الاثنين، 29 أغسطس 2011

سلّم سلاحك

سلّم سلاحك
عن حفظ النظام والأمن في ليبيا
تخيّلوا معي هذه المشهدية:
شرطي باكستاني تقف مركبته المدرعة أمام بيت أحد المسلحين في بنغازي مثلاً، يطرق الباب فيفتح له الليبي: تفضل يا أخينا الباكستاني، ماذا هناك؟.
الباكستاني: بلغنا من مصادرنا الخاصة بأنّ بحيازتك أسلحة، فلو تكرمت سلّمها لنا، وسنكون من الشاكرين لك على حسن تعاونك معنا.
الليبي: حاضر لدي ثلاث قطع (كلاشنكوف) و قطعتا (أر بي جي) ومخازن ذخيرة وعلبتان على هيأة علبة (سردين) مليئتان بالرصاص.
الليبي لأصدقائه بعد أنْ يعاتبوه: والله وقف عليا راجل براني- باكستاني- ما قدرتش انرده.. تقعد عيبة علينا بعدين.
الليبي بينما الشرطي الباكستاني مغادراً، بعد أن وضع الأسلحة في صندوق السيارة: شوية يا خويا.. هاك حتى هذي.. كنت نبي انطلع دخان لقيت أخر رصاصة في جيبي.. خذها حتى هي راهي ما تلزمنيش.
سأثقب بسنّ قلمي الرصاص لا برصاصتي هذه الفقاعة المنتفخة بجانب رأسي، لأنها ولا شك، ضربٌ من الخيال الجامح.
*****
قبل أنْ نرى ونسمع على القنوات الفضائية (راسموسن) يعلن من مقر حلف الناتو الذي يرأسه في (بروكسل) العاصمة البلجيكية، عن انتهاء العمليات العسكرية في ليبيا، بعد زوال شبح "القذافي" وتهديد ما تبقى من ميلشياته للمدنيين، وقبل بداية عودة الاستقرار إلى بلادنا، والنازحين داخلياً وخارجياً إلى مدنهم وقراهم، لا يجوز البتة و تحت أي مسمى أو دافع الخوض في مسألة تجميع الأسلحة من الثوّار؛ صحيح أنّ مسألة انتشار السلاح باتت تؤرق المواطن وتشغل باله، كلما فكر في مستقبل البلاد ونهضتها بعد إسدال الستار على حكم العقيد، لخشيته من أنْ تقوم أية جهة سياسية بتجميع ما أمكنها منه لتضغط- من ثم- على المجتمع الليبي لتكون لها السطوة وتفرض أجندتها على أطياف النسيج السياسي تحت قوة هذا العامل الخطير في مستقبل الدولة الحديثة والمرتقبة، غير أنّ حلحلة هذه المعضلة بمكنتنا، ولا تستدعي الاستعانة بأية قوى خارجية سواء أكانت عربية أو إسلامية ناهيك عن قوى أجنبية مُتعدِّدة الجنسيات، لأنّ في ذلك إعطاء الحجة للخلايا النائمة التابعة للقذافي لإعلان الجهاد غير المقدس، مما سيفاقم من الأزمة ويساعد على دخول قوات أخرى على خط النار، ولا يضع نهاية قريبة لهذا النزاع المسلح قطعاً، فيمسي أمر تشبث المسلحين بأسلحتهم مُباحاً بذريعة الدفاع عن النفس، فلا يقومون بتسليم ما في حيازتهم من أسلحة حتى لو كانوا لا يعملون تحت لواء القذافي المنكس، وقد تطرق رئيس المكتب التنفيذي السيد"محمود جبريل" في مناشدته للثوار والشعب الليبي كافة في لقاء أُجري معه في قناة ليبيا الأحرار، قبيل تحرير طرابلس إلى أنّ أنظار العالم مشدوهة ومشدودة إلينا وتراقب الأحداث خشية أنْ تقع بلادنا في منزلق فوضى عارمة ستكسر العمود الفقري لثورتنا، ما يجعلها ستفكر في إنزال ذوي القبعات الزرقاء- القوى التابعة لجمعية الأمم المتحدة- لحفظ الأمن والسلام والفصل بين المتنازعين، وأردف قائلاً إنّ الأسرة الدولية لا ترغب في تكرار المأساة العراقية.. انتهى حديثه.. وفي الحقيقة أرى أنّ الأزمة الليبية تشتجر تماماً مع الأزمة العراقية، لأنّ أزمتنا داخلية وقد نتجت عن ثورة شعب ضد طاغية، أما العراقية فهي نتيجة طبيعية للاحتلال الذي عمل على حلّ الجيش العراقي، بعد أول يوم دخلت فيه قواته إلى العاصمة بغداد في التاسع من أبريل من عام 2003، فالحرب الأهلية العراقية تلت الاحتلال، وهي ذات صبغة طائفية، قامت بتمويلها حكومة الملالي في طهران، لأطماع تاريخية لها في العراق، ولأجل إغراق الأمريكان في الوحل العراقي كي لا تتفرغ الحكومة الأمريكية للتغيير السياسي بها، خصوصاً وأنها قد اعتبرتها أحد أضلاع محور الشر- العراق وكوريا الشمالية وإيران- إذاً فالمقاربة بين ما جرى في العراق وما يجري في ليبيا الآن هي في الواقع مباعدة بينهما وقياس فاسد وغير مبني على أيِّ أساس مقنع، لأنّ ما عقـّد الأوضاع في العراق هو تهور الرئيس (بوش) الابن، وتدخل الاحتلال غير الشرعي من أمريكا وبريطانيا، الذي اكتسب الصفة الشرعية لاحقاً، بعد مباركة (فرنسا/ساركوزاي) الذي جاء على خلفية الانتخابات التي أطاحت بالرئيس الفرنسي الديغولي السابق (جاك شيراك) الذي صوّت ضد احتلال العراق في جلسة مجلس الأمن المشهورة، وما قامت به الحكومة الفرنسية بعد عدولها عن قرار (شيراك) الذي اعتبره (ساركوزاي) خطأً إستراتيجياً، فوّت على بلاده الاستفادة من عقود استخراج النفط وإعادة إعمار العراق، فأوجب على حكومته- نتيجة لذلك- التنصل منه بالاعتذار للحكومة الأمريكية وطلب الصفح منها، وكذلك الدول التابعة لمنظومة الناتو، التي أرسلت بقواتها لتشارك في هذا الاحتلال، ما يعني أن التدخل الأجنبي تحت أي ستار سيزيد من زعزعة الأمن والسلم في ليبيا قياساً بالتجربة العراقية.
هذه الحيثيات تدفعنا إلى الإسراع في القضاء على فلول "القذافي"، وإعطاء الأمر لحلف الناتو لوقف العمليات العسكرية، بناءً على ما صرّح به الناطق العسكري باسمه، إذ ذكر بأنّ العمليات العسكرية في ليبيا ستستمر حتى يأتينا الطلب من أصدقائنا الليبيين بضرورة إيقافها، لما يستشعرون زوال خطر ميلشيات "القذافي" على المدنيين، وحينذاك سيكون من الضروري اجتماع مجلس الأمن للبحث في رفع الحظر عن الأموال الليبية المجمدة في الخارج وإعادة استثمارها لصالح الشعب الليبي، وبهذا القرار المرتقب، سنستطيع بعون الله التخلص من خطر انتشار السلاح بين المدنيين بطريقة تحفظ لنا استقلالنا واستقرارنا وكرامتنا.
غني عن الإفصاح أنّ البلاد ستكون في مسيس الحاجة إلى بناء جهاز أمني وعسكري يحفظ أمن المواطنين من أي تهديد داخلي أو خارجي، ما يلزم إعداد رجال الشرطة وتزويدهم بالسلاح لذلك، والعتاد يتطلب استيراده بأموالنا هذه من الخارج، الأمر الذي سوف يسبب في إخراج أرصدتنا إلى سوق السلاح، وطالما أننا ملزمون بهذا، ما وجه الإشكالية في أن نشتري هذا السلاح المنتشر بين صفوف المدنيين ولو بضعف سعره الأصلي في السوق السوداء؟، ولست أدعو من وراء ذلك إلى الاتجار بالسلاح، بل إلى الإبقاء على هذه الأموال ما سوف يسفر ويثمر عن انتعاشة اقتصادية في بلادنا، خصوصاً وأننا نعاني من ضائقة مالية، فالدعوة إلى انتزاع السلاح عنوة من حوزة المدنيين سواء بالقوة الدولية أو العربية قد تدفعنا إلى عنف آخر يؤدي إلى نزف المزيد من الدماء، فأرواح أبنائنا أغلى لدينا من كل الأموال.
بنغازي: 29/8/2011

