي انجاهد .. راني امسافر بس .
- مش انكان ركبت في طيارة خيرلك .. راك وصلت في اسويعة بس ؟ .
- لالالا .. إلا الطيارات يمي .. عارفة و اللهي لو نلقى واحد ايرافقني .. مستعد نمشي لعند غادي .. كعّابي و قبّقابي و شبّشابي .. و لا نركب في رابش طيّاراتنا .
فيمَ سوف يضرني ، استغراق زمن الرحلة بالبرّ ؟ فأنا في عداء مع الوقت ، لا أريد أنْ أدّخر منه شيئاً لعمري ، أريده أنْ يمضي ، أنْ يفوت ، أنْ ينتهي ، و لا يُحسب عليّ ، أريد أنْ أعرف أخر هذه الحكاية الدنيوية ، فهات يا زمن النهايات و خذ البدايات ، فمن النهاية أفهم كل شيءٍ ، لا أبالي بمبتدأ الجملة الأسمية ، بل بخبرها و منتهاهها ، و صرت لا أبالي إلا بالختام - طالما أنّ لكل بداية نهاية - لا يعنيني البدء و لا الوسط ، فحتى كأس العالم و نخبُه ، بتُّ أشاهد مبارياته النهائية فقط ، و لو أني كنت أعلم مسبقاً ، بأنها ستنتهي بتمديد الشوطين الثالث و الرابع ، لما تابعت إلا هما ، بل لو أني كنت أدري ، بأنها ستنتهي بركلات الجزاء و العقوبة الترجيحية ، لما أنشغلت بغيرها ، تراني على الدُّوام ، لا أربط ساعة يدوية على معصمي ، و حتى الهدايا ، التي تصلني في شكل ساعات ، أحتفظ بها للذكرى فقط ، فما حاجتي إليها ، طالما أنني تعودت على ضبط التوقيت ، من خلال مواقيت الصلاة المفروضة ( الصبح و الظهر و العصر و المغرب و العشاء ) ؟ .. حتى المسلسلات - و بالأخص البوليسية منها - غدت لا تستهويني ، و لا أشاهد منها إلا الحلقة الأخيرة ، التي يُقضى فيها على العصابات و الشراذم ، لذا دوماً ، أردّد على شفتيّ : ' لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت ' من أغنية ' رسالة من تحت الماء / عبد الحليم حافظ ' .. علاقات الحب ، باتت لا تروقني تفاصيلها ، لكن خواتيمها ، فإما الفراق أو اللقاء ، السياسات و المواقف و العنتريات و التهديدات الدولية ، لا التفتّ إليها ، فلا أركّز إلا على النتائج ، لأعرفَ من خلالها ، المُخلصين لأوطانهم من المُدعين ، و المحتالين و الكاذبين على شعوبهم ، المشعوبة الإرادة و المُنكسِرة الإدارة ، هكذا أنا ، لا أندم على ما مضى من عمري ، و لا أحبُّ من يدعو ليّ بـ ( الله ايطول عمرك * ) و لا أتحسّر عليه ، إلا إذا ارتكبت فيه المعصية ، أنا سعيدٌ بما فات منه ، فهو حتماً سيقربني من اللحظة الأخيرة و الفاصلة ، سيدنوني من الصافرة ، صافرة الحكم الحكيم ، عند النفخ في السُّور .
***
( اطرابلس .. يا طرابلس .. يا طرابلس ) ليس ' محمد حسن ' من يردّد هذه الكلمة في أغنيته الأخيرة عن ( اطرابلس ) التي لم أعرف ما سرّ غنائه بها و لها ، في هذه المرحلة تحديداً ، بعد أنْ تنغـّم بـ ( رحلة نغم ) و طاف بربوع بلادنا جميعها على بساط ريح ' فريد الأطرش ' فلم أستطع مواصلة الاستماع إليها ، كلما شاهدت تسجيلها ، لكون الغناء عن مدينة كهذه ، و عن الوطن بمُجملِه ، يستلزم منا الخشوع أثناء الإنشاد ، و الغناء بإحساس ، لا الاكتفاء بالصراخ الفجّ .. بل هو سائق حافلة ( فيتو ) يبرح و ينادي على المسافرين في الفندق البلدي في مدينة بنغازي .. كنت أخر الصاعدين إليها ، و حينما وصلت ، وجدت الركاب ، في حالتي تململ و تقلقل ، فقد طال انتظارهم لأخر صاعد ، ملأت المكان الشاغر في المقعد الخلفي ، بجانبي شخص أفريقي و آخر مصريّ ، فصاح الرُّكّاب - باستثناء من هما بحذوي - في نفس واحد : ( جابك ربي .. هيّا يا حاج .. رانا ملينا .. اربح باش نوصلو في الصبح بدري ) .. ' في المأثور ' طريق الألف ميل تبدأ بخطوة ' و في بلادنا ، طريق الألف كيلو متر ، تبدأ بالدعاء لله ، أنْ نصل سالمين .. ( اربطوا الأحزمة .. و تأكدوا من وراقيكم يا ولاد .. أني مش مسؤول على أي واحد .. يمسكوه قطـّـاع الطريق .. عند المفارز و البوابات الفاصلة بين مدننا ) .. على بركة الله ، امض ِبنا يا قائد الحافلة .. انطلقت الحافلة منعطفة من عند سوق الحديقة و نادي الهلال ، صاعدة على جسر ( راس اعبيدة ) بسرعة ( 60 كم / س ) لمحت قبل الجسر مدرسة ' أبي عبيدة بن الجراح ' الثانوية للبنين ، و المثابة الـ ( ماما ) المجاورة لها ، فتخيّـلت أيام العبط و العبث ، و موقفاً ظريفاً إبان دراستي فيها ، في الصف الأول الثانوي في سنة 1989 ميلادياً ، حينما كنا نفرّ من المدرسة أثناء الدّوام ، بُغية الذهاب إلى سوق ( التوانسة ) الذي يفصله عن المدرسة ، الطريق السريع فقط ، و في ذلك اليوم ، كان لدينا امتحانٌ في إحدى المواد العلمية ، على تمام الساعة الثانية عشرة ، فخرجنا من النافذة ، هابطين من المزراب المجاور للنافذة ، مثلما القوات الخاصة ( الكوماندوس ) و بعد أنْ تسكعنا في البنايات في هذا السوق الوضيع ، التي هي مثل عشوائيات الصفيح ، اقترب وقت الامتحان ، فعدنا أدراجنا ، لأدراجنا و مقاعدنا ، متسلقين المزراب نفسه كما اللصوص ، و لما وصلنا ، افتقدنا أحد الطلبة القادم تواً ، من مدينة ( المرج ) و المُنضَم إلى المدرسة حديثاً ، بل و في أول يوم له فيها ، و في صبيحة اليوم الثاني ، علمنا بأنه أخطأ الهدف ، إذ أنه صعد مزراب المثابة الأم ، بدلاً من المدرسة ( و عيونكم ما تشوف إلا النور ) .. انتهيت من هذه الذكريات ، و قد وصلت الحافلة إلى المنفذ و المخرج النهائي لبنغازي غرباً ، وضع السائق في مسجل السيارة أغنية ( خصيمي قاضي ) للفنان الراحل ( أشرف محفوظ ) و شيئاً فشيئاً ، سرّع من سرعته ، حتى استقرت على ( 140 كم / س ) انعدمت التغطية في شبكة ( ليبيانا / الزمن سنة 2005 فلا تستغربوا ) .. و بعد ان تجاوزنا مدينة ( إجدابيا ) بقليل ، واجهتنا إرهاصات عاصفة رملية في الأفق ، فأشارت سيارة قادمة من الجهة المقابلة بمصابيحها لنا ، فأوقف سائقنا الحافلة ، و نزل إليها مهرولاً ، ليتحدث مع السائق الآخر ، لمدة خمس دقائق ، و بعد أنْ رجع إلينا ، أخبرنا بأنّ :
- العاصفة شديدة ، و لو أننا استمررنا في المسير ، ستكون أشد بكثير مما هي عليه الآن ، و أنّ أفق الرؤية لا يتجاوز متراً واحداً .
- فردّت عليه الحاجة ' فاطمة ' التي تجلس في المقعد الأوسط صُحبة حفيدها ' اسلومه ' : سوق عطك حبّة .. دايرلي روحك من اعويلة أوربا .. يا حاج راهي حياتنا عجاج في عجاج من يومها .. امغير صفي نيتك بس .
- و اللهي ما نقدرش .. خلونا اندرسو في أول استراحة و الصباح رباح .
بمجرد أنْ توقف بنا ، دخل السائق إلى الاستراحة ليستريح ، فيبدو من عينيه اللتين كنت أراقبهما في المرآة ، أنهما لم تذوقا طعم النوم منذ يومين ، و أنه مرهق و لا طاقة له على القيادة ، فاستغل هذه الفرصة لينام بالمرة ، طالما أنه ضمن بقاءنا معه ، و حجزنا أخيراً ، بعد أنْ حجزناه في المحطة الأولى ، و وضع ثمن أجرتنا في جيب ( فرملته ) .. نزل الجميع من الحافلة تاركينها للحاجة ' فاطمة ' لتأخذ راحتها في النوم ، هي و حفيدها ، جلس الجميع على مقاعد الاستراحة ، بعد أنْ طلبوا الطعام و المشروبات ، و غطـّوا في نوم عميق ، و هم جالسين ، و مرافقهم على المناضد ، يا لها من ليلة ، لن أنساها ما أحياني الحيّ القيوم ، صرت طيلة تلك الليلة ، انظر إلى هؤلاء المسافرين مستغرباً ، كيف ينامون بهذه الطريقة ؟ فأنا لا أقوى على الرقاد بهذه الكيفية ، بل أنني لا أقدر على النوم إلا في فراشي ، و أسرُّ إلى نفسي : ( أسم الله ع المحبسة .. و خاصة المظلومين منهم ) .. أمضيت ليلتي بين روحة و جاية أمام الاستراحة ، و الجلوس في الخارج ، أكملت ليلتها علبتي تبغ من شدة القلق و الملل مع كوب مكياطة سبّب لي في مغص معويّ .. استغربت أنّ لا أحداً من الركاب احتجّ على السائق ، و لم يطلب إليه أنْ يسافر بنا ، و لو بسرعة بطيئة ، لماذا صمت الجميع ما خلا تلك العجوز .. جلست في الخارج ، أعد السيارات التي تمضي أمامي ذهاباً و أياباً ، و قد استغربت أنّ لا واحدة منها توقفت مثلنا عند الاستراحة ، حينئذٍ ، ناداني ' اسلومة ' و أخبرني بأنّ جدته تطلب إليّ ، أنْ اقترب منها في السيارة ، لأتسامر معها ، طالما أنّ النوم يجافيني ، فوجدتها قد أخرجت ( ترمس ) الشاي و آخر للقهوة و الكعك ، و قنينة ماء .
- أنا : خير يا حاجة .. شنو امغربك لعند اطرابلس ؟ .
- هي : و اللهي يا باتي ماشية انعزي في الحاجة ' لله ' من طرابلس .. طيبك ' لله ' الله يرحمها و يسامحها من يوم ما عرفتها في الباخرة .. و نحنا ماشيين أنا و صاحب بيتي للحج من خمسين سنة .. جتنا الخبّارة بعد المغرب .. و ما لقينش حجز في الطيارة .. و بصراحة ما نقدرش انغيب عليها .. و خايفة ايفوتني الدفن .. قبل ما انسلم عليها و نستسمحها .. لاجني تناوشت معاها في اخر مرة كلمتني بالتلفون .. و نشهد بالله ما عمرهش غابت علينا .. جت المسكينة في قربوجة شايبها و حضرت فرح ولدي ' منصور ' بو هالعيل اللي جايبته امعايا بيش ايونسني ، و جابتلي حولي و ما تابعه .. و جتني في وفاة صاحب بيتي و حطت في بطني200 جني .. لكن يا باتي الطريق طويلة و لا عندنا بواخر و لا قطارات و لا شي .. انكان هضا راني كل صيف ماشيتلها .. الله يرحمها كانت ديما تعزم فيا .. و سبحان ع النصيب .. كنت نبي ناخذ بنتها ' فريحة ' لوليدي ' منصور ' بو هالعيل .. يمّحلاك ' فريحة ' حرارة و شطارة اجعنها صباحك .. و لما خطبتها .. بوها الله ايسامحه .. قال ما عندي إلا راس هالبنية .. و ما تهونش عليا نرميها في هضك الوطن .. عونه لبنغازي .. و عطاها لواحد في الحكومة .. و قالو البنية تهجلت من هي صغيرة .. اسم الله عليها .. و اللهي انكان خذاها منصور .. راهو زقزقلها عصفورها .. أي نلقاها أنها وجعتني في وسط قلبي .. و الله ايسامح بوها .. اللي كسر خاطري و ما عطانا بنته .. ثم بدات من جديد ، تـُعدّد – و هي ( اتعدد و تشلى .. يانا عليّ بوي .. يانا عليّ يا لله يا غلاي يا حبي كله ** ) – مناقب المرحومة .. الله يرحمها قالت ما عندنا ما انقولو في ' منصور ' لكن ( كل شي ع النصيب *** ) .. كنا انقولو زمان : ( بنات الشرق للغرب و بنات الغرب للشرق ) لكن يا باتي توه .. كل حد قعد لاهي في روحه.
الساعة الآن ، العاشرة صباحاً ، نزل سائق حافلة ( فيتو ) قادم من الجهة الغربية ليشتري علبة دخان ، فسألته عن الطقس ، و ما إذا كانت السماء ما تزال ملبدة بالغبار ، فأجابني ليس هناك لا غباراً و لا شيئاً من ذلك ، و أنّ الطقس جميل منذ أسبوعين ، بدأ الرفاق يخرجون من الاستراحة و هم يتكاسلون ، و يتوجعون ( أه – أي – يانا علي يا بوي ) من جراء إعوجاج ظهورهم ، نتيجة للطريقة التي ناموا بها ، و صعدوا أولاً بأول إلى الحافلة ، كلٌّ في مقعده السابق ، أين السائق ؟ طلبنا من ' اسلومة ' أنْ يستعجله ، فخرج متباطئاً و هو يدخن ، و أخذ عشر دقائق كاملة حتى احتسى قهوته ، و جلس في قـُمرة القيادة :
- هو : صباح الخير يا عرب .
- الحاجة ' فاطمة ' : صباح الخير ..ع اللي امطيّب نومه .. مش علينا .. اللي كملنا ليلنا اسمور .
- الرُّكّاب : هههههههههههههههههههههههههههه .
- أنا : زعمك شنو جو العجاج يا حاج ؟ .
- هو : شنو قصدك ؟ .
- أنا : طريقك زينة يا حاج .. اربح .
- هو : يا ودّي .. لو مش عاجبك الجو ؟ .. انزل .
- أنا : كنك انقلبت علينا ؟ .. و نحنا في بنغازي .. امغير ايش نبو بس .. حايس فيها زمزكة .. بعد ايش اتقولي انزل يا اسطى ؟ .. بعد صوقرتنا معاك .. كنك ما قلتها و نحنا في إجدابيا ؟ .. و اللهي لو خاطرة عليا تبي اتدير الجو هضا .. راني نزلت غادي و روحت .
- الرُّكّاب : وسعوا بالكم يا جماعة .
وضع السائق الأغنية ذاتها ( خصيمي قاضي ) و أشعل لفافة تبغ ، جئت لأدخن مثله ، فصرخ :
- طفي الدخان يا شاب .
- أنا : موهو حتى أنت قاعد اتدخن .
- هو : أني صاحب السيارة .. و أني القائد .. و من حقي اندير اللي نبي انديرها .. طفي الدخان خيرلك .. راني انـّزلك .
- الحاجة ' فاطمة ' : و اللهي يا اوليدي انكان نزلت .. ننزل أنا و اسلومه معاك .. و اتردلنا افليساتنا يا سوّاق .. و تو نركبوا في سيارة أخرى .. شنو علا الله في شانك و شان كرهبتك .. هي الجنازة هلبتنا هلبتنا و ما نش مستعجلين .
- الركّاب : ههههههههههههههههههههه .
- أنا : كنكم تضحكوا ؟ و اللهي اللي زيكم ما ايترافقو .. و لا يمتشى معاهم .

- هو : باهي باهي .. خلاص يا احويجة .
انطلق السائق مسرعاً ، و بعد ربع ساعة ، فـُجِعنا بحادث مرور أمامنا ، ذهب ضحيته أربعة أفراد و ناقة اعترضت الطريق ، فأبطأ السائق من السرعة ، و عرض خدماته على المسعفين ، فشكروه و طلبوا إليه أنْ يكمل رحلته ، ثم دار حوار بين الركّاب ، أحدهم يلقي باللائمة على السائق ، و آخر على الناقة اللعينة ، و ثالث على الراعي ، ثم قام الراكب الذي بقرب السائق ، و يبدو عليه ، أنه طالب جامعي متعلم و مثقف ، بذكر معلومة خطيرة انذهل من هولها الركاب جميعاً ، حينما ذكر أنّ عدد ضحايا الطرق في ليبيا بلغ خمسة أشخاص بمعدل يومي .. ترحمت على الموتى و المصابين ، و وضعت صدغي على زجاج السيارة ، و شرعت انظر ناحية البحر ، هروباً من النظر جهة الصحراء ، التي فشلنا في أنْ نقهرها بالزراعة ، حتى لاحت أمامي مصفاة مدينة ( البريقة ) و الحافلة تمضي بسرعة قصوى ، أتخيلني في سفينة في عرض هذا البحر ، فلا حواجز للطرق و لا عجاج و لا خوف من الحوادث ، و حتى إنْ متنا غرقاً ، فسوف نحيا عند الله ( شُهداء ) لا أنْ نموت جيفاً ، بسبب تهور قوّاد هذه الحافلات الكذّابين ، الذين يسلبوننا أموالنا و أعمارنا .. قـُبيل أنْ نصل إلى مدينة ( البريقة ) بقليل ، رنّ نقـّال السائق بنغمة أغنية ( خصيمي قاضي ) ففتح جهازه ، و ردّ على المتصل : ( أيه أيه .. باهي باهي ) لم نعرف ما دار بينهما على وجهي الخصوص و التحديد ، لكني شمّمت رائحة الخيانة من طريقة ردّه و نظرته إليّ في المرآة العاكسة ، و قبل أنْ نصل بخمسة دقائق أخذت الحافلة يمين الطريق ، و توقفت قليلاً ، حتى انضمت إليها حافلتا ( فيتو ) أخريان من وراءنا ، فنزل سائقنا و سائقيهما ، و تحدثوا فيما بينهم ، و هم يختلسون النظر إلينا ، و بمجرد أنْ رجع إلينا ، ساق السائق لنا هذا الكلام : ( يا جماعة سامحوني ما نقدرش انكمل بيكم الطريق .. عندي حالة وفاة في إجدابيا و نبي انرد غادي .. معليش اركبوا في الحافلة الأخرى ) .. هكذا هم دوماً ، الذين يبدؤون المشوار بالكذب و الاحتيال .. إذن فقد باعنا هذا الخائن بربع قيمة أجرتنا – التي حدّدتها و أوجبتها ربع المسافة المقطوعة - للسائق الآخر .. نزلنا جميعنا ، و أعلمنا الطالب الجامعي ، الذي كان بجوار السائق بأنّ من اتصل بالسائق ، قد طلب إليه أنْ يعود إلى ' إجدابيا ' بعجلة ، لأنه تحصل له على مجموعة ركّاب يستعجلون السفر إلى ' مصر ' ما يعني أنّ أجرتهم أكبر من أجرتنا ، فاستنكرت عليه ، سكوته و صمته ، و كونه لم يخبرنا بذلك في حينه .. توزّع الرُّكّاب على الحافلتين الأخريين ، و صمّمت على أنْ أكون مع الحاجة ' فاطمة ' و حفيدها فهما ( عز الرفاقة ) و هذا ما حصل فعلاً ، إذ صعدنا في حافلة واحدة ، فجلست بجانب العجوز ' رجعة ' الراجعة من ' بنغازي ' إلى ' طرابلس ' ، بعد أنْ حضرت زفاف ابن أختها ، و لأنها كما أبلغتنا ، قد صمّمت أنْ تعود وقت الغداء ، و ضعوا لها ( قصعة رز بالخلطة عليها عشر لحمات ع الحلة ) لتتناولها في السبيل ، هي و ابنيها ، ( خير من مرطزة الاستراحات ) فدار حوار جميل و شائق بين العجوزين ' فاطمة ' و ' رجعة ' تناولتا فيه ، العادات و التقاليد و سبر الفرح في ' بنغازي ' و ' طرابلس ' و حنة العروس ، و يوم النجمة ، و ما إليه من حديث جميل بالفعل ، شنّف مسامعنا ، و زادنا علماً بتقاليدنا الشرقية و الغربية ، حتى وصلنا إلى بوابة ' البريقة ' و هناك أمرنا رجال الأمن بالنزول من الحافلة ، و طلبوا إلى السائق ، إنزال ما في السيارة من أشياء ، و قاموا بتفتيش حاجياتنا ، بما فيها حافظة الحلويات التي في ( قفـّة ) الحاجة ' رجعة ' التي صاحت فيهم : ( يا اعويلتي بشواش .. راكم اتدشدشولي الكعيكات اللي في الحفـّاظة .. قبل ما ايضوقهن الحاج ابشير .. و ايقولي مشيتي هجّيتي و هيّجتي في بونغازي .. و ما تفكرتيني و لا جبتلي معاك احويجة من غادي.. و بعدها ايحرم عليا المشي و لطلوع .. راهو غالية عليه حلويات بونغازي ) ثم فتحتها ، و وزعت عليهم كعكة كعكة ، ليحدرو بيها الشاهي ، اللي في برادهم لمشيط الموجود على سخّانة ريستون قديمة ، و بجانبه أكواب مختلفة ، منها ما هو زجاجي و منها ما هو بلاستيكي .. تركونا بعد ذلك لنمضي أماماً ، فكما يُقال : ( املا البطينة .. تستحي العوينة ) .. عدت و ألصقت صدغي بالزجاج ، متجهاً بنظري نحو البحر ، و مستمعاً بحوار العجوزين اللتين عادتا للخوض فيه لقرابة الساعتين ، حتى بانت عليّ مصفاة ( شركة سرت للنفط ) .. فتنهدت ( آآآآآه ) فردت عليّ الحاجة ' فاطمة ' : ' كنك اتجض يا باتي .. قيسك رايفت على مدينتك و مينتك ؟ .. نعطيك تشرب ؟ ) .. ( لالا .. سلامتك يا حاجة ما في شي .. ما خاطري إلا نشرب دخان ) .. فكثرة شرب الماء في الطريق له عواقب وخيمة .. و عند بوابة ' سرت ' أمرنا رجال الأمن بالنزول من السيارة ، فحاولت الحاجة ' فاطمة ' بحيلتها أنْ تصرف انتباههم عنا ، و أمرت الحاجة ' رجعة ' أن تعيد الكرّة : ( عطيهم من كعيكاتك ) فعلقت وراءها : ( سادهم الكعكة الكبيرة .. يا حاجة راهو كعيكاتك ما يلعبنش معاهم ) لم يقرّ للحاجة ' فاطمة ' قرار ، ففتحت الباب موجهة كلماتها لرجال الأمن : ( رانا جايينكم ابخيرنا و خميرنا .. و عليش اتفتشو في ادبيشاتنا .. دوبينا ليبيين ؟ .. اهو فتشو دبش الأفريقي هضا .. انكانكم رجالة ابصحيح ؟ ) .. ردّ عليها رئيسهم : ( باهي باهي يمي ) و أمر السائق باستئناف المسير ، استدرت برقبتي إلى المحرقة أو هي المصفاة ، و أنا أسرّ إلى نفسي : ( لنقنك يا حاجة فاطمة أخت ارجال .. ياريت عندك ابنية بيش ناخذها ) ثم ألصقت صدغي بزجاج النافذة ، لينتابني الهاجس ذاته : ( أتخيلني في سفينة في عرض هذا البحر ، فلا حواجز للطرق و لا عجاج و لا خوف من الحوادث ، و حتى إنْ متنا غرقاً ، فسوف نحيا عند الله شُهداء ، لا أنْ نموت جيفاً ، بسبب تهور قوّاد هذه الحافلات الكذابين ، الذين يسلبوننا أموالنا و أعمارنا ) .. انتبهت إلى خرخشة ( تشكتشكتشكتشك ) ما هذه التشكشكة يا ترى ؟ كأنني قد سمعت بها قبل هذه المرة ، أ تكون ( شكشكشكشة قِطار ) ؟ .. لالا من أين لنا بهذا القطار ؟ الذي لم أصعده في حياتي يوماً ، فلو كان عندنا قطار لما تعبنا كل هذا التعب ، و لقهرنا به الصحراء ، التي فشلنا في جعلها أرضاً خضراء ، ثم نحن لا نجري الآن على سكة حديدية ، بل على طريق غير معبدة ، ماذا هناك يا ترى ؟ أها هي الحاجة ' رجعة ' تخرخش الكيس الذي به ( قصعة الرز ) طالبة من السائق أنْ يتوقف بنا ، لنتناول الغداء معاً ، نزلنا جميعاً ، فأخرج السائق ( بريمس ) من السيارة ، و قامت بتسخين ( الأرز ) و حمّرت لنا اللحم ، و قامت الحاجة ' فاطمة ' بإخراج قنينة ( بيبسي ) و قالت : ( حدروا بيها .. و أنـّت يا سوّاق .. حدّر معاهم .. بيش اتحدر بينا الطريق ابسرعة .. سلّم أوليدي .. راهو كبدي انسحنت و طابت من هالطريق ) .
***
ما لهذه المدينة – اطرابلس – كلما اقتربنا منها ، انزاحت و ابتعدت عنا ؟ لكأننا في رحلتنا إليها ، نـُلاحق أسراب السراب ، فغنيت : ( مشينا مشينا مشيتنا و الطريق اطوالت / لناصر المزداوي ) .. ها هي طلوع النخيل تستقبلنا بها مدينة ' تاورغاء ' ها قد بدأت تبتسم لنا الطريق ، ها قد رأينا الإخضرار بعد جدب طويل – من إجدابيا إلى الهيشة - انفرجت سرائرنا ، نزلنا هناك ، و صلينا الظهر و العصر جمع تأخير .. و بعد ذلك واصلنا رحلتنا ، و قد عدّلت من اتجاه نظري ، و صرت أرمي به بعيداً إلى الأمام ، فما عاد يهمني البحر.
أصابني شيءٌ من السِّنة، فلم انتبه إلا إلى الحاجة ' فاطمة ' و هي تزغرد و تدربك على ( حكية نيدو ) - استجلبتها معها لتحفظ فيها بعض أشيائها - منشدة بصوت مبحوح : ( امشينا و جينا سالمين بريكة رب العالمين ) .. ( هيا يا باتي انزل .. طيب فينا وصلنا سالمين ).
نلتقي في طرابلس ، إذا كتب لنا الله البقاء و اللقاء بكم في الجزء الثاني .
ما لهذه المدينة – اطرابلس – كلما اقتربنا منها ، انزاحت و ابتعدت عنا ؟ لكأننا في رحلتنا إليها ، نـُلاحق أسراب السراب ، فغنيت : ( مشينا مشينا مشينا و الطريق اطوالت / لناصر المزداوي ) .. ها هي طلوع النخيل تستقبلنا بها مدينة ' تاورغاء ' ها قد بدأت تبتسم لنا الطريق ، ها قد رأينا الإخضرار بعد جدب طويل – من إجدابيا إلى الهيشة - انفرجت سرائرنا ، نزلنا هناك ، و صلينا الظهر و العصر جمع تأخير .. و بعد ذلك واصلنا رحلتنا ، و قد عدّلت من اتجاه نظري ، و صرت أرمي به بعيداً إلى الأمام ، فما عاد يهمني البحر.
أصابني شيءٌ من السِّنة ، فلم انتبه إلا إلى الحاجة ' فاطمة ' و هي تزغرد و تدربك على ( حكية نيدو ) - استجلبتها معها لتحفظ فيها بعض أشيائها - منشدة بصوت مبحوح : ( امشينا و جينا سالمين بريكة رب العالمين ) .. ( هيا يا باتي انزل .. طيب فينا وصلنا سالمين ) .
***
فسخرت منها السيدة ' رجعة ' : ( وصلنا في عينك .. بطلي و انتي اتكبري في لشورخ .. و خللي العيل راقد يا بتي .. طيّح نخرتك .. يكللا وصلنا طرابلس ! .. ما زال ياما دونها .. هذي مصراتة يا ممدودة الوجه ) .. فضحك الرُّكابً ، أما السائق الشاب ، فصار يضرب بكلتا يديه ، و هو يقهقه : ( هههههههههههه .. وااااااااااااااو .. قوية منك يا عمتي رجعة ) مُتشمِتاً في الحاجة ' فاطمة ' التي يبدو أنّ السائق الأول ، قد حذره منها ، و أخبره بأنها عجوز مقاومة و عنيدة - لا أدري ، لماذا عجائزنا ، أشّجع و أجّسر و أكثر إباءً من شيوخنا ( عمراً ) الذين باتوا يلتزمون الصمت ، حتى إذا رأوا مشاجرة بين أطفال ، لا يتدخلون حتى بالكلمة الطيبة - لم تحتمل المسكينة هذه الممازحة الموجـِعة ، فارتفع عندها ضغط الدم ، و صار حفيدها يسألها : ( امتى نوصلو يا اجديدة ؟ ) فصفعته على خدِّه ، بكفها المُخضَّب بالحناء ، مُترجـِمة بذلك غضبها من استهزاء الجميع بها ( فشّة خلق يعني ) و مُخيفة ًأياهم ، بأنهم سيلاقون الصفعة نفسها ، إذا استمروا في استهزائهم بها ، و صارت بعد ذلك تتأوه ، من شدة الصداع ، الذي في رأسها ، فطلبتُ إلى السائق ، أنْ يُعرّج بنا على مدينة ' مصراتة ' لمعالجتها ، فاحتجّ : ( اتفقت مع السائق الأول ، أنْ أضعكم مباشرة في طرابلس ) هنا توسلت إليه : ( يا راجل امغير خش بينا على أول عيادة .. و تو نعطوك حق خشتك ) فلم يمانع تحت إغراء المال ، نزلت الحاجة ' فاطمة ' و كنت بصُحبتها ، و جئت لأحجز لها عند الدكتور المناوب ، فنادتني : ( تعال يا ازويدة .. راهو ما فيا شي .. امغير انتبودع اشوية بس .. و راني ما نبي إلا دورة المياة .. راهو عمتك فاطمة فيها السكر و ما تقدرش تصبر بلا حمام .. و تحشمت قدام الرجاجيل .. و قدام المصري و الأفريقي .. عنيّة قنيّة .. اللي اصناناتهم قلبلي راسي .. كسبس يا حنة ما يدهنوش روحهم حتى بتشيشة مسك .. الا انتم راكم كيف اعويلتي .. و مش دايرة غيبة معاكم ) .. ( لنقنك ملعب يا حويجة - يانا عليا منك و خلاص .. خاطري في ابنية تقعد أمها زيك .. لن يهمني اسمها و لا شكلها .. و مع ذلك ، فهي أكيد جميلة مثل أمها .. التي لم يفلح الزمن بإخفاء و لو آثار حُسنها .. اهي الأم اللي ايتنسل منها يا بلاش - نحسابك زعلتي و رقا عليك الضغط ) .. ( لا و حياتك ما زعلت .. اجعني ابنيتك - قاطعتها في سرّي : لا .. اجعن ابنيتك ليا - ما ريت امفيت اعظيماتهم ع الكسكسو .. خليها بينا سلم اوليدي .. و راك اتقولها لما نطلعو ) .. و منحتني قطعتي عبمبر كرشوى ، مع قرصة خدّ و ( ترجيبة : نجك ليا ) .. عدنا و امتطينا سرجينا في مركبتنا من جديد ، و الحاجة ' فاطمة ' تنظر إلى المباني في شارع ' السويحلي ' و تقول : ( عمار عمار يا بلادنا ) فعلقت عليها : ( ما قعدتي يا حاجة ' فاطمة ' إلا ' فاطمة أحمد ' الله يرحمها ) المسكينة لم تكن تعلم برحيلها ، فلم تتمالك نفسها ، و بكت من ( الجواجي .. لين طاح سعدها ) هنا احتجّ السائق عليّ : ( يا راجل اسكت .. ما لقيت ما اتدير تو اينوض عليها الضغط .. و تمرضلنا أخرى و نقعدو انعانو فيها ) .. هنا التفتت إليّ و غمزتني بعينها ( راك تحكيلهم عاد .. و ناولتني قطعة عبمبر أخرى محشوّة بجوز الهند من علبة النيدو ) ثم صارت تعدّد أغاني الراحلة ( الله ايسامحك - توبة - فرحانة - عز الرفاقة ) و ركزت على أغنية ( يا عز الرفاقة ) ذاكرة : ( كان صاحب بيتي ايغنيلي فيها الله يرحمه .. عليك غناوة تمسح الكبد .. مش كيف اغنا اعيال و بنات هالوقت .. اللي ايتكرسو و يتخنسو في لخيّم .. الله ايزعم اكبودهم ) هنا صاح الراكب المصري لأول مرة : ( الله .. دي أغنية حلوة أووووي .. لما بسمعها با عيّط .. عشان المادام في دمنهور وحشتني ) .. فالتفتّت نحوه ، بعد أنْ تلثمت بجردها ، مظهره عيناً واحدة : ( باهي اللي سمعنا صوتك يا ودّي .. و انتم ما شاطرين امفيت في لغني و الشطيح ) .. لاحظت أنّ لسان الحاجة ' فاطمة ' انقلب إلى لهجة الجِّهة الغربية ، فسألتها : ( عجباتك مصراتة يا حاجة ؟ ) .. ( و خيرها ما تعجبني ؟! .. راهي وطن جدي .. و من ازمان ما شبحتها .. أخر مرة جيتها .. كانت في جية ولد عمي ' الزّروق ' من الحج .. جيت انباركلها و انحمدله ع السلامة .. أني و أوخيتي سالمة الله يرحمها .. و بعد لغدي .. سألته : زعمك شنو صار في الوطي = الوطا امتاع مصنع الحديد و الصلب .. ما نعرفش خير دعوته .. ركباته مصيبة و فنص فيا زين ' الزّروق ' .. لين اعويناته ازرقن من راسه .. و بعدها طلع و لما روح في الليل .. كلم ولده .. اللي ماد فصخته زي هالسوّاق - الرُّكـّاب : هههههههه قوية يا حاجة فاطمة - و قاله غدوه باش ترفع عماتك للمطار .. بعد لغدي و اللا حتى في لضحي .. راني حجزتلهم في الطيارة .. و منها يا ودي ما عادش شبحتها ) .. المصري : ( الله .. ده ابن عمك مفتري و غتت غتاتة ) .. ( اوسكوت = اسكت .. يا منجوه ايش مالك و مالنا ؟ .. مرة أخرى تطري ولد عمي ابسو .. نهارك أحرف ) .. ( حازر يا حاقة .. مليش دعوة بيكم .. توبة بعد المراااادي ) .. أمست الطريق تسير في اتجاه واحد ، و راحت تتسع أمامنا ، ما زاد في شهية السائق بالإسراع ، فصارت الحافلة كما ألعاب مدينة الملاهي تماماً ، تتقلب ، تطير ، تموج ، تنكمش ، تتمدد ، و ركابها يصرخون ، كما الأطفال لأمهاتهم و آبائهم ، في ألعاب الملاهي : ( سوق بشوية يا خويا .. رانا مش مستعجلين ) و المصري يغني له : ( سوق على مهلك سوق .. بكره الدنيا اتروق / لشادية ) فلم نستمتع برؤية ما تلا مدينة ' مصراتة ' من مدن و قـُرى ، فقد شاهدناها خطفاً ، لأنّ السائق كما احتجّ ، يريد أنْ يعوّض زمن دخولنا إلى ' مصراتة ' - فهو ملتزمٌ بسداد أقساط القرض - بسبب الحيلة العبمبرية للحاجة ' فاطمة ' و بُعيد سويعتين أو أدّنى من ذلك ، دخلنا إلى مدينة ' طرابلس ' فارتخت سرائرنا قبل أعصابنا ، لنستبين أمامنا عدة أبراج قصيرة : ( مجمع ذات العماد - برج : 1 / 9 - فندق كرونتيا ) .. فأخذت الحاجة ' فاطمة ' علبتها ، و بدأت تقرع عليها بفرح ، و هي ترمي بكلامها نحو الحاجة ' رجعة ' : ( قوليلي ما وصلنش عاد ؟ ) ثم أنشدت أهزوجتها المؤجلة ' مشينا وجينا سالمين .. بريكة ربي العالمين ) .. فردّت عليها الحاجة ' رجعة ' الماكرة : ( خللي الدربيك لهله .. و هاتي اهني الحوكة = الحكية .. احني = نحنا اللي مشينا و جينا سالمين .. إلا أنتي و العيل اللي لاصق فيك من جيتنا - و تمديله في العبمبر .. اشبح شني فيه بينكم ؟! - و مش امدورني بكل .. و إن شاء الله ما جا شوري .. اني ما انحبش الراجل اللي يقعد ايتلصق في العزايز .. مازالت قدامكم المرواحة ) هنا علّق المصري : ( الله دنتي مُزهلة يا حاقة رقعة بشكل؟! ) .. و أخيراً قالت الحاجة ' فاطمة ' ما تمنيته منها في ردّها على إهانة الأخيرة ليّ : ( و اللهي هالوليد .. ما اخسارة فيه عبمبر و لا احويجة .. امغير انروحو لوطنا .. تو انزوزه بنتي سليمة ) .. المصري : ( ابسط يا عم .. دنت حزك من السما ) فابتسم الرُّكّاب جميعاً ، حتى الأمانات الموجودة على رفّ السيارة ( الطّبلون ) حينما حركتها الرياح ، ما عدا السائق ، الذي كان ينظر إليها و فيها - تاركاً المقوّد - ليؤديها إلى أصحابه ، بمقابل مالي ، يساوي نصف ثمن الراكب البشري ، و هي : مستندات رسمية : شهادات نجاح ، شهادات سقوط ، شهادات ميلاد ، شهادات وفاة ، شهادات فصل ، شهادات زور ، قرارات طعن ، قرارات لعن ، شجرات عائلية ، بطاقات دعوة ، بطاقات دعا شر ، شهادات عقار ، طابوات طوبوية ، رسائل بلا طوابع بريدية ، رسائل غرام توزن بالغرام ، رسائل لفت انتباه ، ملفات باحثين عن عمل ، ملفات فاقدي الأمل ، طلبات لجوء اقتصادي ، طلبات لجوء اجتماعي ، طلبات لجوء ثقافي ، مناشدات حقوقية ، مناشدات طبية ، مناشدات أدبية ، مناشدات رياضية ، استشارات فنية ، استشارات هندسية ، استشارات زراعية ، استشارات صناعية ، استشارات قضائية ، استشارات بلا إشارات ، برقيات إعجاب ، برقيات استغراب ، برقيات عتاب ، برقيات أحباب ، برقيات اخياب ، برقيات مبايعة ، برقيات ممايعة ، برقيات فارغة ، برقيات مليئة بالنقاق ، عقود زواج ، عقود ثلاثية الطلاق ، عقود اشتراك ، عقود افتراق ، صور عشاق ، تقهر المسافات و الاشتياق ، صور عقارات للبيع ، صورة جديدة ، صورة منسية ، صور مفقودة ، صرخات مسموعة ، صرخات مكبوتة ، صرخات موجوعة ، إيصالات استلام ، إيصالات استسلام ، كلها بلا أختام ، رسائل حرفية ، رسائل شفهية ، رسائل مطويّة ، مبالغ مالية ، مبالغ مُبالًغ ٌ فيها ، مبالغ لن تدرك وجهتها ، صكوك ملغية ، صكوك من غير أرصدة ؛ و أمانات أخرى موجودة في ذيل السيارة : فازوات عسل ، عليها عناوين أصحابها لتصلهم جلونات زيت زيتون بدلاً منها ، حافظات مقروض و معمول ، شكاير قعمول ، علب سمن وطني و زبدة وطنية ، ألبان و مشتقاتها ، قطع غيار سيارات .. اللعنة على المركزية .
***
نحن الآن نمرُّ على طريق الشط ، حيث يوجد ( البط و الإوز ) ليلاً ، هناك كانت السيارات متوقفة على نحو كثيف ، و رأينا شيوخاً ( عمرياً ) يلعبون لعبة الورق جماعات جماعات ، و شباباً يمارسون كرة القدم الرملية ، فسألتْ الحاجة ' فاطمة ' : ( ايش دوة هالسيارات يا سوّاق .. اهن ثلاث سيارات .. زي سيارتك .. بالكي تعرف اصاحبهن ؟ ) .. ( يا حاجة ترا فكينا من هالاسئلة ) .. ( امالا تعرفهم يا غضيب ؟ .. راهو إلا حتى انت .. اتجي في الليل هنا ) .. ( يا حاجة ريحينا .. راك فضحتي بينا ) .. التفتت إليّ : ( كنه زعل ؟ و أيش دوة هالسيارات يا ازويدة ؟ ) .. فانخفضت و اقتربت من أذنها موشوشاً ، هذوما يا حاجة :
 (................................................................................. )
- الحاجة فاطمة : كيّة كيّة .. كيف احمار النوّقيّة
- أنا : توا ايش جاب الكيّة لحمار النواقية ؟ .. هذين مش غير كيّة و بس يا اخويلة .. هذين كيّة و نوبيرا و سوناتا و كمري و فيتو و لانسر و ميتشي و هوندايا و فيّة و جيلانت ووووووو .. كلهن سيارات اسماح. - الحاجة فاطمة : ما نحكيش ع السيارات .. انا قصدي كشفة كشفة .. عطهم كيّة .. و محماطة اتمحمطهم .. و مجماجة اتمجمجهم .. فضحوا بينا قدام ( ... ) و ( ... ) تقصد المصريين و الأفارقة .. و اللهي يا باتي عشنا رقادة الريح و ياما صار فينا و ما درنا هالدور = الدير .. ربي يستر على بناويتنا و اعويلتنا .- الرُّكاب جميعاً و السائق و لأول مرة ، يحدث إجماع بيننا طيلة الرحلة : آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآمين .
طلبت الحاجة ' فاطمة ' إلى السائق ، أنْ يرجع بنا إلى الوراء قليلاً ، و إلا فإنها سوف ترمي بنفسها من السيارة ، فتوسل إليّ أنْ أمنعها من ذلك : ( يا اخويلة ، المحطة ما زالت قدام و قريب نوصلوا خلاص ) .. فأصرت على طلبها إلحاحاً ، و أعادت تهدّيدها لنا جميعاً ، لو أنّ السائق لم يعد بنا ، و نزولاً عند عنادها ( ما غبّاكم عاد .. في اعناد العزايز ) رضخ السائق ، و دار بنا من عند الجسر المجاور لمدينة الملاهي ، و أدركنا بُغيتها ، و هناك بعد أنْ توقفت الحافلة ، فتحت الباب لتخرج ، و ارتفعت قليلاً فوق ربوة رملية ، لتوجّه نحو هذه السيارات و أصحابها ، صاروخ ( فم - وجه ) مُتعدِّد الرؤوس ، أكثر فاعلية من صواريخ ( شهاب ) الخمنيئية الفارسية : ( اتفووووووووووووووووووووه عليكم يا عساكر سوسة ) .. و تمتمت بصوت متهدج نتيجة ً لجفاف ريقها : ( ................... ) ثم عادت إلى قواعدها سالمة ، و قد أحسّت براحة ضمير ، فقد أفرغت كل حمولتها ، بعد مواجهتها لهذا المنكر الذي رأته ، بما تستطيع ، ثم بكت قليلاً ، و استشعرت بالحسّرة ، لأنها لم توجّه الصواريخ ذاتها ، للاعبي ( الكارطة ) و كرة القدم - لا أدري ، لماذا عجائزنا ، أشّجع و أجّسر و أكثر إباءً من شيوخنا ( عمراً ) الذين باتوا يلتزمون الصمت ، حتى إذا رأوا مشاجرة بين أطفال ، لا يتدخلون حتى بالكلمة الطيبة - فيتكلمون ، حينما يجب الصمت ( في المساجد ) و يصمتون ، حينما يتوجب الكلام ( خارج المساجد ) ؟ - فطمأنتها : ( أكيد قد أصابت وجوهم ، شظايا صورايخك يا حاجة ) .. ثم انخفضت عند أذنها : ( سمعتك يا حاجة .. ايش قلتي امبدري ) .. ففتحت ( حكية النيدو ) و لم تجد فيها أية قطعة عبمبر : ( يا وليدي راهو العبمبر كمل على شبابك .. و انا جايبته لـ ' اسلومة ' مش لحضرتك ) .. ثم نظرت إلى ' أسلومة ' الذي كان يرقد في حجرها بوداعة ، بعد أنْ بكى من صفعتها ، ثم غطّ في نوم عميق ، و قبّلته في خدِّه ، و هو نائم ، بحبِّ و حنان و اعتذار ، لتمسح بشفتيها ، آثار جريان الدموع على خدّيه .. ردّدتها إليها : ( سمعتك يا اخويلة .. ايش قلتي امبدري ) فرمت كما اللبؤة الشرسة ، بعلبة ( النيدو ) الفارغة في حجر الحاجة ' رجعة ' و قالت جهراً : ( تحسابني خايفة ؟ .. و اللا انحس في حد ؟ راني ما انخاف إلا م اللي خلقني .. ايوه لنقني قلتها ، و ما زلت انقولها و انقولها : ( .......................................................... )
لحظتئذٍ ، و على حين غرّة من الجميع ، كبح السائق الفرامل ، حتى انقلبت ( فرملته ) على رأسه ، و رنت النقود المعدنية في جيوبها ، و سقطت ( معرقته ) من النافذة هي و الأمانات - و المصري يولول : ( الله ! .. في أيه يا قماعة .. ما اتفهمونا ايه الحكاية ؟ ) - فنزل مُسرعاً من سيارته ، مثل الإعصار ، و طلب من الحاجة ' فاطمة ' أنْ تسدد له ثمن أجرة مشوار ' مصراتة ' و إلا فلتنزل من فورها ، فقد صار لا يستطيقها : ( يا حاجة صدق فيك السوّاق الأول .. شكلك تبي اتودرينا .. انزلي الله يستر بيتك .. اني مش ناقصك .. و مش ناقص مشاكلك ) .. نزلت الحاجة ' فاطمة ' و حفيدها ، و هبطتُ وراءهما من الحافلة ، و نفسها و نفسي و نفس ' اسلومة ' حافلة بغصّة من السائق الجبان التافه .
إذن فقد حطـّطنا أخيراً في ' طرابلس ' و الغريب في الأمر ، أننا دخلنا إليها من دون استئذان ، و لا طرق لأبوابها ، فليس ثمة حواجز و لا بوابات على مشارفها ، بعكس أماكن أخرى ، كنا قد مرّرنا بها ، فيا للعجب ، ألا يكون لهذه المدينة - العاصمة - أية قدسية ! .. نحن الآن بالقرب من الكورنيش المقابل لفندق ( المهاري ) نظرنا بأسى نحو الحافلة ، فبانت أمامنا من خلف الزجاج الخلفي للسيارة ، كفاً سمراء تلوّح لنا و تودعنا ، و إذا بها كفُّ الأفريقي ، الذي يحرك شفتيه الغليظتين ، فدبلجتها ، وفقاً لحركتهما : ( باي باي .. ماما فاتِمة ) .. على الرصيف سألت الحاجة ' فاطمة ' عن وجهتها ، و قبل أنْ تجيبني ، صفـّت سيارة كحلة و بيضا ( تاكسي ) بقربنا .. فتحتُ الباب ، و أصّعدتها هي و حفيدها ، الذي لم يفق بعد من نومه ، وسط ترحيب السائق بنا : ( انستونا .. أنتم شرارقة ؟ ) .. ( نعم ) .. ( عرفتكم من تشميلة الحاجة ) فطلبت إليه ، أنْ يمضي بها إلى حيث وجهتها ( قــُرجي ) و قد أمرت الحاجة ' فاطمة ' أنْ تلتزم الصمت طوال المشوار ، حتى تصل ، و بعد أنْ سألت السائق عن ثمن أجرته .. ( 5 اجنيه ) .. ( مش واجد يا خويا ؟ ) .. ( و اللهي زحمة .. و هاذوما أسعار العاصمة ) .. ( يا حبيبي .. رانا حتى نحنا جيينكم من مدينة كبيرة هي عاصمة الشرق .. و لا تقل في شيء عن مدينتكم ، سوى في بعض الاهتمام من الناس الحلوين ) .. دفعتُ ثمن الأجرة مُكرهـَاً ، من جيبي الخاص ، فالحاجة ' فاطمة ' تستحقُّ كل خير ، و لا يغلى عليها غالٍ ، ثم سألتني و سألتها في آن واحد ، بعد أنْ صعدت ، من زجاج نافذة :
- هي : ما قلتليش يا اوليدي .. أنت لمن جاي هنا ؟ .
- أنا : يا اخويلة .. انتي وين تسكني في بنغازي بالزبط ؟ .

