السبت، 30 أغسطس 2014

من مذكرات رئيس أمريكي سيغادر البيت الأبيض



بقلم زياد العيساوي
14 أغسطس 2008
***
قـُبيل نهاية ولايتي الثانية من الرئاسة ، أعلنت مخاطباً الأمة ، أمام مرأى ومسمع من العالم ككل ، بأنّ على الولايات المتحدة الأمريكية ، أنْ تحاول ما وسعها الجهد والعمل من أجل تحسين وجهها الدميم ، الذي يراها عليه كل العرب ، من حيث كونها تقف حجرعثرة 
وصخرة تسدُّ السبيل أمام سيل طموحات الشعب العربي ، و تطلعاته في التحرير والتقدُّم العلمي والتقني ، فقد فاحت رائحة مؤامرات جهاز استخباراتها المركزية النتنة على الشعب العربي منذ أكثر من خمسين عاماً ، بعد أنْ رُفـِع غطاء السّرية عنها ، وما قامت به من دسائس وحيكٍ للمؤامرات في داخل العالم العربي ، ولا ننسى كذلك أننا كنا كلما ناصر مجلس الأمن الدولي القضايا العربية ، نستعمل حق النقض ( الفيتو ) لأجل تعطيل أيِّ قرار، وإنْ كان يدين ( إسرائيل ) وكفى ، فقد كنـّا على الدَّوام ، نكيل بميزانين ، كي نفتَّ في عضد المقاومين من العرب والرافضين لسياسة التبعية ، وكم من مرةٍ ، دعونا فيها إلى إقامة الدولة الفلسطينية ،جنباً إلى جنب مع الدولة العبريةالتي أوجدناها وأقمناها على الباطل في منطقة العرب ولكنْ دونما جديّةولمجرد ذرِّالرماد في العيون فقط.
* وفي بداية صعودي كرسي الرئاسة الأمريكية ، وعند أول خطاب ليّ ، صرّحت بأنّ السياسة التي سأتـَّبعها ، والخاصة بمنطقة الشرق الأوسط ، ستراعي في المقام الأول مصالح ( إسرائيل ) وأمنها ، مع أنني كنت على يقين تام ، بأنها هي من كانت المعتدية و المهددة للأمن والسلم في المنطقة ، في كل حرب شنتها على العرب ، سبقت حكمي ومع ذلك زوّدت بمرسوم رئاسي ( إسرائيل ) التي نعدُّها الحليف الإستراتيجي لنا ، بأفتك أنواع الأسلحة المتطورة ، كل ذلك كي تبسط سيطرتها على الأراضي المحتلة ولتكون هذه الأسلحة بمثابة اليد الطولى لها ، التي تمكـّنها من الوصول إلى أيِّ قطرعربي تهديداً لأمن العرب ولأمن المنطقة والعالم بأسره ، كما أنني اعترفت بـ( القدس ) عاصمة لإسرائيل من دون أنْ يغمض ليّ جفن واحد ، متحدياً بذلك مشاعرالعرب ، وضارباً بالقانون الدولي عرض الجدار، الذي يعتبرهذه المدينة أرضاً احتلتها ( إسرائيل ) من العرب في حرب 1967 م بل ويُطالبُ الاحتلال بالجلاء الفوري عنها .. وما جعلني أفعل ُذلك ، حتى وأنا في طريقي إلى الدخول إلى العمل السياسي ، إبان الانتخابات الرئاسية التي خضتها مع خصمي في الحزب الديموقراطي ، هو طمعي في كسب تأييد اللوبي الصهيوني ، ذلك الأخطبوط الذي تمتد زعانفه إلى مراكز القوة المؤثرة في السياسة والاقتصاد الأمريكيين ، وقد كان ليّ ما أردت ، وأذكرُ فيما أذكرُ أثناء