الاثنين، 15 أغسطس 2011

لا مصلحة لشعبنا في استعداء الجزائر

دعونا نلملم جراحنا ونكفكف دموعنا وندفن موتانا ونتفرغ لزفاف شهدائنا الذين سقطت جثامينهم وصعدت أرواحهم الزكية إلى بارئها، أعطونا الوقت الكافي لنخرج بلادنا من هذه الكبوة التي وضعنا فيها نظام الفا(ض)ـح من سبتمبر، ذرونا نحصي خسائرنا ونرتب بيتنا الليبي، قبل أن نخوض في أية مستنقعات إقليمية أخرى قد نغرق فيها، ونحن لسنا على استعداد للخوض فيها، بل في مسيس الحاجة لأن نلتقط أنفاس الحرية ونجمع قطرات دمائنا الطاهرة ونخفف من حجم ووجع المأساة على ضحايانا، ليلتفت كل منا إلى مصالحه الشخصية والوطنية وتفقد أخوانه وما يعوزهم، هذا ما أستوجبه في هذه المرحلة التي نحن فيها، وما أطالب به كل مسؤول ليبي محسوب على الثوّار، قد ينصرف إلى كيل التهم وتهديد النظام الجزائري المتورط والمتواطئ مع نظام القذافي، بدعم ثورة الشعب الجزائري- المتفائل بيوم (17)- المزمع تنظيمها في يوم 17 سبتمبر 2011، من باب التشفي في هذا النظام الذي ساند نظام القذافي حتى اليوم بالدعم اللوجستي وبالمرتزقة الذين لو لم يقُم بالإشراف على إعدادهم وإرسالهم، فإنه وبلا شك قد أغمض عينيه على دخولهم إلى بلادنا وسهله عبر حدوده الممتدة معنا، وبالسلاح الذي ابتاعته كتائب القذافي لتعويض النقص الذي لحق بها نتيجةً لاستهدافها بطائرات حلف النيتو، بعشرة أضعاف ثمنه الأصلي.
إنّ مثل هذا التصريح الذي أطلقه بعض مسؤولينا الذي تنفس الصعداء وأحسّ بأن يوم نصر ثورتنا بات قريباً، لينتقم من النظام الجزائري الذي أقرُّ بتواطئه مع القذافي، وهناك من المستندات والوقائع ما يؤيد هذا القول وهي في حوزة مجلسنا الانتقالي، فمثل هذا التصريح غير المسؤول، قد يدفع بالنظام الجزائري إلى الدخول على نحو سافر وبكل ما يملك وأوتي من قوة في ناحية نظام القذافي المنهار، وإذا استبعد البعض حدوث هذا الأمر، فليحذر من دخول الجزائر كحكومة بثقلها في الشأن الليبي بعد نجاح ثورة 17 فبراير بالقضاء على حكم الدكتاتور، بحجة أنّ هذا التصريح الأحمق يستهدف الاستقرار في هذه الدولة الجارة الكبيرة، ويعد مساساً صارخاً بالشأن الداخلي لها، فالنظام الجزائري نظام قوي يعتمد على الناحية الأمنية والاستخباراتية وتسوده فرقة من الجنرالات التي لا تتورع في القيام بأي شيء ترى فيه ضمان بقائها على هرم جبال أطلس السلطة في هذه البلاد، ولعلّ ما جرى عقب الانتخابات التي ألغيت نتيجتها في تسعينيات القرن العشرين لشاهد على قبح هذا النظام وإجرامه حتى في حق شعبه، لذا لا أظنه سيتورع ويرعوي لفعل كل ما من شأنه أن يحفظ له استئثاره بالسلطة، وقد أعطى من هو على استعداد على استعداء الجزائر كحكومة من رجالات المجلس الانتقالي الحجة لتبرّر لأي فعل مشين قد ترتكبه في داخل الأراضي الليبية، وقد يأخذ هذا  الفعل شكل تأييد فرقة دون أخرى أو العمل على زعزعة الأمن والاستقرار في دولتنا الجديدة التي نتطلع إلى أن تكون دولة ديموقراطية وتعددية، وذلك بالأعمال الإرهابية خصوصاً وأن الحدود بين بلدينا تمتد لمسافة تسعمئة كيلو متر سيكون من الصعب على دولتنا التي تفتقد للإمكانات السيطرة عليها.