اصطدمت جبهة سؤالي بجبهة سؤالها ، حتى تكدّمتا ، و دارت عصافير الدوخة حولهما ، و سقطتا أرضاً ، حينما تحركت السيارة بعجلة ، فلم تسمع إجابتي : ( أنا جاي انزور .... ) .. و لم أسمع إجابتها : ( نسكن جنب سوق ... ) .. ترى لماذا لم أسألها سؤالي هذا ، طيلة يوم كامل ، و نحن معاً في الحافلة ؟ فيبدو أنني أحبّبت هذه العجوز الطيبة ، إلى درجة أنني ، شعرت بأنها من عائلتي ، حتى أمسيت في حلٍّ من طرح ، و افتراش هذا السؤال .
ها قد صرت على أرض طرابلس ، و طبعاً سوف لن أفعل ، مثلما فعل ( تكميل / شخصية : غوّار الطوشةِ المُزيف ) في أول حلقة من مسلسل ( وادي المسك / رائعة محمد الماغوط ) حينما نزل من الطائرة ، و أوهم كلَّ من حوله بأنه محبُّ لبلاده ، لما ارتدى زيَّهم الوطني ، و سجد سجدة واحدة على أرض المطار ، و قبّـل ثراه ، إجلالاً لوطنه ، فاستخفّ بعقل المُغفل ' ياسينو / ياسين بقوش ' الذي صار فيما بعد ، رئيساً لمجلس البلدية ، و بعاطفة من يُفترض أنْ تكون شقيقته ' كوكب / منى واصف ' و بحِنكة و دهاء ' المحترم / رفيق السبيعي ' فأطاعوه جميعاً .. فأنا لا ألبس زينا الوطني ، إنما بضاعة الأمبرياليين ( سروال أمريكي ) لكنه تركي المنشأ .. خطوت خطوتي الأولى ، بقدمين متثاقلتين ، سرى فيهما التنميل ، نتيجة لتقييدهما لأكثر من يوم كامل ، بالجلوس في مقعد الحافلة ، و أخذت أعطس ، من جرّاء اختلاف درجة الحرارة ، من هواء السيارة البارد ، إلى هواء طرابلس اللافح ، العطسة الأولى ثم الثانية ...... إلى الثامنة ، و غابت التاسعة ، التي أعرف بها عادةً ، نوع هذا العطس ، فهل هو عادتي الدائمة ، إنْ حضرت ، أو هو الأنفلونزا ، هذا إذا غابت ، و حتى مجيئها ، صعدت إلى أعلى الجسر ، أي عند نقطة إنقلابه ، التي يبدأ بعدها الانحدار إلى أسفل ، لأنظرَ بالمجّان إلى مدينة الملاهي ، بعدما أشّعلت أخر لفافة تبغ ، بقيت معي ، و أتكأت إلى الممسك الحديدي الخاص بالمشاة ( التربزيون ) مرتكزاً على رجلي اليسرى ، و رافعاً اليمنى إلى أعلى ، و على هذا الممسك ، لأرى من بعيد ، شاباً عريض المنكبين ، يصعد لعبة ( الصحن الدوّار ) و هو يصرخ ، فتيقنت بأنّ التفاهة هي مصيبة كبيرة ، و قد حلّت بالمجتمع الليبي ، فأنا لست متفرغاً ، و هناك ما يشغلني دوماً ، أنا ( لاهٍ ) فكيف ألعب في هذه الملاهي ، ثم يكفيني أنني نزلت سالماً ، و من معي ، من ملهاة الحافلة ، التي مضت بنا لعشر ساعات متقطعات .. ( خدفت * ) عِقاب السجارة ، نحو ذلك الشاب ، ليسقط قبل أنْ يصله بمسافة طويلة ، فتذكرت صاروخ الحاجة ' فاطمة ' ( فم - وجه ) و هبطت من الجسر ، بسرعة دفع الانحدار - على كتفي ( الصاكو ) باتجاه الكورنيش - لتحضر عطستي التاسعة - الذي كان عامراً في يوم الخميس ، السابق للعطلة الأسبوعية ، أنا الآن أمشي على بّلاط الشعوب الأحمر ، لا في بـِلاط الملوك ، على يميني ، ثمة ذكور و إناث ، خِفافاً و ثِقالاً ، زرافات و أحاد ، أزواج شرعيون ، و أزواج غير مُطهرين ، عائلات و عزّاب ، شباب و شابات ، بعضُهم في حالة انتعاش ، و بعضٌ آخر ، في حالة ارتعاش ، و بعضٌ ثالث ، في حالة اشتباك بالأيادي ، و بعضٌ رابع ، في حالة ارتباك .. هناك طفلة صغيرة ، أراها قادمة نحوي مُسرعة ، فاردة جناحيها ، فركضتُ نحوها لئلا تقع ، و حضنتها و رفعتها ، ثم أطلقتها عالياً ، لتخترق الهواء و هي تضحك ، ثم نظرت إلى عينيها الواسعتين الرقراقتين ، حتى رحلت في ليلهما البهيم ، ثمة أمل فيهما ، ثمة إشراقة فيهما ، ثم ألصقت جبينها الأغرّ بجبيني الأسمر ، حتى نعست عيناها ، و تمغنطتْ بمجالي الكهربائي ، و كادت أنْ تنام ، نتيجة لتقابل و تبادل الشحنات بيننا ، شحناتِها موجبة ، فسلبتني شحناتي السالبة ، حتى أنارت جبيني ، و ناولتها أخر قطعة ( عبمبر ) أعطتني أياها الحاجة ' فاطمة ' كنت قد احتفظت بها في حقيبتي ، ثم ( دودشت ) بها حتى وصلنا إلى أبويها الجالسين على مقعد خشبي ، و حينما سلمتها لهما ، قيّدت أمها حركتها ، فصارت تصرخ ، مُلوِّحة بيدها ، و تناديني ( عمو .. عمو ) المسكينة ما جاءت لتجلس ، بل لتجري و تقع و تنهض ، تريد أنْ تتحرّر من عِقال الطفولة ، حينما تقيّد يدها في يديّ ، و نحن نسير ، صرت أمشي ، و التفت إليها ، و شيئاً فشيئاً ، باتت تصغر حتى أصبحت تتلاشى ، كما نقطة ضوء ، أو هي أشبه بنمظر الشمس ، حينما يبتلعها البحر .. الوقت مساء ، فلم أرَ شمس ' طرابلس ' وضعت حقيبتي أرضاً عند أول ( كافتيريا ) على الكورنيش - مرسومٌ عليها شعار نادي الأهل ، من دون حرف الياء ، فالياء تخص نادي الأهلـ(ي ) ببنغازي ، و ينتهي بها ، مثلما اسم بنغاز( ي ) إذاً فهي ياءٌ بنغازية النسب و الحسب - طالباً كوب ( مكياطة ) و علبة تبغ - بالمناسبة ، أشكر كل من دعا ليّ بترك الدخان ، و قد تركته بحمد الله إلى غير رجعة و لا الحاجة ' فاطمة ' و لا ' اسلومة ' بعد ثلاث سنوات من هذه الرحلة ، و ساعتبر دعاءهم ليّ بتاريخ رجعي - وتفاجأت بأنّ سعر المكياطة ، يزيد عن سعرها في بنغازي بربع دينار ، و كذلك علبة التبغ ، فهي تزيد بنصف دينار عن سعرها في بنغازي ، لكني لم أعرف عِلـّـة ذلك ، إلا بعدما شاهدت زبوناً ، جاء في إثري ، و اشترى كليهما بالسعر البنغازي ، و عرفت أنّ السبب ، يكمن في قولتي : ( بكم الدخان ؟ .. و بيش المكياطة ؟ ) و قولة الآخر : ( قداش للاثنين ؟ ) .. احتجّجت على البائع ، و احتجّ بدوره ، بأنّ المحل على الكورنيش ، و أسعاره سياحية ، فعاتبته : يا حبيبي ، لا تكذب عليّ مرتين ، فهذا لا يجوز ، لأننا أبناءُ بلدٍ واحدٍ ، و نحن في بنغازي ، لا نقوم بذلك حتى مع الأجانب ، فلا تجعل كلمتي ( بكم ؟ و قداش ؟ ) تفرقان بيننا أكثر من المسافة التي تفصلنا ، و سنتنازل عن ياء الأهلي في مقابل ذلك .. فأنت بذلك تزيد من شساعة الفرق بين المدينتين ، و بين أهليهما ، و نصرهما و اتحادهما ، و تحديهما و وحدتهما ، و هلالهما و ظهرتهما ( جمهوراً و أناساً ) .. ( رانا مش ناقصين أمثالك .. ممّن يدقون أسافين الفرقة ) فلا تكـُننّ ممن قال فيهما رسول الله عليه الصلاة و السلام في الحديث ، عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه : 'من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً '.. فأنا لست مُلزَماً و لا مُستعِداً ، لأنْ ألوي لساني ، و أتحدث بلهجتك حتى أقضي مصلحتي ، ليس تعالياً على لهجتكم ، التي أحبُّها ، لكني إنْ فعلت ذلك ، سأكون مُمثلاً و كذّاباً ، و أربأ بنفسي أنْ أكون هكذا ، فلا تكـُن كذلك - و أنا أربت على كتفه - و إلا حُقّ عليك هذا القول .. عموماً شعر بخطئِه ، و تجاوز عن الزيادة في السعرين ، مع أنني كنت قد ناولته ما طلب .

