الخميس، 11 نوفمبر 2010

برج بنغازي المائل

 بين برج بنغازي المائل ، و متحفِها الزائل - أو بالأحرى المُزال - يطيبُ ليّ الجلوس ، كعادة يومية ، أراها حميدة ، أمارسُها منذ عشرين عاماً ، و قد عودني عليها والدي رحمه الله ، حينما كان يأتي بيّ معه ، و أنا صغير بصفته مأذوناً شرعياً ، إلى محكمة شمال بنغازي ، ليصدّق على العقود التي أبرمها ، و كانت كلها عقودٌ للزواج فقط ، ففي ذلك الوقت ، لم يألف الليبيون و الليبيات الطلاق أبداً ، وكان بعد أنْ ينهي تلك الإجراءات ، يأخذني معه إلى مقهى جميل ، يُقابل مبنى المحكمة ، فيطلب لنفسه فنجان قهوة ، و يأخذ ليّ كوب جولاطي - كنت و لا زلت لا أحبُّ الجولاطي بالطربوش - و بعد أنْ يُكمل شربه للقهوة ، يأمرني بأنْ أستعجل نفسي ، لنذهب إلى مدرسة ( قرطبة ) التي يُدّرس بها ، و هي مدرسة ، تتوسط أحياء البركة و رأس أعبيدة و شارع عشرين و الماجوري و الرويسات ، التي أعتبرها من ضمن نطاق البركة ، فيما أنا مُستمتعٌ بمراقبة حركة سفينتي الصغيرة ، التي تتحرك بدفع حبّي لها - كوب الجولاطي الفارغ - و هي تمخر عـُباب صخور الشاطئ ، و حينما تصدّها إحداها ، أهتف مشجعاً أياها ، كي تتجاوزها .و في هذا اليوم ، وصلت منطلقاً من البركة إلى الكورنيش ، بعد ثلث ساعة بالتمام ، من السير على قدميّ ، حاثاً الخُطى ، و بعد أنْ شكرت أكثر من صديق ، مرّ بقربي بسيارته ، لينقلني إلى وجهتي المقصودة ، و بعد أنْ طلبت كوب ( خلطة ) من مقهى ، يعمل فيه شاب طرابلسي وسيم ، اسمه ' أسامة ' يُحسن صنعها ، و يتهافت عليه أبناء بنغازي من كل حدب و حي ، جلست قــُبالة المقهى على مصطبة الكورنيش ، انتظر صديقي ' لطفي ' و هو شاب أصيل و طيب إلى حدِّ السذاجة ، يكبرني بست سنين ، لكنه مثقف جداً ، و مع ذلك ، هو من النوع ، الذي يحبّ أنْ يعي ما يدور حوله ، فيكتفي بالاستماع طيلة الوقت ، و لا يقاطع جليسه ، إلا في حالة رغبته في طرح السؤال ، أو التعليق على ما يستوعبه ، بموقف طريف حدث معه أو شاهده في مسلسل ( صح النوم ) فيعتصر القلب ضحكاً ، لكنه بعد أنْ ينفض حديثنا ، يحتفظ بقناعاته ، كأنه لم يكـُن معي أصلاً .