ولاية رئاستي الأولى ، أنني كنت أقلد من سبقوني من الرؤساء الأمريكيين البالغ عددهم اثنين وأربعين رئيساً تقليداً أعمى بل أعور، لا يرى إلا بعين واحدة ، هي العين على مصلحة ونصرة ( إسرائيل ) الظالمة وغيرالمظلومة ، كما قد أخبرتكم منذ حين ، حتى أنني أمعنت في نصرتها ، إلى الدرجة التي كنت فيها ، لا آخذ بقول كل من يمثلون إرادة الشعب الفلسطيني من قادته ، وأصعّـر خديّ لهم ، استعلاءً على الحق و القانون الدوليين ، وألقي باللائمة عليهم دائماً ، كلما اقترفت ( إسرائيل ) المجازر الدامية ضد الشعب الفلسطيني ، هكذا من دون حتى أنْ أهمس مجرد الهمس لهم ، بأنهم على حقٍّ وأنها هي المُدانة ، وهم الذين جاؤوا إليّ ، باعتباري رئيس أكبر دولة عظمى في العالم ، يفترض بأنْ تكون شريكاً نزيهاً لا منحازاً باتجاه ( إسرائيل ) في عملية السلام المجراة بين الطرفين العربي والإسرائيلي ، التي طال أمدها ، ما جعل العرب يتململون ويتبرمون منها ، ومن سياسة بلادي في عهدي ، فلجأت بعد ذلك ، إلى سياسة التسويف و المُماطلة مع العرب ، وإمنائهم بما لا أستطيع حتى أنْ أفاتح فيه الإسرائيليين ، من مطالب واستحقاقاتٍ دولية ، قبل أنْ تكون عربية ، وقبل حتى أنْ تكون فلسطينية ، تقعُ على عاتقهم ، لأني كنت أعرف تمام المعرفة ، بأنّ القيامة ستقوم فوق رأسي ، و سيقوم من رفعني إلى سُدة الحكم بإسقاطي من عليائها ، لو فعلت هذا . 
* ولما دفع بيّ حزبي الجمهوري ، لخوض سباق الانتخابات للولاية الثانية ، ظنّ الواهمون من العرب ، بأنّ الحال ستختلف عمّا كانت عليه في الولاية الأولى ، إنْ فزت في هذه الدورة الانتخابية ، لاعتقادهم بأنني سأكون متحرراً من الضغوط الصهيونية ، وسيكون ليّ إثر ذلك ، الأفق السياسي الحكيم المتحرر من كل مؤثر خارجي ، على عكس ما حدث لدى ترشيحي للانتخابات في المرة الأولى ، فهلـّل بعضُ العرب بذلك ، وكسبت ثقة المسلمين والأمريكيين من الأصول العربية والشرق أوسطية ، ولكنْ منذ نجاحي وتقلدي لمنصب الرئاسة في الإدارة الأمريكية ، وحتى قبيل نهايتها بقليل ، قد مضيت على النهج الموازي لنهج ( إسرائيل ) في المنطقة ، الرافضة لأية تسوية مع العرب ، ولأيِّ تطبيق لقرارات الشرعية الدولية ، واستمررت في اتباع سياسة التسويف والمماطلة ، بتوزيعي للوعود الزائفة على العرب ، بشأن رغبة بلادي الشديدة والمُلـِّحة في حلِّ هذا النزاع القائم بينهم وبين ( إسرائيل ) منذ ما يربو على الستين سنة ، وكان المساكين يثقون بسياستي العبثية ، كما كانوا مع الرؤساء الذين سبقوني ، والذين سيتلوني ، ويأتون من بعدي إلى البيت الأبيض ، لدرجة أنني مارست الخطة ذاتها التي استعملها ( أبي ) أثناء رئاسته ، فقد وعد العرب قبيل أنْ يهاجم العراق في (عاصفة الصحراء) بدعوى تحرير الكويت في عام 1991م بأنه سوف ينهي مشكلة الشرق الأوسط ، بإرجاع الحقوق المغتصبة إلى أصحابها الشرعيين ، و بإنهاء كل مظاهرالاحتلال الإسرائيلي ، العسكري والاستيطاني الذي مضى عليه وقت طويل ، بمجرد أنْ يباركوا هذه الحرب ، بل ويشاركوا بجيوشهم تحت لواء العلم الأمريكي في تحرير ( الكويت ) زمن الرئيس العراقي ـ( صدام حسين )ـ لكنّ كل ما قام به بعد أنْ تحقـّق مسعاه ، المُتمثـّل في اجتماع بعضِ العرب من حوله في تلك الحرب المشؤومة ، هو أنه قد فجّر بالون ما يُسمى بعملية السلام ، الذي ما يزال يُسمعُ دويه بين الحين والآخر، من دون طائل ، فازداد قتل الصهاينة للعرب ، أكثر ممّا كان عليه من ذي قبل ، لكأنّ ما فعله ، كان فقط لمجرد إيهام العرب ، بأنه عند وعده ، الذي قطعه لهم ، وليظهرَ أمام العالم ، بأنّ بلاده ملتزمة بهذه القضية ، من غير أنْ يجبرَ (إسرائيل) على أنْ تنصاعَ وتمتثلَ لقرارات مجلس الأمن ، البالغ مجموع عددها ستة و ثلاثين قراراً ، كانت بلاده من قبل قد مانعت بموجب حق النقض ، تنفيذ (إسرائيل) لها ، وساندتها في غيّها وعدوانها ؛ وها أنا ذا بالمثل ، أفعل ما فعله ( أبي ) إذ أنني ، أطلقت خطة (خارطة الطريق) التي وعدت العرب بها بُعيد الحرب على العراق في 21 / 3 / 2003م . وبعد أنْ ثبت عـُقمها ، لكون ( إسرائيل ) هي من وقفت وراء رسمها ، بما يتوافق مع مصلحتها ، سوّفتـُهم بانعقاد مؤتمر (أنابوليس) الذي حضره العرب المخدوعون والواثقون بيّ ، وبعضُ ُ من المجاملين الواثقين من فشله ، فشلاً ذريعاً .
* آه .. كدت أنْ أنسى ، بأنني قبل غزوي للعراق ، قد أشعلتها حرباً ضروساً على ( أفغانستان ) تحت ذريعة محاربة الإرهاب ، لأنّ الإرهاب في عُرف بلادي ، ليس بمعناه الحقيقي ، فكلُّ من يرفض سياستنا ، هو إرهابي ، و من الطراز الأول ، و الأكثر إرهاباً منه ، هو من يرفع شعار المقاومة بقوة السلاح لطرد المحتل ، و من ينادي بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية ، التي نحن نمانع في أحيان كثيرة تنفيذها ، إذا كانت تتعارض مع مصلحتنا ، و إذا كانت تريد النيل من سياسة ( إسرائيل ) في المنطقة ، كما هو حاصل الآن ، لكأنّ هؤلاء العرب ، كانوا و ما يزالون ، لا يعون بأنّ طبيعة التحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية و دولة إسرائيل ، هي استراتيجية ، و لا تتوقف على الأشخاص ، الذين يتناوبون على الدخول إلى البيت الأبيض ، كل أربع أو ثماني سنوات ، و هذا ما أعتقد بأنه قد جعلهم لا يبادرون إلى انتزاع حقوقهم بأيديهم ، بل ينتظرون منا كممثلين للسياسة الأمريكية ، أنْ نمنحهم إياها ، و نتصدق عليهم بها .. هكذا .