***

بعد أنْ تردّدت ، و أجّلت سفري إلى ( طرابلس ) لأكثر من مرة ، التي في أغلبها تكون مكّوكية - حيث إنني ، لا أمكث هناك إلا لثلاثة أيام ، أو أربعة فقط - لكوني أترك وراءي مدينة جميلة و حبيبة ، أفتقدها و تفتقدني ، لكني لا أحبُّ أنْ أحسبَ على أية واحدة منهما ، لا أحبُّ أنْ يصيح ليّ أحدهم : ( يا شرقاوي و لا يا غرباوي ) فيا ليتك يا عادل عبد المجيد ، غنيت : ( لا تقولي شرق و لا غربي .. أنا ليبي و عربي ) بدلاً من : ( ...... أنا عربي ) - خشية المخاطر و المصاعب ، التي تتهدّدنا في الطرق و الجو إلى هذه المدينة ، التي حالت بيننا و بينها ، عديد الفواصل الطبيعية و البشرية .. أنا جدّ متعبٌ من هذه الفيافي الساحلية التي قطعتها ، قرّرت قبل كل شيء ، أنْ أذهب إلى أول مكتب للسفريات ، لأحجز تذكرة عودة ، عملاً بنصيحة أمي ، و لكي أتخلص من مشقة العودة ، و سفاهة البعض من قوّاد الحافلات .. هناك في شارع ( المقريف ) وجدت محلاً للسفريات ، و عندما علوت عتبته ، تناهى إلى سمعي ، صوتُ مُغنيّة سفـّاحة ، تغني هذه الكلمات الدموية ، التي أرقنها للفئة العمرية ( 35 + ) :

لوكان نلقي من يطول وريدي
لين نمسكه وانجيب قلبي في ايدي
...
نلقي دامي
 يدخل علي قلبي بمخية حامي
ينسي المحنه ويفرشه قدامي
 لين ننفده ونرتاح من التضميدي
...
نلقي عارف
 يوصل لشرياني وصديده دارف
يسحق مكانه وينزفه بالغارف
ويشلحه ويقدده تقديدي
...
نلقي شاطر
 يفتح علي قلبي السد القاطر
نوتاح من الوحشه وضيق الخاطر
 والنزف والتسطير والتضميدي
...
نلقي قاسي
 يفتح علي قلبي العصر الماسي
نقلع عروقه ونسحنه بمداسي
 اندير في مكانه قلب صب حديدي ..

الغريب أنّها تبحث عمّن يطول وريدها ، و هو تحت الجلد مباشرة ، فماذا نقول عن المسافة بين بنغازي و طرابلس إذن ؟! .. لا أعرف كيف قام المُنفـِّذ الموسيقي ، بإعداد الموسيقا لهذا اللحن الشعبي لهذا العمل ، من دون أنْ يُبدِي بأية ملاحظة على دموية كلماتها ، و هنا تستوقفني حكاية للسيدة ' أم كلثوم ' حينما استلمت نصاً غنائياً من الشاعر ' حسين السيد ' و ما أدراكم من هو ؟ و أعجـِبت به ، سوى أنها طلبت إليه ، أنْ يستبدل كلمة ( نار ) في إحدى أبياته ، بكلمة أخرى ، أقل إيلاماً منها ، فرفض ، و رفضت هي من ثم ، أداءها ، و لم ينتج أي تعاون بينهما ، فماذا لو قرأت نصّ هذه الأغنية ، أو بالأحرى العمل ؟ أظنها كانت ستعتزل الغناء و هي على قيد الحياة ، حزناً على ما وصل إليه الحبّ و الشعر من يأسٍ و جُرمٍ .. و يبدو كذلك ، أنّ كاتبها ، قد شعر بمدى فظاعتها و دمويتها ، لذا وظـّـفها في رثاء الرئيس العراقي الراحل ' صدّام حسين ' بعد شنقه ، و ها هي مفرداتها ، للفئة العمرية ( 40 + ) :


لو كان نلقى من يطول وريدي
ويحكم عليا إعدام ليلة عيدي
...
نلقى قاضي
 يحكم عليا إعدام يمشي راضي
ويسلموا لأهلي جميع إغراضي
عليا اقطعوا التكبير والتشهيدِ
...
نلقى دامي
لا يسال مترافع ولا محامي
مصر في الجمعة يكون إعدامي
الوقفة إعدامي الساعة ثلاثة الفجر بالتحديد
...
نلقى ظالم
علشان يعدمني يتحدى العالم
وجيش العرب كيف عادته مسالم
جيش مسالم اللي نقوله داوم يقول ويش بيدي
...
نلقى قاسي
غاوي إعدام وموت فاشي
وفاسي ينسى العرب ويدير رأسه وراسي
عنده نهار أنموت يوم سعيدِ
...
نلقى طاغي
يحكم بتعليقي يطير دماغي
 تبدأ العرب بعدي اتجاغي وماغي
سنة ومراجع ما تقول شهيدِ
...
نلقى كردي
يحكم عليا إعدام يقطف وردي
 ويسلموا لامي زبوني وجردي
عليا منعوا العياط والتشليدي
...
لا العروبة
لا جامعة خمسين عام أكذوبة
 والإسلام بدري دنسوله ثوبه
لا يفيدني مصحف نقلته في أيدي
...
لا خو داني
لا شعب وفى بالعهود وجاني
 في رقبتي حطوا أحبال مواني
ايديا وراي وفي الإقدام حديدِي
...
لا محامي
لا يفيدني شاهد وقف قدامي
 والناس ترقص فارحة بإعدامي
تذبح وتسلخ ناشرة القديدِي
...
ليه ما جوني
ساعات أعدائي يفتشوا في أسنوني
 ما نيش خايف ولا مغطي عيوني
لاحق اولادي والشهيد حفيدي
...
الموت مش غالي
لا من يعزي والقصور خوالي
 ايدورن ابنويتي اظلال لوالي
بهن يبرمن الأيام برم سميدي
...
اتجي العصابة
ترقص على صدري أسفاه طرابة
 العلوج تحرسهم.. عالم غابة
وحكام مسيوقة بعقاب عرف جريدِ
...
صرتي لعبة
يقولوا عليا طاغي مكمل شعبه
 اللي يسلموا دولار يأخذ كعبة
يقضي حياته في نعيم رغيدي ..