ولنا في التدخل الإيراني والسوري في العراق المحتل درسٌ جيداً لكيفية العمل الاستخباراتي، فكلا الدولتين قامتا بالعمل على تهديد الاستقرار هناك بالأعمال الإرهابية وتبني الجماعات المتطرفة باستمالتها مالياً أو مذهبياً، لتعطيل نجاح العمل الديموقراطي في العراق، بقصد جعل العراق بؤرة توتر ولتأخير التدخل الأمريكي فيهما بعد إعلان الحكومة الأمريكية بأنّ لها روزنامة وأجندة بعيدة المدى تهدف إلى خلق الشرق الأوسطي الجديد الذي ستسلم سيادته لما يسمى بدولة إسرائيل، في الوقت الذي أعلنت فيه أن دولة إيران من ضمن محور الشرّ، وقد أخطأت إدارة الرئيس الأمريكي (بوش) الأبن المزهو حينذاك بانتصاره على "صدّام حسين" بتلك التصريحات التي ألقاها على مسامع العالم، فأعطت الذريعة لنظام الملالي في طهران الفرصة، ليرتكب ما ارتكب من جرائم في حقّ الشعب العراقي المصدوم في احتلال بلاده.
لقد لعب النظام الجزائري على استفزاز الشعب الليبي بالنيل من ثورته وشهدائه بأقذع السباب على لسان وزيره (بلخادم) وزمرة من رجال استخباراته الذين يتصلون بقناة الجزيرة ويشككون في عدالة قضيتنا، لكني لا ألقي باللوم على نظام قمعي كهذا صار بين فكي ثورتين في تونس وليبيا، بل أضع كل حمله على الشعب الجزائري الذي لم يثـُر بل لم ينتفض حتى في مظاهرات كبرى تندد بموقف حكومته المخزي، على عكس الشعب السوري الذي انتفض ضد حاكمه بمجرد أن أعلن تأييده لقمع الشعب الليبي بآلة الكبح القذافية، فصرف نظر حكومته المجرمة عما يجري في بلادنا وانشغل بالثورة التي تضرب أركانه، على الرغم من يقيننا من مؤازرة الشعب الجزائري لنا، مثلما أي شعب آخر في العالم ولو كان في جزيرة (جريلندا) بالقطب المتجمد الشمالي، فالشعب العربي الجزائري مازال هو الآخر مجروح من تلك الحرب التي أودت بحياة مئتي ألف قتيل، ولم يخرج من أحزانه بعد.
لنكن حصيفي الرأي ونعمل كما الشعب التونسي الذي لم يقم بأية خطوة عدائية لا اتجاه نظام القذافي، الذي حاول مراراً أنْ يتصيّد الذرائع التي تبدو له في الأفق كما الذباب وهو جالس على كرسيه المهتز في باب العزيزية، للتدخل في الشأن الثوري التونسي، فلم يجد إلا واحدة، وهي ما صرّح به بشأن خوفه من تدفق اللاجئين التونسيين على بلادنا وإذا بالشعب الليبي هو من يلتجأ إلى تونس، فعلى الرغم من كل تدخلات القذافي في الشأن التونسي واستخفافه بثورته، إلا أن التونسيين لم يقيموا أي اعتبار لاستفزازاته الوضيعة، ثم أليس غريباً انتفاء قيام حكومة الجزائر بأية محاولة للنيل من الثورة التونسية لا في السر ولا في العلن، ربما لأنّ الثورة التونسية عرفت أنه ليس في مصلحتها استعداء هذين النظامين الكبحيين، فليس من الحكمة والحنكة السياسية خلق الأعداء على أكثر من جبهة، فيكفيهم عدوهم بالداخل الذي كان يمثله نظام زين العابـ(ر) ين بن علي.
سوف لن يكون الشعب الجزائري عاجزاً عن الثورة والوصول بها إلى غايتها المتمثلة في إسقاط النظام الدكتاتوري الذي كان له معه أكثر من مجابهة دامية، ويكفي مسؤولونا أن يتركوا أمر تأييد الثورة الجزائرية إنْ بدأت للشعب الليبي، الذي سوف لن يقف مكتوف الأيدي بمساعدة أخيه الجزائري بتقديم الدعم الإنساني وبرفع الشعارات المؤيدة له في ساحات التغيير بمختلف المدن الليبية، وكذلك للمثقفين الذين سيترجمون مؤازرة شعبنا لشقيقه في الجزائر.
بنغازي: 15/8/2011  
صفحة الكاتب على الفيسبوك:
http://www.facebook.com/profile.php?id=100002322399992