* وما المساعي السياسية والخيرية التي يقوم بها كل رئيس سابق للولايات المتحدة ، بعد أنْ يغادرَ البيت الأبيض ، إلى منطقة الشرق الوسط ، إلا مؤشرٌ واضح ٌ جلي ، على أنه أثناء تقلده للمنصب السياسي ، كان مُسيَّساً ومُنقاداً نحو أجندة مُحدَّدة ، تنتهجها الحكومات الأمريكية المتعاقبة ، سواء أ كان هذا الرئيس جمهورياً أوديموقراطياً ، وإنْ بدا أنّ ثمة تبايناً بائناً بين أيديولوجية كلا الحزبين ؛ فالجهود التي قام بها ، و لما يزل الرئيس الأمريكي ( جيمي كارتر) الذي رحل عن البيت الأبيض عام 1981م بخصوص السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، هي من هذا القبيل ، حيث إنه زار منذ فترة قريبة العاصمة السورية (دمشق) وأعلن أمام وسائل الإعلام العالمية : ـ( إنّ الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة يشكـّل إحدى أكبر الجرائم بحقوق الإنسان)ـ ودعا إلى ضرورة ، أنْ تقوم (إسرائيل) برفع هذا الحصار الجائر، في حين أنه أيام رئاسته ، لم يكـُن ليجرؤ، على أنْ ينبسَ ببنت شفة ، حيال الجرائم و المذابح التي اقترفتها (إسرائيل) آنذاك ، وكذلك الحال مع الرئيس الأسبق (بيل كلينتون) الذي كان أثناء ولايته قد ارتدى القبعة اليهودية فوق رأسه ، في صلف وانحياز واضحين ، ليعلن في (إسرائيل) التي صارت محجاً للرؤساء الأمريكيين ككل ، يتمسحون عند عتباتها ، بأنّ بلاده ستعترف بمدينة (القدس) العاصمة السياسية للكيان الصهيوني ، ليس هذا فحسب ، بل وستقوم أيضاً ، بنقل سفارتها إليها ، وما ارتداؤه لتلك القبعة ، إلا دليل منه على الاعتراف ، بأنّ هذا الكيان هو دولة يهودية مطلقة ، وعلى عنصرية إسرائيل كذلك ، ضارباً عرض الحائط بمشاعرالعرب والمسلمين وهوّ الذي كان يصرُّ دائماً ومثلي ( الكلام للرئيس الذي سيغادرالبيت الأبيض) على أنه يتعين على العرب إنْ كانوا صادقين في رغبتهم بالسلام ، أنْ يُقدِّموا مزيداً من التنازلات للإسرائيليين ، من أجل إنجاح عملية السلام ، الذي سيأخذ إثر هذه التنازلات العربية ، ما يشبه بل يطابق طابع الاستسلام العلني ، و التسليم بسيادة وسياسة (إسرائيل) في المنطقة ، وهيمنتها عليها ، لذا لاتستغربوا بعد مغادرتي للبيت الأبيض ، لو رأيتموني أزور قطاع غزة ، وأصافح قادتها الذين لطالما وصفتهم جُزافاً بالإرهابيين ولا يأخذنكم العجب ، إنْ شاهدتموني أرتدي الكوفية الفلسطينية ، رمزالكفاح الفلسطيني فهذا ما دأب عليه أسلافي من الرؤساء الأمريكيين السابقين .
ثمة صورة التقطتها ليّ الذاكرة العربية ، في هذه المذكرات ، لن أقدر على محوها من أذهان العرب أبداً ، وهي صورتي عندما حطـّت بيّ إحدى مقنبلاتنا الجوية على إحدى حاملات الطائرات التابعة للأسطول العسكري الأمريكي ، الرابضة في الخليج العربي ، حينما نزلت منها مرتدياً البزة العسكرية لسلاح الجو، في أول مرةٍ ، يظهرُ فيها رئيس أمريكي ، عقب الحرب العالمية الثانية على هذه الهيأة ، متبجحاً بالنصرعلى العراق ، وانتهاء العمليات العسكرية ، التي ثبت بالدليل القاطع ، أنها كانت أفشل حرب ، قد أُقحمت فيها بلادي ، كما تشير استطلاعات الرأي ، تلك الحرب التي جاءت على ضوء ، بل تحت ظلام أكذوبة أسلحة الدمارالشامل ، التي زعمنا بأنّ العراق يمتلكها ، بعد خروج حكومتي عن المنظومة الدولية ، التي لم تجـِز لنا شنَّ هذه الحرب ، نتيجة استعمال ( فرنسا ) الدولة التي تمتلك العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي ، لحق النقض (الفيتو) ضد قرارالحرب على العراق ، كما لن يغفرَ ليّ العرب والمسلمون ، الذين يفوق عددهم البليون والنصف نسمة ، تلك العبارة ، التي ألقيتها في أعقاب أحداث تفجيرات 11 سبتمبر 2001 م التي جاء فيها قولي وأنا بكامل قواي العقلية : ـ( إننا سنعلنها حرباً صليبية على العرب والمسلمين)ـ من دون أن تكون لدي كياسة السياسي المسؤول عمّا يقول ؛ ومع ذلك فإنّ المتوهمين من العرب ما يزالون ينتظرون من حكومتي ، أنْ تضع (إسرائيل) في حجمها الطبيعي ، وأمام الاستحقاقات الدولية ، التي ينبغي عليها القيام بها و لومرغمة ، وأنْ تردع طموحاتها المبنية على الطمع والاستعلاء على العرب ، وهي التي كبرت وسمن عودها ، على حساب الأراضي العربية المحتلة ، التي كنا نساندها علناً ، و بكل ما أوتينا من جهد في عدوانها الدائم و الآثم .