واااااااااااااو .. يا للبشاعة ، لم أعرف ، هل أنا أمام مكتب للسفريات أم أمام جزّار ؟ دخلت متوكلاً على الله ، فوجدت شابة جميلة ( اتقول اغزيّلة ) جمالها في حِجابها ،مسؤولة عن الحجز ، جالسة على كرسيها الوفير ، و حينما دنوت منها ، ابتسمت ليّ ، و أشارت إليّ بسبابتها المختفية تحت قفاز أسود ، نحو فتاة أخرى ، اسمها ' حنان ' ترتدي ( بنطال جينز و تي شرت فاقع اللون ) رأيتها و هي ترشّ ملطف الجو في أرجاء المكتب ، وتدوّر سلسال الميدالية على أصبعها ، و تتبرد بمكيف الهواء ، و تستمع إلى أغنية المذكورة ، فرجوتها أنْ تحجز ليّ غداً مساءً ، خيّرتني : هل تريد الحجز على طائرة شركة البّراق ، أو أيّة شركة أخرى ؟ .. أجبتها : في أية طيارة لأية شركة طيران ، حتى لو كانت الحصان الخشبي ، فلا ثمة أي فرق أراه ، بين هذه الشركات ، فجلست إلى جهاز الـ ( كمبيوتر ) و هي تتفحص مواعيد السفر في الشاشة ، و تردّد بصوت باهت و خفيض ، كلمات الأغنية مع المُغنية التونسية ، بإتقان و اندغام ، ثم سألتني :
- هي : ( أنت شرقاوي صح ؟ .. العفو .. خيرك مستعجل ؟ ) .
- أنا : ما تفرقش يا حنة شرقاوي و اللا غرباوي .. كلنا مضروبين بعصا وحدة .. بس كيف عرفتي أني شرقاوي ؟ .
- هي : من لهجتك .. اني انموت في لهجتكم لين خلاص .. و خاصة غناوي العلم .
- أنا : ايوه .. بس أنا ما انحبش غناوي العلم و ما نستعملش فيهن .. و حتى لما واحديبعثلي ... قاطعتني : قصدك وحدة .. أكملت مع تفنيصة : لا واحد .. أي أغنية علم على النقال .. نمسحها من جهازي .. من أول ما نقرا أول كلمتين فيها .
- هي : اعلاش العفو ؟ .
- أنا : خللينا في موضوعنا .. ها حصلتيلي حجز بكره ؟
- هي : اييييييه .. عندك حظ .. بس حجز مفتوح مش ( ok)
- أنا : ان شاء الله بس .. ايصير من الرحلة و ما ايعطلونش ؟ .
- هي : خوذ رقم المكتب اهوا ( .....021) و لو عطلوك غادي .. شرين = رن علينا بس .
 خرجت من عندها - و أنا أقلب ( كرت ) المكتب لأجد في ظهره ، رقم نقالها ( ... 092 ) مكتوب بخط اليد ، و إلى جانبه اسمها و عبارة ( ماتنسانش من غناوي العلم ) - و لا أحتكم إلا على أربعين ديناراً فقط ، نصفها ثمن المبيت لليلة واحدة في الفندق ، أما النصف الثاني ، فنصفه ، سيذهب ثمن أجرة السيارة إلى المطار ، و العشرة الباقية ، سأعيش بها يوماً رائعاً في عاصمة بلادي الجميلة ، التي وجدتني لا أستطيع مقاومة ، و صدّ رياح الشوق إليها ، و قرّرت السفر إليها من دون تخطيط مسبق ، فغالباً ما تكون قرارتي و حتى كتاباتي ، هكذا ارتجالية و وليدة اللحظة و ابنتها ، فلا تخضع إلا لمبدأ واحد ، هو ( ما في قلبي على قلمي ) .. ليس لدي أصدقاء في طرابلس ، مع أنّ أبناء عمومتي أغلبهم هناك ، و أعتزّ بهم ، فأنا ما جئت لأجلس و أمكث في ( المرابيع ) لأخوض في أصول الناس و مراجعهم ، كما هي عادة جُلاس المرابيع .. هناك أحبّ أن أكون لوحدي ، أنام لوحدي ، أحكي مع نفسي ، و أمضي في شوارعها البكر بالنسبة ليّ ، غير شوارع بنغازي ، التي استهلكتها و استهلكتني ، جميل أنْ يسير المرء منا في شوارع جديدة ، و لا يقف بين الحين و الآخر ، إلا إذا ابتغى استجماع قواه ، لمواصلة المسير ، وقتما يربط شسع حذائه بإحكام ، فيخفُّ به خفـّاه ، و يستخفّ بالضوابط - التي لا معنى لها ، من مثل نهيهم : ( عيب ما اتحطش ايدك في جيبك .. عيب ما اتحطش قدمك ع الحائط ) و ما إليها من عيب غريب و عيب عجيب آخرين ، فهذه برأيي ليست مقاييس للأدب - أو يخرج قدمه منها من شدة التعب .. أنا لا ألبس جوارب ، أنا أسابق الزمن ، كي أستطيع أنْ أمشي و أمشي ، في أكثر عدد ممكن من زواريبها و حاراتها - فالوقت أمامي ليس كافياً - كلما تضورت جوعاً ، أكتفي ( بنفص مفروم ) من الحاج ( أعمُر = عمر ) في ميدان السويحلي ( حانط و اتقوليش ) - يصعب على بنات هذا الوقت إعداده - أو أستريح على مصطبة أمام أي مسجد ، أو عند أقرب مقهى ، لا أريد أنْ أستريح في الفندق ، سأرجيء حجزي إلى أخر الليل ، مع أنني قد وصلت مساءً ، فأنا ما جئت لا أستريح ، جئت لألتهم بقدميّ الطرقات ، أتيت لأدرك النهايات العظمى و الصغرى و النقاط الحرجة و نقاط الانقلاب و الانفلات و الانحدار و الاندحار .. الشوارع لا أهتم بمسمياتها ، و لا أقرأ اللائحات المعلقة في بداياتها ، فلا تعنيني من قريب و لا من بعيد .. الشخوص و النفوس ، لا أنظر إلى ملامحها و لا تهمني ، سواء كانت لرجال أو لنساء ، لا يعرفني أحدٌ ممّن يسيرون فيها ، جميل أنْ يجرب أحدُنا ، رجع طرقات حذائه على أرصفة و معابر ، غير التي ألِفها ، فيغني على وقعها ، و يواصل غناءه بحبٍّ .. أنا الآن في شارع ( شيخ الشهداء ) بعد أنْ تركت ساحة الشهداء ، ورائي ، على كتفي حقيبتي ، لا أضع قلماً في جيب قميصي ، و لا أحمل ( لابتوب ) معي ، أرقن جُملي و خواطري و مشاعري على شاشة صدري و عجزي العموديتين و الحُرتين ، جاعلاً قافيتهما ، ما أقتفيه في الجادات ، من لمحات و ملامح و ملاحم .. في يدي قنينة ماء ، جئت بها من بنغازي ، مع أنني لا أحبُّ أنْ أشرب من هذه المياه ، لأنها تـُشترى و تـُباع ، و لأني مالح الهوية ، مالح العرق ، مالح الدم ، مالح الطعم ، لا أقبـّـلُ أطعمتي بالملح و لا الليمون و لا الفلفل - فيكفيني ملح مائي ( البنيني ** ) و حرقة دمي و حرارة ضميري - و لا أرتوي من هذه المياة العذبة و المُقنـَّنة وضعياً في عُلب بلاستيكية - النـّهريون من الشعوب الأخرى ، على الرغم من نضارة وجوههم ، إلا أنّ لا ملحاً في دمائهم ، و حتى إنْ كانوا خفيفي الظلّ ، فهم يعانون من برودةٍ في الدم ، أما نحن ، فملحُ دمائنا ، يجعلها تنضغط في أوعيتنا ، فتحّمر مُحيانا ، غضبة ًلله لا للنفس ، حينما يحترق القلب ، لرؤية أية موجعة و فاجعة ، و منكر الفعل قبل القول ، حتى تتعبأ في الصدر ، فتنفجر إلى المخّ ، و تـُولدُ لدينا نار الإباء ، التي لا تطفيها إلا مياه أجواف صحرائنا - كلما فرغت ، ملأتها من أول صنبور يقابلني ، حتى إنْ كان خرطوماً في حديقة ، بعد أنْ أكرع منه ، و أبلل رأسي بالماء - الذي أجده مالحاً ، و لا يتباين مع مذاق مائنا في بنغازي - حتى يتبخر من شدة الوهج ، و تتبخر معه أحلامي المستحيلة ، مُكوِّنة سحابة ضائعة في سماوات الله ، يعلم بسرها ، فيعوضني عنها خيراً ، أو تسوقها الرياح الغربية ، للقاطنين و القانطين في الضفة الثانية ، فتمطر عليهم شآبيب الأمل في قلوبهم .. أنتعل ( سفتي إيطالي ) أسمع وقع طرقاته على أرض طرابلس : طق طق ( امشهدر بيا ) هذه ( الطقطقـّات ) ليست بغريبة عن مسامعي ، هي بكل تأكيد ليست بـ ( طقطقة ) الدرباكين على الطبول ، و لا على ( حكاكي النيدو ) .. فهي تذكرني بشيء ما .. ( طق طق .. خليفة طقطق ؟ ) لا لا .. فهذا جارنا الخبّاز في بنغازي ، الذي تركته يغربل دقيقه أمام مخبزه .. ( طق طق .. طق أو دقّ الباب تسمع الوجاب ؟ ) .. لا ليست هي ، فهذا مثل شعبي ، و البيت هو الآخر هناك في بنغازي ، و بابه عمره الآن ، ستون من السنين ، و لم يُغلق يوماً في وجوه طارقيه ، فنحن نتركه من الصباح إلى ساعة المنام ، متعرجاً أمام القادمين ، و ليس لبيتنا العربي جرس استقبال ، و لا حتى جرس إنذار .. ( طق طق .. انطقطق على حالي ؟ ) و لا هذه أيضاً ، التي أبتغيها ، فهذه يتلفظها شباب بنغازي ، الذين يشتغلون على سيارات الأجرة الخاصة ( المشوار بدينار ) .. ( طق طق .. طقطقطقطق ؟ ) .. يا ساتر هذا رمي ( صلي ) - و ليس بمفرد - من مدفع ( كلاشنكوف ) لا أملكه ، مع أنّ هناك لافتة تقابلني تقول : ( .... و .. و السلاح بيد الشعب ) لالا .. ليس كذلك .. الواضح أني ( قريب انطقطق رسمي ) .. ( طق طق .. طق طربق ؟ ) .. لا لا ، فهذه لعبة شعبية عنيفة ، كنا نلعبها - بعد أنْ أغلـِـق متجري الألعاب في بنغازي - و كم من مرة ، انتفخت أصابعنا منها .. ( طق طق .. طق طرباق ) .. ( أأأه يا اكريعتي ) أصطدمت بنتوء عثرة ، فعثرت ، كدت أنْ أقع ، أمام بنات صغيرات مغترات بأنفسهنّ ، عائدات لتوهن من المدرسة .. ( حيه عليا .. تو يضحكن عليا .. و ايقولن من الشلافطي اهوا .. اللي ما يعرف يمشي ع الكيّاس ) .. استجمعت قواي ، و عدّلت قامتي من جديد ، صمّمت أنْ أتذكر هذه الطقطقة ( طق طق طربق .. طرشق يا الوشق ؟ ) و لا هذه كذلك ، فهي أهزوجة شعبية طيّارية ، لا يمرُّ عرس في منطقتنا ، إلا و كانت مصاحبة لدبكة عالية ، و تصفيقة أيادي مرتفعة ، و بأبخرة بخور و وشق تعلو ، لا لا .. فالطقطقة التي أسمعها ، صوتها صادر من مكان منخفض .. ( طق طق .. طق القلب ؟ ) نعم هذه هي ( الطقطقة ) التي أبحث عنها ، حتى وجدتها :

ايطق القلب و مجور عليا .. جابد شوق من ماضي الغية
متقاوي صطيره غير.. يبنين مخلفي الحيرة
قالوا دواه ع غزال السريرة .. هو الطب لاوجاعي الخفيه
ايطق القلب
...
نا غزالي كواني و رمش .. العين ببساطه رماني
القلب شتاق لقربه دعاني .. زاد الشوق مع اوهام العشيه
ايطق القلب
...
ياما شتقت قربه بعد .. لصبر ما هونش حبه
نعيش حزين في وحدة و غربه.. طول الموح و اوهامه الشقيه
ايطق القلب ..