ليلة فرار القذافي


ماذا بقيّ للقذافي من عملٍ، والثوّار أضحوا على مشارف طرابلس؟، لا مراء أبداً في أنّ هذا المعتوه سيقوم باستعمال آخر ورقة ظلت بين يديه للضغط على الثوّار كي يمنعهم من فتح المدينة، وهي مسألة الرهائن الذين يعدون بالآلاف وزجّ بهم في سجونه ومخابئه السرية، فقد عمل منذ بداية الثورة على اختطاف المدنيين من كل مدينة وناحية دخلت إليهما ميلشياته، ولعلي سأكون متفائلاً جداً لو استبعدت احتمال قيامه بالتخلص منهم كأخر عمل إجرامي سيدونه في ميزان سيئاته، فادعو معي أنْ يسلمهم الله منه.
لم أخمّن أبداً في قرار الفرار الذي سيتخذه "معمر" منذ بداية الثورة،على الرغم ممّا كان يتناهى إليّ من معلومات وتحليلات بخصوص أنه سيصمد- كما صرّح في غير مرة- حتى أخر رصاصة، فالمتتبع لسيرة وسياسية "معمر" سيجده قد دأب في فترة حكمه على الانصياع لما هو مطلوب منه دولياً في أخر المطاف، فما أتوقعه هو هروب هذا المجرم على مرأى ومبصر من قوات النيتو، بعد أن يأخذ الإذن منهم ومن مطار طرابلس الدولي أو من مدرج قاعدة معيتيقة بتاجوراء، ستقلع طائرته الخاصة، لكنْ ما ينبغي التركيز عليه هو ليس أمر هذا التافه، بل الأمن في طرابلس العاصمة والعمل على انتفاء انفلات الأمن فيها، ولثقتي برجالات المجلس الوطني الانتقالي، أتوقع بأنهم قد تأهبوا لهذه المسائل، وأعدوا الأجندات والملفات لأيِّ طارئ، فتخوفي ناجمٌ عن التحليل النفساني للشخصية الطرابلسية، التي عانت كبتاً مطبقاً غير الليبيين في المدن الأخرى كلها ، التي استطاعت في أكثر من مناسبة أن تخرج ضد فساد هذا الحاكم، ولعلّ أخرها ما جرى في انتفاضة 17/2/2006 فالكبت الذي قاساه الطرابلسيون على يد جلاوزة الطغيان- ليس في الستة الشهور الأخيرة وكفى، بل منذ أنْ أقام فيها هذا النظام المجرم وفعل فيها الأفاعيل والأباطيل من قتلٍ وسحلٍ واغتصاب للأموال والأعراض وتهميش للشخصية الطرابلسية والليبية ككل، سيفجر طاقة الانعتاق والشعور بالحرية المستلبة منهم، فما قام به هذا الطاغية وزمرته الباغية كان تطبيقاً لماشورة إبليسية، مفادها أنّ القمع هو من سيتسبّب في استتباب الأمر له، ولأنّ هذه المدينة الكبيرة تعد مركز سلطة النظام عمل أزلامه على خنق أهلها، ما زاد في تركيز حجم الاحتقان لدى نفسانية هذه الشخصية المكبوتة، وعدّد في قائمة الحقوق والمطالب في فاتورة القصاص من زبانية هذا المجرم التي استغلت مناصبها النافذة للسيطرة على مصادر رزق الشعب، فبفرار القذافي سيترك عدداً كبيراً منهم ليلقوا مصيراً محتوماً من هؤلاء المقموعين الذين آمل أن يلتزموا بالاقتصاص منهم عبر القنوات القانونية التي ستشرع على الفور في محاكمتهم وفقاً للقضاء الليبي الجديد الذي سيعقب فرار المجرم.
بنغازي: 15/8/2011     