عموماً فأنا لا أستطيع أنْ أوجز لكم مدى و حجم تآمري على العرب في هذه المذكرات ، حتى في الأمور ، التي صارت معلنة ، لأنّ ما خفيّ من تواطؤي مع (إسرائيل) كان أعظم وأبشع بكثير، لكنْ لاتفوتني الإشارة إلى حرب تموز التي شنتها آلة الحرب الإسرائيلية على ( لبنان ) بقصد إرجاعه إلى أكثرمن مئة سنة غابرة ، فقد كنت عرَّاب هذه الحرب والراعي الرسمي لها في مجلس الأمن ، لأنني كنت أطمح إلى تغيير وجه وخارطة الشرق الأوسط ، واستبداله بـ(الشرق الأوسط الجديد) الذي تنتشرعلى خارطته ، كياناتُ ُ وكيتوناتُ ُ قزميةُ ُ ، تكون فيه الزعامة للإسرائيليين . 
هذا ما تحتفظ به الذاكرة العربية عنّي ، وما ليس بمكنتي إخفاؤه ، حتى إنْ لم أدوّنه في مذكراتي هذه ، التي أتعجب من العرب ، الذين يعتقدون بأنهم وقتما يرجعون إلى المذكرات التي خطّها الرؤساء الأمريكيون السابقون ، سيقفون على سرٍّ أوسبق مهم ، يتعلق بسياسة ومخططات حكوماتهم واستخباراتهم تجاه المنطقة العربية ، قد يكون فيه مصلحة للشعب العربي ، فحتى في البرامج السياسية والإخبارية ، التي تقدمها وسائل الإعلام العربية الرسمية والخاصة ، يأتي من الضيوف من يستند عادة في أقاويله وتنظيراته ، إلى رؤى ومقولاتٍ لرؤساء وساسة ومفكرين أمريكيين ، لكأنّه يظنُّ بأننا من الشفافية بمكان ، حتى نرمي بها على الأرصفة ، فهذه المذكرات و إنْ بدت في ظاهرها ، تحمل أجنداتٍ وأفكاراً مسؤولة ، من شأنها أنْ تخدمَ صالح المنطقة والعالم ككل ، إلا أنها كـُتبت بأقلام رؤساء صاروا مجرد مواطنين عاديين ، ليس لهم في السياسة شيء ، سوى التظاهر والشجب ، بدليل أنّ القارئ لها ، يجد أنّ كاتبيها يحمّلون (إسرائيل) وزر الاحتقان والتشنج ، اللذين تمرُّ بهما المنطقة ويكيلون السُّباب والشتائم لساستها المجرمين ، وهم الذين كانوا يصفونهم برجالات السلام ، كل ذلك ، بعد مغادرتهم مكتب الرئاسة في البيت الأبيض ، الذي أضحى أسود في عيون شعوب العالم قاطبة .
على أية حال ، ها هي الأيام تمضي حثيثاً نحو شهر نوفمبرمن العام الجاري ، الذي ستنتهي بحلوله ، فترة رئاستي الثانية والأخيرة ، من دون أنْ أحقـّق فيها شيئاً واحداً يحسب ليّ ، ويسطـّره الشعب العربي في أخر مذكراتي ، التي خططتها في الحقيقة ، بدماء العرب والمسلمين ، قبل أنْ أرحلَ عن البيت الأبيض ، وأعود إلى بيت العائلة بمزرعة (تكساس) .