رحم الله من طقـّطقـّها في طبلة أذني و غنّاها ' نوري كمال ' و أطال الله في عمر شاعرها ' مسعود بشّون ' و من لحنها ' عبد الباسط البدري ' .. فهذه الأغنية ، يسمونها من ضمن الأغنية الطرابلسية ، و لم أعرف ما هو تفسير هذه الأغنية ، فإذا كان مُحدِّداً لجهتها ، وفقاً للهجتها فقط ، فهذا قول معقول ، أما إذا كان المقصد من خلف ذلك ، صبغ و تأطير و تقنين و تميّيز ( الأغنية الطرابلسية ) بخصائص موسيقية و فنية ، تخصُّها و ليست منها - كما في الأغنية المرسكاوية ، التي تعرف بألحانها المعروفة ، و القدود الحلبية مثلاً ، التي تتميز بخصائصها عن الأغنية السورية في المدن الأخرى ، بصفة خاصة ، و العربية على وجه العموم - فهذا لا معنى له أبداً ، فليست هناك أية خاصية و لا ميزة فنية من هذا القبيل ، تفرّقها عن الأغنية الليبية في المناطق الأخرى ، سوى اللهجة المُغنى بها ، عليه سأعتبره مُسمى جهوياً - لا ينطبق على هذه الأغنية بالتحديد ، لأنّ ناظمها شاعر من بنغاز(ي) - و أعتقد بأنّ الموسيقيين التوانسة هم من ابتدعوه ، حين تميّيزهم بين الأغنية التونسية و الليبية .. و أذكر حينما خرجت من مكتب السفريات في شارع ( المقريف ) و توجهت قدماً ، أنني وجدت الأستاذ الفنان الكبير ' سلام قدّري ' جالساً أمام محله ، الذي يبيع فيه الآلات الموسيقية و الأشرطة الغنائية ، و حينما اقتربت منه ، دخل أمامي شاب إلى المحل ، و حينما نهض متثاقلاً إلى الداخل ، سأله الشاب : ( معليشي يا أستاذ .. نلقى عندك أغنية حبيبي تجرح فيّ ) .. ( لا ) .. ( باهي عندك أغنية : ايطول وريدي ؟ ) .. ( لا ) .. تدخلت مخاطباً الشاب : ( ستجدها هناك في مكتب السفريات ) .. أحبّبت أنْ أدردش معه بخصوص مفهوم الأغنية الطرابلسية ، غير أنّ صفوه ، قد تعكـّر من ذلك الشاب ، و بان عليّ متعباً جداً من المرض ( صعب عليا ) فلملمت شعث فكرتي و بعضي و عدت ، لأنني لم أقدّر على رؤية ' قدّري ' بهذا المظهر ، شفاه الشافي ، فلك من قلبي سلام ٌيا سلام ، و هذا ليس قدّرك يا قدّري .. لذلك أوجه سؤالي إلى علماء و عظماء الموسيقا عندنا .

 اندلقت إلى مبنى السراي الحمراء ، و كان موصد المصاريع ، و ذلك لا يهمني أصلاً في شيء ، سواء أكانت مفتوحة أو مغلقة ، لأنني لم و لن أدخل إلى متحفها يوماً ، لكونني لست مولعاً ، و لا أحفل بما رشّحته لنا مصفاة التاريخ - من أخبار وأسرار و تفاصيل و فكٍّ للشفرات ، من مثل حجر رشيد و ما اصطلح عليه من اللغة الهيروغلفية التي تشبه حركة نطقها في مسامعي العبرانية كثيراً - و تجاهلته من رواسب ثقيلة لتفاصيل أخريات ، و لست مستعداً أصلاً ، لأقتنع بآراء و اجتهادات لا ترتكز إلى أي مستند حقيقي ، فما هي برأيي إلا آراء ، لم تثبت صحتها حتى الحين ، حال أقرّرنا بها ، تجاوزاً ، بتجاوز التاريخ ، فتأريخ البشرية - من آدم إلى خاتم ، عليهما ، و على ما بينهما من رسل و أنبياء ، الصلاة و التسليم - الذي أعتمده و أعترف به ، هو ما جاء في كتاب الله ، و لست مجنوناً ، حتى أخذ من معين المؤرخين الأجانب المجانين ، و لا أقرُّ بها حتى من باب الرواية فقط ، و السبب أنني ، لا أضع ثقتي فيمن زوّروا الكتب السماوية ، و حرّفوا كلام الله ، فكل ما كان من التاريخ ، أعده مزيفاً و مُدلساً عليه ، و الحقيقي ، يبتدئ من بعثة الرسول محمد عليه أشرف صلاة ، و أزكى تسليم ، إلى نهاية الخليقة ، ثم أليست أغلب التحف التي بداخل هذه السراي ، هي لأقوام أخريات ، استوطنت بلادنا في حِقب تاريخية ، كما يُزعم ؟ إذاً هي لا تعنيني ، لأنها ليست من موروثي ، و لا تعبّر عن هويتي ، و إنْ رأيتموني بداخل هذا المتحف يوماً ، فتأكدوا بأنني ما دخلته إلا امتثالاً لقوله تعالى و تقدّس : ' قُل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ' .. لكوني لا أشعر بالفـَخَار بالفخّار و أوانيه الرومانية .
***
راعني كثيراً ، امتدادُ و زحفُ المعمار الإيطالي على وسط المدينة ، بعكس بنغازي ، التي لم يزحف عليها هذا المعمار كثيراً مقارنة بطرابلس ، التي يبدو أنّ المستعمر الإيطالي ، نزل بثقله على هذه المدينة الأبيّة ، باعتبارها الحاضرة الليبية ، فيا له من مستعمر استيطاني ، غبي و مجنون ، لأنه صدّق كذبته ، و ظنّ بأنّ المقام سيطول به إلى الأبد في بلادنا ( مصح وجوه الفاشست و خلاص ) ها هو واحد منهم يقترب مني ، و يطلب إلىّ ، أنْ التقط له صورة مع بنت ترافقه ، يضع يده على كتفها ، فلم أمانع ، و كنت حينئذٍ ، أسير في بداية شارع ( عمر المختار ) بالقرب من زاوية و جامع ( سيدي بالقاسم ) فطلبت منه أنْ يجعلها في خلفيته ، و أنْ ينزل يده من على كتف عشيقته ، غير أنه صرفني عن ذلك ، و أراد أنْ يجعل أحد مباني أجداده المُطلة على ساحة الشهداء ، هي واجهة الصورة ، فأرجعتُ إليه عدسته ، و أسرّرتها له في خاطري :( دوّر جماعتك ) ليأتي أحد من جماعته- شاب ليبي- مُسرعاً ، يعرض عليه أنْ يقوم بهذه المهمة ، بدلاً مني ، و أعطاهما طرفي شكولاطة ( سنكرس ) تشجيعاً منه للسياحة في ليبيا ، بعد أنْ زجرني و نهرني على فعلتي هذه : ( هادوما ضيوفنا ) .. فأجبته : ( أنا ما أتيت إلى هنا ، لأصوّر الطليان عند حطام أجدادهم .. البركة فيك يا صوّار يا مُتحضِّر .. و الشوكلاطة أنا أولى بها منهما ، فهؤلاء لن ينفعوك في شيء يا مسكين ، و إنْ ذهبت إلى بلادهم ، لن يعطوك حتى شـُربة ماء بالمجان .. و هذا ليس كرماً عربياً ، بل غباءً منقطع النظير ) .
***
 الوقت صار متأخراً ، و بدأت الشوارع تخلو من روّادها ، المارين و العابرين و المسترزقين و المتفرجين ، كلُّ الباعة ، لملموا بضاعتهم و راحوا ، و بالمثل المتفرجون ، فقد لملموا بعثرة حظوظهم العاثرة ، و انصرفوا إلى ديارهم ، و المحال التجارية أوصدت أبوابها .. صرت أمشي وحيداً ، من دون أيِّ هدف ، حتى ساقتني أجفاني الذابلة عطشاً لماء النوم ، إلى فندق ( ميدان الساعة ) - الواقع خلف مبنى ( مصرف ليبيا المركزي ) و هو عبارة عن مبنى إيطالي ، لستُ أعرف ، لماذا الدولة تتطفـّـل على المباني القديمة والأثرية ، و تنشأ عليها ، بل بالأحرى فيها ، مؤسساتها ، أفما كان الأحوط بها ، أنْ تقيم مبنى حديثاً يمثـّـل ( ليبيا ) الحديثة ؟ – من مثل الفنادق و الأبراج التي بنتها ، و لا أرى فيها أي ملمح جمالي ، كما أنها شّيّدت بأموال الشعب ، و متقاربة من بعضها ، و لم توزع على أرجاء المدينة ، و لا ننسى أيضاً ،ً أنّ الطرابلسيين الفقراء ، لا يستطعون الدخول إليها ، لغلاء خدماتها ، و الحال نفسها ، بالنسبة لفندقي بنغازي ( تيبستي و أوزو ) - و أنْ تبتعد عن هذا المبنى ، الذي يرمُز إلى حقبة سيئة في نفوس الليبيين ، حيث يذكّر الليبيين بمرحلة الاحتلال و الإذلال- إذ ذاك ، رنت ساعة الميدان ، مُعلِنة عن تمام الثانية و الثلاثة أرباع ، بعد منتصف الليل ، ألفيت باب الفندق مُقفلاً ، و من محاسن الصدف ، كان أحد نازليه نازلاً منه ، و في الخارج عائداً لتوه ، و هو عراقي الجنسية ، يحمل شهادة الدكتوراة في الفنون التشكيلية ، ينتظر قرار قبوله كمدرس بجامعة ناصر ، على ما أتذكر ، كما أخبرني في دردشة سريعة ، التي صرّح ليّ فيها ، بأنّ طرابلس مدينة جميلة ، و أجمل عنده حتى من العاصمة السورية ( دمشق ) التي أقام فيها لفترة طويلة ، غير أنّه استدرك ، بأنّ الدمشقيين يبدون عناية أكثر من الطرابلسيين ، بمدينتهم القديمة ( يقصد بالطبع السُّلطات ) .. الغريب في الأمر ، أنني لاحظت إهمالاً لمباني و شوارع المدينة القديمة ( العربية ) في طرابلس ، في مقابل الاهتمام المتزايد بالأوابد الإيطالية هناك - فطرق برؤوس أنامله على بابه الزجاجي ، لينزل إلينا صاحب الفندق في ثياب نومه ، مُحتجّاً على قدومه متأخراً ، و خرقه لقوانين الفنادق المعمول بها ، و عندما همّمت بالدخول ، كاد أنْ يمنعني ، فشرحت له الظروف ، و أنني قادمٌ إليه من طرف زبونه الدائم ، الأستاذ 'محمد الأصفر' و سُرعان ما رحب بيّ ، و دعاني إلى الدخول إلى الغرفة الوحيدة الشاغرة ، فلم أمانع على الرغم من وضاعتها ، لأروي عينيّ بالنوم ، متقيئاً كوابيس الطريق وضجيجها من أذنيّ .
***
صحوت قبل عرب طرابلس ، و أجانبها كلهم ، كُلي نشاط ، و لدي رغبة جامحة في المسير ، غير أنّ صاحب الفندق ، امتنع عن فتح الباب الرئيسي للفندق - و إطلاق سراحي- قبل التوقيت الذي يعمل به ، و قبل أنْ أتناول وجبة الإفطار.. أخبرته بأنني متنازل عنها ، في لقاء أنْ يفتح ليّ الباب ، و يطلق حريتي ، فأنا ما جئت لأبقى في الفنادق ، ثم أنّ الوقت أصبح قصيراً أمامي ، بيد أنّ موعد رحلة العودة ، سيكون على تمام الثامنة مساءً .. كان صباح يوم خريفيّ الطقس و خـُرافيّ الأجواء ، الرياح تعبث بصناديق البضائع الفارغة ، و زواريب الحارة فارغة سوى من المُنظِفين ، الذين يلملمون نفايات البضائع ، حتى المحال الخدمية ، ما تزال مغلقة ، أه تذكرت ، فاليوم هو يوم الجمعة ، شدّ سمعي صوت منساب لأغنية صباحية - تجتذبني منصاعاً ، من أذني بسبابتها وإبهامها ، مثلما كان يجرنا آباؤنا و مدرسونا إلى الفصول - بصوت الفنانة ' عبير ' ذهبت مسرعاً صوب منبعها الأثيري ، و إذا بها من مذياع مطعم الطرابلسي الأصيل ' خيّري ' فما أروعها من أغنية عذبة ، عذّبتني حلاوةً ، بكلماتها الشفّافة و لحنها الأخـّاذ ، فـ ( حدّرت) قهوة إفطاري بكلماتها التفاؤلية و التفاعلية مع الأمل و حبّ البلاد و العباد ، و أنا أرحل بنظري إلى النوارس ، التي كانت صباحئذٍ ، تحلق و تسترزق فوق و من البحر ، و تصطاد طعوم الصيّادين :
يا صبح يا لافي .. لفيت ابخيرك
بالفرح فوق الوطن .. رفرف طيرك
...
ابخيرك علينا لافي .. أبيض كما لون الحليب الصّافي
قول يا صباح الخير و ألف عوافي .. و يا شعب يا امكافح الله نصيرك
...
ابخيرك لفيت علينا .. عم الهنا و الفرح و اتهنينا
يا وطنا بنعلوك فوق بأيدينا .. احنا فيك عشنا و خيرنا من خيرك ..