السبت، 13 أغسطس 2011

معمر يأكل أبناءه

ليس صحيحاً أنْ تأكل الثورة أبناءها، وما سجّله التاريخ زوراً عند الاستشهاد بهذه المقولة، لم يجيء في إطاره الصحيح، فغالباً ما يُساق كمثال لذلك ما يُسمى بالثورة البلشفية، وما نجم عنها من أحداث دموية، بعد اغتيال قائد الحزب الشيوعي (استالين) لرفاقه، لأنه اعتزم خطف هذه الثورة واستئثاره بالحكم الديكتاتوري، بعد نجاح هذه الثورة التي شارك فيها الشعب الروسي، لأجل الفكاك من حكم القياصرة في عام 1917 ميلادية، لتأتي بقيصرٍ آخر، أشد بغياً ممن سبقوه من أباطرة، فالثورة الروسية لم تحقق أهدافها لأنها خـُطِفت باكراً وتوجت ملكاً جديداً على روسيا بمسمى الثورة، لذلك تخلص الحزب الشيوعي من كل مخالفيه ومن ثم تآمر قادته على بعضهم البعض، حتى ساد الحكم في النهاية لـ(استالين).
وكذلك ما حدث في مصر إبان ثورة 23 يوليو في عام 1952 التي أخذت طابعاً آخراً أو هو في حقيقته طابعها الأصلي الذي حاول قادة الانقلاب تسميته بمسمى آخر، غير أنّ ما أعقب ذلك الحدث السياسي أبان عن انقلاب عسكري بامتياز، إذ سرعان ما تخلص "جمال عبد الناصر" من "محمد نجيب" القائد الفعلي لذلك الانقلاب، الذي يعلوه رتبة عسكرية، بعدما قدر على أن يجعل الضباط الذين أقل منه منزلة عسكرية يلتفون حوله، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فكم من ضابط آخر تمت تصفيته أو أُستبعِد من دائرة الحكم في وقت لاحق.
ومحلياً، لم يأتِ "معمر" بشيء جديد عمّا قدّمت، فهو كما أيِّ دكتاتور تقليدي بلبوس ثوري، حيث فعل أفعال (استالين) و"عبد الناصر" بالتمام، فبعد مُضي أشهر قليلة على انـ(ك)ـلابه الأسود، أقصى من هم أعلى منه شأناً عسكرياً فيما كان يُعرف بمجلس قيادة الثورة، وأبعد من خالفوا رؤاه السياسية العمياء، فسبحان الله، على الرغم ممّا قدّمه الملك الصالح "إدريس السنوسي" لجيل الانقلابيين من امتيازات اجتماعية وخدمية وعلمية، إلا أنهم انقلبوا على شرعيته جاحدين معروفه، فمعمر مثلاً قبل الانقلاب بيومين، كان قد بلغ عمره 27 سنة، أي أنه كان شاباً في أوج عمره يمتلك سيارة خاصة به (فلكس فوجن) وبُعِث إلى بريطانيا في دورة عسكرية، وكذلك زملاؤه، ومع ذلك لم يتوانوا عن انقلابهم الذي جعلوا له تسمية ثورة الفاتح، فإذا كان الأمر كذلك، فلا لوم إذاً على شباب ثورة 17 فبراير، إن ينقلبوا في ثورة عارمة وعازمة على إسقاطه وهم معدومين وفاقدي أية مقومات للحياة، عموماً حدث ذلك الانشقاق والشقاق بين انقلابيي سبتمبر 1969 ميلادية، لأن لعنة ذلك الملك الصالح قد أصابتهم، فاقتتلوا فيما بينهم ولم يبقَ منهم سوى خمسة ضباط، فأكل معمر رفاقه.
ومع اندلاع ثورة 17 فبراير، ومنذ أيامها الأولى خرج سيف أبيه يتوعد الليبيين بالويل والثبور ومن المجهول الذي يتهدّد بلادهم لو أنهم لم يتراجعوا ويرجعوا عن ثورتهم، كنت سأستقبل وأتقبل هذا الكلام لو أنه خرج من "معمر" لكنْ من ابنه في ذلك الوقت لم أتوقعه، ليس لمفاجأتي به بعد قناعتي بمشروعه الإصلاحي، لكني ما كنت لأتوقع أنْ يصل بهم العته والغباء السياسي في إدارة الأزمة إلى هذا التخبُّط، لأنّ خطاب الابن قد سبق كلمة أبيه (زنقة زنقة)، فالأب اختفى في بداية الأيام واكتفى بخروجه لثوانٍ قصيرة في عربة الأنفاق (التوكتوك)، وهو يستهزئ بمن صدّق الإشاعة التي سرّبتها وروجتها استخباراته بخصوص فراره إلى (كاراكاس/فنزويلا)، لكنّ أول خطاب تعلّق بهذه الأحداث، هو ما جاء على لسان ابنه الطويل، ثم اتبعه "معمر" بكلمته التي سجلت كأفضل مثال- لا يحتذى به- عن جنون الدكتاتوريين، فقد تجلّى غباء "معمر" في توريط ابنه في تلك الكلمة التي كان بمقدور الأب ألا يضع ابنه في وحل هذا الخطأ السياسي القاتل، بل يوفر جهده لوقت آخر، بحيث يمثل هو الجانب المتشدد ويترك لابنه الذي دفع به إلى الواجهة السياسية منذ أكثر من خمس سنوات، كي يمثل الجانب الليّن لدى تعامله مع الثوّار والشعب الليبي ككل، وهذا ما عزم الابن على القيام به كما صرّح "سليمان دوغة" لكنّ الأب منع الابن من ذلك، وآثر أن يظهره للشعب بأنه غير عاق بأبيه وبأنه في صف الأخير.
ولم يكتفِ "معمر" بذلك فقد عمل منذ عشرين سنة على أن يقحم أبناءه في هذا المنزلق الخطير، إذ سلمهم دفة قيادة الكتائب الأمنية استعداداً لهذا اليوم الذي سيثور فيه الليبيون على حكمه الفاسد، وما أن اندلعت هذه الثورة المجيدة، حتى بدأ أبناؤه "المعتصم بأبيه" و"خميس" واللواء "الساعدي" والأدميرال "هانيبال" في تقتيل الليبيين وارتكاب أبشع الجرائم في حقهم، لقد قلتها في مقالة سابقة وسأعيدها الآن: "القذافي أعتى وأغبى دكتاتور" فغباؤه هو الذي جعله يقتل أبناءه سياسياً وحياتياً وأخلاقياً، والتاريخ السياسي للقذافي يجعلني أخرج بقاعدة سياسية، نصها: "الانقلاب يأكل أبناءه، والدكتاتور يأكل أبناءه بنار طغيانه".
بنغازي: 13/8/2011      