الجمعة، 15 أغسطس 2014

لسان حذاء


الحذاء رياضي أبيض، مقاسُه اثنان وأربعون سنتميتراً، على كل جانب في خفيه خطّان أسودان متوازيان، ويحمل كلِّ واحد منهما ثماني فتحات متقابلة، يخترقها خيط طويل، يزيد عن الحاجة حتى يلامس طرفاه المهذبان بالنايلون الأرض، وعند ربطّه بإحكام يشكّل فوق لسان الحذاء مظهر وردة. 
وضعت منتصف الحذاء على حافة الرصيف، ثم أخذت أنحني إلى أنْ تراصف رأسي مع الأفق، لربط شسع الحذاء حتى انكمش لسانه، فلسان الحذاء راضٍ بالخرس أصلاً، ووظيفته فقط، هي تخليص الكاحل من ضغط الخيط عليه، تركت الثقبين العلويين من أحد خفي الحذاء متنفسين للضيق، فالمشوار يتطلب راحة ويسراً في السير.
كنت لا أتقن هذه المهمة من بين أترابي، الذين عادةً ما يتطوعون لتخليصي من هذا المأزق المُحرج، حينما أطأ على الخيط فأتعثّر، ولا أفقه من أبجدياتها سوى ربط العقدة اﻷولى، لأنّ الثانية صعبة وأعجز عن ليّ رقبة كل خيط على حِدة، ثم القيام بعملية التضفير والامتشاج، اﻷمر الذي يضطرني دوماً إلى اﻹمساك بأطراف الخيطين اﻷربعة وحشرها ما بين الجوارب وجلدة الخف، ثم أسدل عليهما طرفي البنطال حتى يلامسا اﻷرض، وتظهر نتائج هذه العادة في نهاية طرفي البنطال الذي أحبذه من الجينز الطويل المتسع قليلاً إلى أسفل، حينما تبدو أنسجتها البيضاء تحت زرقة لونه كقطع الشاش التي يُطبَّب بها الجرحى..أشدُّ البنطال من عند الركبتين إلى أعلى، ثم أقوم بحكّ قدمي الحذاء بالتراب العالق على الزفت متخلصاً ممّا علق بهما من قطع العلكة المتيبسة، وما يستعصي عليّ منها كالطين المُبتل أخرطه في زوايا اﻷرصفة اﻹسمنتية المسلحة أو على عتبات الرخام أمام قصور اﻷغنياء.
الشبشب لا يتماشى في المشي معي، فقدماي مثل كفاي، غالباً ما يتقطران عرقاً أُجاجاً، فأجدني حافياً، وقتما ينتفض الشبشب مني لمسافة لا يصلها أصبعي الكبير- الذي التصقت به حبيبات الرمل- ليجرّها ظفره، وأنا في حيرة الموقف بل في ربكة المسير.
أخطو ثم أخطو، فيبتلع اللسان نفسه منطوياً على ذاته ومنزلقاً القهقرى، ألا يكفيه أنه صامت، فلماذا يتراجع ويهرب متخفياً ومختفياً؟ لا أعطي سؤالي بالغ الاهتمام.. أرتكز مثل جندي على خطّ الجبهة، لأسحبه من طرفه إلى أعلى الكاحل ثم أدخل أطراف الخيط في الفتحات الأربع العلوية وأعيد خنقه بإتقان، حتى يتجمد الدم في أعلى الكاحل ويرتسم حيّز قانٍ.. ربط الحذاء بهذه الكيفية يعطي لجسمي نشاطاً من نوع آخر، ويدفعه دفعاً لا إرادي إلى الأمام.
يرتخي عنق الجورب ويسفل حتى لا يكون ثمة عازلٌ بين عقب القدم وجلدة الحذاء الداخلية، ونتيجة للاحتكاك بينهما يدّمي.. أجلس القرفصاء مثل تارقي في الصحراء وهو يترقب الأفق، واضعاً ثقل وزني على ركبتيّ، كي أفرج عن اللسان بإرخاء الخيط وأنا أبعد بين جانبي الفتحات، حتى أخرج قدمي شاداً الجورب إلى أعلى نقطة في الساق يمكنه بلوغها.. أقحم الأصابع في الحذاء، مستعيناً بقطعة من منديل ورقي، ينثر رائحة الياسمين لتخفّف من حِدة الألم التي تعتصرني نتيجة الاحتكاك، ثم أتوكأ قليلاً على مشط القدم لأتحسّس شدة الألم التي تتملكني.. يناديني أطفال أنْ أرجع كرة شردت عنهم بعيداً نتيجة تسديدة عشوائية من أحدهم، أغالب ألمي وأركلها بشدة لبعد ملعبهم، حتى تقفز قطعة المنديل خارج حذائي، تخطئ الكرة اتجاههم، فيطلقون صيحة استهجان، وأطلق صرخة وجع حااااااااااااد.