***

إنْ شاء الله خير يا عبير ، الغريب أنني استمعت إلى صوتها ، يفوح بعبير طرابلسي أصيل ليلة البارحة - ذكّرني بما جئت لأجله ، و أنا قادم إلى الفندق – و هي تصدح في مذياع مقهى شعبي ، يقع بعد قوس مدخل المدينة القديمة مباشرة ، بأغنية عن الليل ، للشاعر ' عبد السلام القرقارشي ' و لحن 'فؤاد حافظ ' .. تقول أبياتها :
الليل مهما ايطول .. و الشوق مهما ايزيد
خليك م اللي ايقول .. خليك م اللي ايكيد
ما نتركك من بالي .. ما نتركك يا غالي
و خللي اللي ايقول ايقول
...
قلبي بالغالي شاريه .. عدّى عمره ايفكر فيه
يللي هواك يا امنايا .. ساهر مع نجواي
ما نتركك من بالي .. ما نتركك يا غالي
و خللي اللي ايقول ايقول
...
تشهد عليا الآهات .. اللي ما نسيتها آه في يوم
اللي العليل اشاها .. طعم الهتا و النوم
ما نتركك من بالي .. ما نتركك يا غالي
و خللي اللي ايقول ايقول
خرجت من مطعم ' خيّري ' بعد أنْ اكتفيت بشرب الحليب الطازج المحفوظ في زجاجات مشروب غازي معتمرة قطعة قصدير( قزّير) لا يوجد مثله في بنغازي ، فعرب بنغازي ، يكتفون بحليب ( جهينة ) و ( أنجوي ) و غوط السلطان و حليب مصنع النسيم المصراتي .. عند زقاق المدينة القديمة ، وجدت بعض الفتية العتالين ، جالسين و بجوانبهم عربات اليد ( البراويط ) ينتظرون رزقهم ، و يتناقشون فيما بينهم متذمرين من حالتهم المعيشية ، و البعض الثاني منهم ، يصبّرهم و يُمنّيهم بقدوم الشركات الأجنبية ، فذكّروني من جديد بمسلسل ( وادي المسك ) حينما كان ( غوّار ) يُمنّي سُكان الوادي بقدوم الشحن - من بلاد الغربة التي كان يعمل فيها - الذي تأخر قدومه ، والذي سُيسّهم أيما إسهام ، في الرُّقي بمستوى معيشتهم ، فما جاءهم منه ، سوى العادات الرديئة و الدخيلة على مجتمع ذلك الوادي و متساكنيه ، الذي تعفّنت رائحة مسكه ؛ و ها نحن الآن في سنة (2010 ) و قد وصلت الشركات – بمن فيها من عمالة فاسدة إخلاقياً - إلى البلاد ، و صار الليبيون ، يشتغلون في أعمال وضيعة و عارضة ، تستغل جهدهم من أول الصباح حتى ساعات متأخرة من المساء ، بمقابل زهيد ، يرأسهم مصري أو سوداني جاهلان ، استجلبتهما معها هذه الشركات الأجنبية ، فيعملون كـ ( صبيان و غلمان ) عندهما ، من ساعات الفجر الأولى ، بالزجر و السُّخرة حتى المغرب .

تركتهم و أنا متيقن بهذه النتيجة ، التي لم تكُن قد حدثت وقتها ، ماضياً نحو الساحة الخضراء ، التي لم يظل من دهانها الأخضر سوى القشور، و استحالت إلى ساحة عوينية ( رمادية ) .. بدأت صلاة ظهر الجمعة تقترب ، شيئاً فشيئاً ، فأسرعت من خطاي نحو زاوية الدهماني ، حتى أدرك الصلاة هنالك في جامعها القديم .. أحبُّ أنْ أصلي في مثل هذه المساجد العتيقة ، فقد ذُكِر فيها اسم الله أكثر من المساجد الحديثة ، و أذكر بأنّ الخطبة كانت تربوية ، تتصل بإشكالية تدريس المعلمات لطلبة الإعدادية الثانوية من البنين ، التي تطلعوا على مفاتن النساء ، و المعلمين لبنات الإعدادية و الثانوية ، و ما جرّته و تجرّه هذه القضية ، من تبِعات و عواقب أدبية وخيمة على المجتمع بأسره ، كان الشيخ مُتحمِساً ، و يحذّر الآباء و الأبناء ، من هذه الظاهرة ، حتى ابتلت لحيته الكثـّة ، من هول هذه المصيبة ، و قابله المصلون بالبكاء و الحوقلة و الاستغفار كثيراً ، و لست أعرف ، هل تبدّل الأمر بعد ذلك ، أم أنه ما يزال سائراً على ما هو عليه .. بعد أنْ قـُضيّت الصلاة ، ذهبت خارج طرابلس بمسافة قصيرة إلى غايتي التي جئت لأجلها ، و غبت هناك ساعتين ، و حين عودتي ، انتقلت من جديد إلى شارع ' عمر المختار' و منه إلى شارع ، يتفرع منه ، لا أذكر اسمه ، لأدفن جوعي ، مكتفياً بقطعة ( بريوش ) لم أذق في حياتي ، مثل حلاوتها و لذتها - صقع عليك يا باسط - من مقهى يديره شاب أسمر، يربط حزّامية بيضاء على جسده الممتلئ - أه نسيت أنْ أخبركم بأنني في ليلة وصولي ، تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد الأدباء ، علم بوجودي في طرابلس من أحدهم ، فسألني عن محل إقامتي ، ثم أخبرني بأنه سوف يمرُّ عليّ ، و بعد مروري بالشباب الذين ذكّروني بمسلسل ( وادي المسك ) التقيت به عند مقهى شعبي قديم في الحارة ، فتوقعت أنه يريد أنْ يدعوني إلى الغداء في بيته ، و لما جلسنا ، خيّرني بين القهوة و الشاي الأخضر ، فطلبت الأخير ، لأنه الأرخص ثمناً ، و عندما جاء ليدفع ثمن مشروبي و مشروبه القهوة ، رد عليه القهوجي ، نقوده بحُجّة انتفاء احتكامه على ( فكّة ) لأدفع عنه و عني ثمن ما شربناه ، ثم انصرف ، وهو يردد : (أي خدمة مني ؟ ) .. حمدت الله أنه لم يحرجني بطلب أن أصّحبه إلى بيته ، ثم أنني لم أنتظر ذلك منه أصلاً - أزف موعد العودة ، فعدت إلى الفندق ، لأنني تركت حقيبتي كأمانة عند إدارته ، لأجد مديره جالساً في الاستقبال يستمع إلى الفنانة ' عبير' تغني في إذاعة طرابلس المحلية ، هذه الأغنية( حكايتنا يا قلبي غريبة ) التي هي من كلمات ' عبد الحفيظ قنابة ' و لحن ' محمد بوقرين ' :

حكايتنا يا قلبي غريبة .. في الحب احكايتنا غريبة
ساعة اتحب و ساعة اتوب .. و ساعة اتقول للحب حبيبة
..
كل مرة يخطرلك راي .. مرة خصمي و مرة معاي
مرة اتقول الحب اهناي .. و مرة تشكي من تعذيبه
..
كل مرة اتجيني بجروح .. تشكيلي ابسرك و اتبوح
قولة ننسى احبيب الروح .. و بعد اشوية اتقول اصعيبة
..
كلما تحكي ع المكتوب .. تحلف لا اتفارق لا اتوب
في التالي تطلع مغلوب .. ما معاك أحسن انكون حبيبة ..
ما غريب إلا الشيطان يا عبير ، فأنا لست بغريب عن هذه المدينة ، و لا أحد يزايد علينا في محبته لها ، و مهما غبنا و انشغلنا عنها ، يظلُّ هناك ما يربطنا بها ، فأنا ما جِئت إليها ، إلا لأزور قبر جدّي الأكبر ' عيسى بن راشد ' و قصر و مسجد و زاوية جدي الأوسط ' بالقاسم ' - تاركاً قبر جدّي الأصغر ' سعد ' هناك في بنغازي - لكني لم أستغث بهما ، و لم أبتغِ الوسيلة بالصلاة عند ضريحيهما - مثلما يفعل الشيعة الإثنى عشرية الضّالون - بل ترحمت عليهما ، و دعوت لهما بكل خير ، و أنْ يتقبلهما المولى تعالى و تقدّس مع الأنبياء و الصدّيقين، و دعوت على الأغبياء و المنافقين .

أخذت حقيبتي إلى المطار مباشرةً ، رامياً بـ ( كرت ) حنان ، الذي وجدته في جيبي ، من نافذة السيارة ، ومن طرابلس إلى بنغازي ( فن – طب ) بالطائرة ، أقدّس الله تعالى على مسبحة جدي ، كي نصل سالمين من ( استوربوات طياراتنا ) .
ــــــــــــــــــــــــــ
خطاب موّجه للسّادة القرّاء :
جرى دأبي ، حينما أشخّص شيئاً ما ، أنْ أصفّه بما هو عليه ، فإذا كان بلا ألواناً ، لا ألوّنه ، و إذا كان ملوناً ، لا أجرّده من ألوانه ، بدليل أنني ، حينما رمزت إلى الفتاة ، التي وجدتها في مكتب السفريات تتغنج ، كنت في الوقت نفسه ، وصفت زميلتها بما هي عليه من أدب و حشمة ، و لعلم من حاول أنْ ( يحوّت ) في ماء النوافير الآسن ، أنه سوف لن يصطاد إلا ( الزغلان ) – لا الغزلان - الذي تتعيّف من أكله حتى القطط ، و أنْ يصفني بما ليس فيّ ، أنّ ثمة أشياء أخرى رأيتها في طرابلس و بنغازي ، أستحي من ذكرها – و هو يعلم بحقيقتها ، فإذا كان يستحي من وجودها ، عليه أنْ يستحي و يخجل من الغضّ عنها ، و إلا كان ممن يفرحون باستشرائها - خصوصاً أنّ هناك من يقرأ هذه الكتابات من غير الليبيين ، فلا يزايد علينا أحد حين الشعور بالعار.. لكوني أعمل بالمأثور : ' صديقك من صَدقك ، و ليس من صدّقك ' أي أنتهج أسلوب المكاشفة ، بوضع الإصبع على مكمن الخلل و موضع الداء ، و لا ألزم باعتقادي أحداً و لا أطلب بأن تتبناه أية جهة مسؤولة.. فأنا لم أحاول أنْ أظهر نفسي ( دون جوان ) ليبيا ، كما علق أحدهم ، بحفظي لغناوي العلم ، لأني بلغت من النضج العمري ، ما يجعلني لا أهتم بهذه السفاسف ، التي أخوّن أي ليبي ، حين اقترافها في بنات وطنه ، فو الله تألمت لهذا الشيء ، ثم أنّ الصلاح و الفساد ، ليسا متعلقين و مرهونين بجهة بعينها ، ففي كتابتي ، غالباً ما تجدوني أركز على المساوئ ، فالأشياء الحسنة ، يفترض بها أنْ تكون موجودة أصلاً ، فلا ثمة غرابة إنْ وجدت ، لكن السيئة ، هي التي يجب أنْ نردعها و نرفع عنها الغطاء ، حتى تمرض و تموت بعلة وجودها ، و هذا ما دأبت عليه ، حتى في سردياتي عن بنغازي ، عليه أنا أبرأ من أي تعليقات جهوية ، لكوني أنتسب إلى المدينتين ، و لا أعرف في أيِّ أرض منهما سأموت و أدفن .. نلتقي قريباً إنْ شاء الله ، و كل العام و أنتم بخير بمناسبة قرب حلول الشهر الفضيل ، اللهم بلغنا أياه .. و الله من وراء القصد .
زياد العيساوي
9 أكتوبر 2010
ـــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) : يروى أنّ الخليفة الراشد ' عمر بن عبد العزيز ' قد دعا له أحد الرعية ، بهذا الدعاء ، فأجابه : هذا هو الدعاء الذي لا طائل منه .. ' فلكل أجل كتاب ' .. و ربما نسوقه نحن من باب الرجاء أن من ندعو له به ، أن يكون من ذوي الأعمار الطويلة.
( 2 ) : ذكرتني بأغنية لعلكم عرفتموها .
( 3 ) مأثور غالباً ما يسوقه الليبيون كحق أريد به باطل ، فهو عندنا كما العبارة السوقية ( بين البائع و الشاري .. يفتح الله ) فهي تقال بمعنى الرفض.
( 4) : خدف الشيء ، هو رميه بالسبابة و الإبهام .

( 5) : نسبة ًإلى آبار بنينة في بنغازي .