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

معركة شارع إيطاليا


إنها رصاصة حيَّة ميتة، كحيّة رقطاء قضت في وسط حوشنا العربي وهي مُلتفـَّة حول عنقها.. الرصاص ذخيرة القلم، والبارود حشوة الرصاصة، الذي فيها روحٌ منه حتى تـُميت من تصيبه، ولا تموت إلا إذا لم تـُصِب هدفها بدقة، لتسقط على الأرض مخزيّة، فتفقد قيمتها ولا يهابها حتى الأطفال، كمثل هذه الرصاصة الصفراء التي ما تزال ساخنة في كفـّي اليمنى، وفي كفـّي الأخرى حفنة أسمنت مخلوط بالرمل، لم أعرف مصدر ولا مكان إطلاقها، سأصل إليهما حتماً حينما أعثر على ظرفها الفارغ من أية رسالة سوى هذا الكلمة (القتل)، وليس عليه سوى طابع بريد الموت.. في أعلى العمارة التي تجاورنا ينفث الغبار الذي طرح مسحوقه على بلاط باحة بيتنا من الجدار المتشقق، الذي صار كخرقة بنية مثقوبة إثر اصطدام أكثر من رصاصة به، لم أجد صعوبة في تحديد جهة الإطلاق فهي الشمالية، فسرعان ما أعلن المُرسِل عن موقعه بدويّ (صليات) بندقيته، التي لم يصل منها أية رصاصة أخرى، ما يعني أنها اخترقت الأجساد وسكنتها.. صفير احتكاك دواليب السيارات بالأرض يثير جلبة في شارعنا، ما أثار فزعي وجعلني انطلق لتبيان الأمر، وبمجرد فتحي لباب بيتنا وصلني هذا التهديد من عسكري ملثم يرتدي بذلة مموهة: "خش يا شبوب خيرلك راهو انكسكسك" وهو يضع أصبعه في حلقة الزناد.. تظاهرت بانصياعي لأمره غير النافذ، وما أنْ توارى بسيارته الصحراوية حتى خرجت مجدداً، في اتجاه مصدر الصوت وإنارة الرصاص، وكان أمامي مجموعة من فتية الشارع منطلقة إلى هناك، صعدنا معاً جسر المدينة الرياضية ليطل علينا المبنى الفاغرة أبوابه عن خواء (السيلس) العتيق، كسنبلة بيضاء أذبلتها عواصف القحط، إذاً فمصدر إطلاق النار هو حي سيدي حسين، بالقرب من هذا المبنى الإيطالي الذي تـُحفظ فيه الحبوب بعد مواسم الحصاد.. (سارينات) صوتية وضوئية تزيد من زخم الفوضى هناك، وإطلاق للنار عشوائي، أريد به تشتيت المتجمعين إلى أبعد مكان ممكن سيطر على الموقف، فكان الجسر هو أقرب مكان استطعنا واستطلعنا من خلاله متابعة هذه المداهمة التي يقوم بها عناصر النظام للجماعة المقاتلة المؤلفة من بضعة أشخاص مدربين جيداً، إلى الحد الذي زرع الرعب في أنفس محاصريهم المدجّجين بمختلف أنواع الأسلحة الآلية (الأتوماتيكية) والمدعومين بطوّافة تابعة للشرطة- على ما أظن أو كما بدت ليّ- التي بمجرد أن وصلت إلى عين المكان، ازداد الحماس في أنفس الجنود المتواجدين بالأسفل وعلا صوتهم بحياة قائدهم إلى حتفهم، فقامت في غير مرة- حتى نفد وقودها- بمحاولة إنزال المقاتلين من على متنها باستعمال الحبال الليفية، غير أنّ عملياتها أُجهِضت بفعل اقتناص الجماعة المقاتلة لمظلييها، الذين تسّاقطوا كثمار فاسدة من نبتة شيطانية على ناصية شارع إيطاليا الذي توقفت في ناصيته دبابة تابعة لنظام القمع، لأنها وعلى الرغم من صغر حجمها، لم يتمكن طاقمها من اقتحام هذا الشارع الضيق المقابل لمبنى الضمان الاجتماعي والواقع خلف عمارة المطماطي، في حين انصرف بعض السكان إلى إجلاء عوائلهم من هذه العمارة ومن الشارع نفسه، بل حتى من الشوارع القريبة منه.. صرنا نهتف بسقوط الطاغية ونشمت في كل ضحية من عناصره بمجرد أن تمرّ سيارة الإسعاف التي تقلها من خلال الفرجة التي تحت