أنزع عقدة الخيط ، فيخرج مُنسلاً من فتحاته، فينبعج لسان الحذاء ولسان حاله مُطبَق كلسان كاتب في زمن ثورة تزداد تعقيداً.

رعب



الضرب في البرج.. أي برج؟ برج التوانسة.. أي توانسة؟.. اللي منهم من شارك مع الثوار في الحرب.هكذا تعالت صيحات فجر الأحد، اندلفت إلى الشارع.. مدفعية يتلوها مباشرةً صفير كصرير باب في قلعة قديمة يخترق السماء بسرعة ثم انفجار لا تتبعه صرخات ولا استغاثات.. شققت ببصري الفضاء والأفق، ثمة غبار أبيض كضباب ينفث إلى أعلى كفقاعة سامة من مخلفات كلب، لم ينكشف البرج أمامي.. بحثت عنه بين الشوارع الضيقة، حتى وصلت إلى الطريق السريع، فألفته شامخاً على حاله الأولى.الصبح أخذ يسفر عن نوره ويقشع السماء ورائحة البارود وصلت ولوثت الفضاء.12345 عدد ما رصدته أذنايّ من صفير للصواريخ.جيد.. أن الصواريخ تنذرك بصفيرها فقدومها قبل وقت قصير ولا تقتلك على حين بغتة، تمنحك شعور بالخوف والقلق والتحري ثم التخفي.. لا أحد أتى بالخبر اليقين.. نقطتا الانطلاق والسقوط مجهولتان.. البعض مذهول والآخر غاضب والثالث مغلول على المجرمين.في أي حي سقطت؟ في أي حي استهدفت الحي وصرعته ميتاً؟.لدى الشعب الليبي الذكاء والفطنة إلا في مثل هذه الحالة الطارئة، فالكل لا يدرون بشيء إلا أنهم سمعوا صوت الصفير.بجانبي أشرف انطلق صوت الانفجار البداية لكنا لم نسمع الصفير الذي يسبق انفجار النهاية.جيد.. أن الصواريخ تنذرك بصفيرها فقدومها قبل وقت قصير ولا تقتلك على حين بغتة، تمنحك شعور بالخوف والقلق والتحري ثم التخفي و(الدعاء) فقد ألجمه دعاء تمتمت به.

تكييف




مثل كل وأي صباح.. بكبسة مفتاح المصباح الخارجي في جهة off يتدرج تلاشي وميضه، أخرج وقبضة من بهرته ماتزال تغطي نظري بلطخة بيضاء.. أمزقها بإغماضات سريعة حتى تنكسر.. انطلق إلى الطلق بخطى متكاسلة.. تشرد أذناي بعيدا حيث أصوات زغاريد من ألسنة نار يتبعها زمجرة طائرة ميغ غبية معلقة في السماء فألعن الشيوعية ومنتجاتها الفاشلة..لا توجد صفارات إنذار في مدينتي تشعرني بقدوم الخطر ولو وجدت ما كنت خرجت.أشحن من هواء الصباح البارد شهقات متتالية.. كل ما دخل الفم من السوائل والصوالب يفطرك لكن الهواء لا طعم له ولا يمكث في الجوف.. أمعن في الاستنشاق حتى تمتلئ رئتاي ثم أزفر واستغفر واستنفر حواسي كلها.. أمر تحت شرفات عمارات سيدي حسين وقطرات المكيفات تنعشني حينما تتكتك (تك تك تك) على قطع النايلون والمقوى.. تستهويني القطرات والناس نائمون . أضبط جيدا تقدير خطواتي حتى تتقاطر على ذراعي وظهري وتتخلل شعري.. أنحني قليلا حتى تسقط منه على اﻷرض.. وتحت مكيف آخر لمحل مقفل يتناهى منه آي الذكر الحكيم ظن مالكه بأنه سيطرد الحسد.. ألملم في كفي قطرات وقطرات