الجسر والمجاورة لسانية السوسي العريقة، فما يكون من قوات القذافي التي يربو تعدادها على الألف جندي، إلا إطلاق الرصاص ناحيتنا قصد منعنا من الالتحام بالمحاصرين لخشيتها من أن نكون نواة لثورة ستعصف بالنظام وأركانه، ولإشعار هذه المجموعة المقاتلة بأنّ لا أحد معها من عوام الشعب فلا يزيد ذلك من إصرارهم وتحديهم، وكذلك للقضاء على مصدر الضوضاء والإرباك الذي يأتيهم من أصواتنا المُكبِّرة، فنقابل زخات مطر نيرانهم بمزيد من التكبير والاستهزاء بهم، فيقتربون منا بسياراتهم لتفريقنا لكننا سرعان ما نعود إلى أعلى الجسر ونعاود صنيعنا الأول حتى ملّ هؤلاء منا، وانصرفوا لأجل غرضهم الأول وهو القضاء على هؤلاء الشبان الشجعان الذين قضّوا مضاجعهم، وكانوا يحتشدون في إحدى الشقق لينطلقوا معاً لأداء بعض المهام التي اتفقوا عليها، وفي مقدمتها تصفية العناصر الفاسدة في نظام القذافي، التي صعدت على سطح البلاد بعد تدهور الأمور إثر الحصار (الحظر الجوي) الذي فُرض على البلاد سنة 1992 ميلادية، نتيجة للسياسة الرعناء التي عُرف بها "معمر" منذ اعتلائه السلطة وختمها بتفجير طائرة البانام التي عُرفت لاحقاً بحادثة لوكربي، ففي تلك الأيام عانى الشعب الليبي من الحالة الاقتصادية المزرية واستغلال الشخصيات النافذة لمحنته، هذا الشعب المنكوب الذي لم يكُن له أية علاقة بحادثة التفجير، فغنم هؤلاء السماسرة تلك الظروف والأوضاع المربكة وحصدوا أموالاً جمة نتيجة أكل السحت.
استمرت المعركة منذ صباح ذلك اليوم إلى ساعة متأخرة منه، ثم توقف دوي إطلاق النار لكن المعركة لم تنتهِ بعد، وقام النظام بتحشيد عدد أكبر من الجنود لمحاصرة المنطقة كما قام بقطع التيار الكهربائي على المنطقة المحيطة بشارع إيطاليا حتى البركة لزرع الخوف وإعلان حظر التجوال بطريقة مبطنة و(معطنة) فاح مخططها، ونتيجة لفشل قواته في القضاء على هؤلاء الفتيان، قام النظام في طرابلس بعملية إجرامية في اليوم نفسه للمعركة- 29/6/1996ميلادية- التي اندلعت في شارع إيطاليا، حيث إنه أمر زمرته من أتباعه وضباعه بارتكاب مجزرة بوسليم عملاً بمبدأ (اضرب المربوط يخاف المطلوق)، أو ربما لإحساسه بالرعب من خلال تلك المعركة التي استغرقت أربعة أيام متتالية، وأثبتت ضراوة هذه الجماعة وبأسها في القتال، إذ خشيّ القذافي من هروب من هم في قبضته والتحامهم بمن يقودون المعركة في بنغازي يومذاك، فقد يتولد عن ذلك ثورة كبرى لن يستطيع إخماد نيرانها.. انتهت المعركة في نهاية اليوم الرابع وأسفرت عن استشهاد الجماعة المقاتلة المحاصرة داخل شقة بعمارة بعد استهدافها بالمتفجرات اليدوية الرمانات في الوقت الذي نسى فيه الليبيون طعم عصير الرمان الطبيعي في تلك الأيام واكتفوا برائحته من خلال عصير الدنيني المُعلَّب في جالونات بلاستيكية، كما نتج عنها مقتل عدد كبير من عصابات القذافي المرتدية العُصابات الخضراء، وكانت العلامة المسجلة هي رصاصة عار في جبين كل واحد منهم، وفي اليوم الخامس قامت أجهزة النظام على غير عادتها (الهدم والإزالة) بالشروع في أعمال الصيانة لتلك العمارة وبطلاء الجدران بالـ(جرافيت) لطمس وإخفاء الجريمة، لكن لون الطلاء الأخضر الذي تركوه وراءهم كان هو بصمة الإبهام على أنّ القذافي كان هناك، والجريمة كانت تحت إشرافه الشخصي.
بنغازي: 9/8/2011        

الخميس، 4 أغسطس 2011

إياكم أن تتأثروا بالكاريزمات السياسية

إياكم أن تتأثروا بالكاريزمات السياسية

"لو انتصرت إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، لصار العالم جميلاً، لكنه سيصبح فاسداً" .. (ونستون تشرشل)
من الناس من يأسره العجب بالكاريزما السياسية، سواء من حيث ضخامة الجسد أوطول القامة أوعرض المنكبين أو الهندام أو حلاوة اللسان، فنجده يحرص على أنْ تكون الشخصية المتمتعة بهذه الميزة على الواجهة السياسية، حتى لو كان أداؤها ضعيفاً، ولا يعرف بأنّ هذه الخصائص غير مكتسبة بل هي من عطاء الله، والعرب بصفة عامة أصيبوا بهذا الداء، وهذا ما جعل العديد من الطغاة يتسلطون على رقابهم لفترات مديدات، والمخابرات الأجنبية اعتمدت على هذا الأمر عند إعداد عملائها منذ فجر السياسية، ولو بقينا في الإطار العربي، لوجدنا أنّ أغلب الدكتاتوريين العرب، أُختيروا من قِبل هذه الدوائر الاستخباراتية على هذا الأساس، فليس من قبيل الصدفة، أنْ جيء بالرئيس المصري الأسبق "عبد الناصر" وهو بهذه التركيبة الجسمانية الفرعونية، ليحكم مصر، وكذلك "القذافي" في ليبيا و"صدام حسين" في العراق، فلقد كان لثلاثتهم أجسادٌ ضخمة- طولاً وعرضاً- لإضفاء الهيبة عليهم، ولعلّ ممّن أسرتهم هذه الشخصيات على نطاق أوسع (النساء) بالدرجة الأولى، لأنهن كنّ يرينهم كنجوم السينما، عند ذاك يطغى الإعجاب بالمظهر والشكل الخارجي على الأداء السياسي، فهؤلاء الثلاثة مثلاً، عُرِفوا بالضخامة في البنية الجسمانية، والعقول الصغيرة التي لا تؤهل الواحد منهم حتى لوظيفة ناظر في مدرسة ابتدائية، فما ظنكم بدول لها وزنها الاستراتيجي، سواءً تاريخياً أو جغرافياً أو حتى من حيث الإمكانات الاقتصادية والمالية؟، ولعلّ في النتائج والمصائر التي أودوا ببلدانهم إليها، لبرهان ساطع على ذلك.
فالانبهار بالكاريزما السياسية له مؤدى خطير على مستقبل البلاد لأنه يعطل مبدأ التفكير ويجعل الأنفس تحكم بعواطفها على السّاسة، لدرجة أنّ المنبهر بمثل هذه الشخصيات الكاريزمية، قد يؤدي به الإغواء إلى أنْ يعمل على الدوام لأجل الدفاع عن زلاتهم وكوارثهم السياسية من دون أنْ يُكلفه أحد بذلك، بل ينبري بنفسه لأداء هذه الوظيفة، نتيجة الغشاوة التي تنعكس من هذه الكاريزمات على بصيرتهم قبل بصرهم، وهناك وقائع تاريخية تؤيد طرحي هذا، وأسوق لكم منها، حادثة إعلان "عبد الناصر" استقالته عن منصبه الرئاسي، عقب هزيمة 1967 النكراء، لعلمه بأنه هو المسؤول الأول عن تلك الكارثة، التي أدت إلى احتلال أراضٍ عربية تتبع لثلاث دول نتيجة لعنترياته واستبداده بالرأي والقرار السياسي العربي بصفة عامة، ففي الخطاب الذي أعلن فيه عن عزمه على الاستقالة، قامت بعض النسوة برمي أنفسهن من أعلى بنايات القاهرة لأجل ثنيه عن ذلك- وهذا ما قمنّ به بعد وفاة المطرب "عبد الحليم حافظ" أيضاً في عام 1977 ميلادية- مع أنه لم يحصل على هذه الثقة إلا نتيجة لمظهرة وخطبه الآسرة للقلوب العربية الرجالية والنسائية، وكذلك القذافي، الذي أُعِد لهذا الغرض في صالات التطويل وتعريض الكتفين والمقدرة على الحديث لساعات وساعات، وتقمصه للشخصية الأصيلة بارتداء الزي الوطني، أما "صدام حسين"، فقد اكتسب الكاريزما السياسية بشواربه المهذبة وابتسامته الجميلة التي تفغر عن أسنان لبنية مصطفة ككردوس عسكري من حرسه الجمهوري، وحرصه على الظهور باللباس العسكري الزيتوني، مع أنه لم يكُن من المؤسسة العسكرية، بل قضى على كل عسكري مقتدر، وقد نجد العذر للنساء إنْ وقعنّ في هذا المطب، لكني لا أجد أيَّ تفسير للمصابين بهذا الداء من الرجال.
أغلب من يشكك في كفاءات رجال المجلس الوطني الانتقالي، واقعٌ تحت هذا التأثير الكاريزمي، لأني أجدهم يركزون على الكاريزما لكل واحد منهم، كما أجد آراءهم تتطابق مع النساء بخصوص أعضاء المجلس بالسلب أو بالإيجاب، سواءً بسواء، وهنا سأحاول أن أؤكد لهم على هذا المبدأ الذي جعلهم يحكمون على أداء المجلس من خلال هذه الرؤية وقد لا يشعر الواحد منهم بها، ويمضي في انتقاده بناء على هذا الحكم الظالم، فالملك "إدريس" رحمه الله، لم يكُن ممّن يتحدثون كثيراً وليس من هواة الخروج على شاشات التلفزيون، إلا أنه كان رجل دولة، وأهم ما ميّزه صدقه وإخلاص نيته لبلاده، وهذا ربما ما يفسّر تعذر حصول القارئ على صورة واحدة له، وهو يؤدي الصلاة، لأنه يعرف أنّ ذلك قد يوقعه في إثم الرياء، بعكس القذافي الذي حرص دوماً على أنْ يُظهـِر نفسه للعالم، بأنه إمام المسلمين من خلال إمامته للمصلين من المسلمين في أفريقيا، وكذلك الشيخ "زايد بن سلطان" الذي خدم بلاده بإخلاص وعمل على أن يجمعها في اتحاد واحد، بدلاً مما كانت عليه من إمارات مشتتة على ساحل الخليج العربي، فلم يسجل عليه أنه من الشخصيات التي كسبت محبة الشعوب نتيجة لطراوة ألسنتها ولم يحسب أبداً على الشخصيات التي تعشق الظهور.
من هنا أصل بكم إلى تأصيل مهم في تقييم الأداء السياسي لأية شخصية سياسية إما الآن أو في مستقبل البلاد السياسي، فالحكم على أي متقلد لأي منصب سياسي في البلاد، لا ينبغي لنا أنْ نخضعه للكاريزما التي تأخذ عدة أوجه منها حسن المنظر، وأكثر ما أحذر منه تلك الكاريزما الصالونية البيروقراطية التي قد يجانبها الصواب كثيراً، ولا يهمها سوى أن تسجل خططها التنموية باسمها- كخطة ماريشال التي نهضت بأوربا بعد الحرب العالمية الثانية- في حين أنها قد تكون غير ذات جدوى، وإنْ كان من بد، فلتكُن الكاريزما الرصينة هي ساحرتنا.
بنغازي: 4/8/2011