أمسح وأبرد بها وجهي، خطاي باتت لا تتساوى كأعرج وأنا أتصيد هذه القطرات متحسرا على انحدار التي تخطؤني منها في المجارير، يجف ريقي وتكبر الطفولة في قلبي فابتسم لفكرة بديعة "لماذا يعطش البشر وتقوم الحروب على الماء؟" أتفطن إلى فندق تيبستي إلى ميسرتي ثم أعود لفكرتي ماذا لو صنعنا في كل حي مكيفا لتبريد الهواء في حجم هذا المبنى لغرض الاستفادة من المياه التي تتقاطر منه.. يتخلل شرودي خرخشات ﻷكياس يلملمها عامل النظافة اﻷسمر النشيط الذي يهرول باتجاه عربة يقودها سائق ليبي يختفي وراء نظارة سوداء.اﻷصوات لا تندثر قد تتبخر وتتبحر حتى تناطح السماء وتتشبث بسقفها..صرت عند فوضى صيانة ميدان الشجرة ولم أر رجلا مرتجلا واحدا في المدينة غير عامل النظافة..هناك فوضى بحجم الوطن، ساتر من الزنك غير مكتمل الحلقة أو أن ثمة من سرق صفائح منه، قطع بلاط متناثرة العاشق بلا معشوق، فلم أعي ما إذا كانت مقتلعة أم جديدة غير أن مظهرها يقول بأنها مستعملة..الندى ينهمر ومعه شذرات الأصوات أسمعتني بصوت يمتشج بين اﻷنوثة والرجولة صيحات من تنادوا في ميدان الشجرة ما وقعت عيني عليه، لافتة تصارع حروفها عوامل التعرية (لا شرقية لا غربية ليبيا وحدة وطنية).. اللعنة على الزور.. بهذه الغضبة تلاشى كل شيء في عيني واضمحل.عند باب مصرف الوحدة العربية لا الوطنية، تجمهر الكثيرون يتربصون، شيوخ عجائز شباب شابات بائع منجا مصري يعرض فاكهته على عربة يد مقابلا للباب..اتكأت على الحائط حاولت كسر الرتابة والملل بفتح الإنترنيت من خلال خدمات ليبيانا عبر الموبايل لكن السهمين لم يتلونا، طويته لاعنا بوسهمين ومؤتمره.مراقب مالي محروق الوجه بعينين زرقاوين يعرض سيرة كفاحه الوظيفي التي امتدت لحقبة من الزمن ويشرح للمنتظرين كيف أن قانون المعاشات لم يتغير، والكل يسبون ويلعنون وأحدهم يقول (يا ريتهم خلوا معمر وخلاص) وهذا الشخص أعرفه كان أكثر من يسب معمر ويلعنه جهارا ونهارا غير أنه فكر بمنطق أناني إذا أنه عاش طوال سني حكمه في عوز وقد منحه القذافي قبل سقوطه بقليل منحة الثروة التي صار يتأخر موعد صرفها.في حلقة أخرى يعلو الحلف بيمين الطلاق على أن أنصار الشريعة مابرحوا بوابة القوارشة من كهل يقابله يمين آخر من آخر على أنهم اندحروا مذلولين فيما يؤكد معنقر شنته بأنه سمع أزيز ميغ في هذا الصباح.نار نار نار فوضى وحركة نتيجة أن المعنقر رأى دخانا كثيفا تصاعدت ألسنته من عمارة قريبة صاروا يركضون نحوها فيما صرخ أحدهم قذيفة ياهوووووووو.. ما لبثوا عشرة دقائق حتى رجعوا يضحكون، فسبب الدخان ناتج عن مس كهربائي أخمدته مياه مكيف تبريد..ابتسمت في نفسي وأسررت يبدو بأن مياه المكيفات لا تنفع فقط للشرب بل حتى في عمليات اﻹطفاء.(تمت).