الوقت كان ما بين العصر و المغرب ، و في هذه الفترة ، كنت في العادة ، استمتع بالجلوس في مقهى الشومالي ، و استظل ُّ به ، من شمس الظهيرة و ثقالة ظلِّ و شمس بعضهم ، أيام كان يديره ' علي الشومالي ' و هو رجل كبير في السنّ ، يبدو على ملامحه المنبت الأصيل .ما يعجبني في شارع العقيب ، هو النفحة العربية الإسلامية الأصيلة ، التي تعبق منه ، و أنه ، ينزلق بيّ مباشرة إلي ذلك المقهى – و وقتما أكون في منتصفه ، أي عند المسجد الذي يتوسطه ، أرى ذاك المقهى ، فأعرف عن بعد ، إنْ كان مفتوحاً أو مقفلاً ، في حالة مرض هذا الشيخ - الذي كان تحفة في تصميمه و هندسته ، فرفعة ذوق هذا الشيخ ، جعلته يستعين بعمال إيطاليين مهرة ، بنوه له من الألومنيوم المُسلـَّح بالزجاج الفاخر ، فمن كثرة تجوالي في شوارع المدينة ، صرت خبيراً بها ، و أعرف جيداً ، كيف أختصر الوقت و الجهد باختيار دروبي القصيرة ، و أصل إلى ما أريد ، من دون لف و لا دوران على جزيرة التعب . لم أذق في حياتي نكهة الشاي الأخضر ، إلا من إبريق هذا الشيخ ، الذي أتحدّى أية عجوز غبرية ، أنْ تعدّ مثله ، و منذ توفاه الله إلى الآن ، لم أستطعمه .. أذكر مرة حينما كنت أتدرب في معسكر 2 مارس في حي المساكن في ربيع 2003 ، ذلك التدريب ، الذي أربك نظام حياتي اليومي ، فبينما أكون داخل جدرانه الأشبه بسجن ، أتحرّق شوقاً ، لأنْ أكون هناك ، في مقهى الشومالي ، حتى أنني أقفز من السور فاراً ، بينما أحد الضبّاط يصرخ خلفي : ( ارجع يا تحفة )، فأردها عليه في سرّي : ( تي حل يا تافه ) ، و لكنْ بلغتنا الدارجة : ( يا أزمال * ) و لا أبالي بالتمام اليومي ، و أخاطر بنفسي ، في سبيل ، ألا أحرم من عادتي اليومية .. وصلت إلى المقهى منهكاً بعد تعذيب عسكري ، مورس علينا ، نتيجة التحرش اللفظي لأحد المستجدين من دفعتي بإحدى الضابطات المضبوطات على ( سنقة 10 ) فاستقبلني ذلك الشيخ الطيب بابتسامة ، يكتنفها الحنان و بكوب ماء منعش و مُنكـَّه بماء الزهر ، و ألحقه بكوب شاي أخضر ، و عندما ناولته عشرة دنانير ، ليأخذ منها ربع دينار فقط ، أرجع إليّ بقية المبلغ ، و قبل أنْ تمسّ يدي ، عصفت ريح شرقية ، فطارت منها خمس دنانير في الجو ، مسافة مئة متر ، طلب إليّ ألا أتبعها : ' أنت تالف و ياخذن سوك .. ياما راح يا اوليدي .. راحو حتى البنادمين .. يا بال افلوس .. و يا فقري ما غناك قعود .. كواغط يمشن و ايجن **' و عوضني عنها بخمسة غيرها ، فيا لطيبة هذا الرجل الشهم ، الذي آثرني على نفسه .
رحل الشيخ ' علي ' إلى بارئه - من دون أنْ أعلم ، فقد غبت عنه يومين اثنين ، لأداء مشروع الرماية في الأبيار ، الذي فيه ، لم تصـِب أية رمية من رمياتي الهدف ، كما غيري من الرماة ، فيا له من مشروع فاشل ، و منذ ذلك اليوم حلفت ألا أعود إلى هذا المعسكر ، فأنا الآن فاراً ، و لست فأراً من وجه العسكرية ، فمثلما لبلادي عليّ حقوق ، فإنّ ليّ عليها واجبات ، ثم ماذا سأخسر ؟ فأنا لا أعمل ، و لن أسافر خارج معشوقتي ليبيا أبداً ، حتى أنّ جواز سفري ساقط منذ عام 1990 و قد استصدره ليّ أخي ' فتحي ' و أخذ عليه منحة السفر ، ليتزوج به ، فصار جواز سفر للزواج و كفى ، و هو ما يزال في حوزته ، و لم أطلبه منه - و تولـّى مهامه ، ابنه ' عادل ' ذاك الشاب الوسيم ، الذي لم أر في حياتي أحداً في مثل وسامته ، كان ' عادل ' يتفاءل كثيراً بحضوري ، و يقول ليّ : ' عرقوبك جلاب يا أزويدة .. فلا تنقطع علينا .. و ما اتديرش غيبة .. حتى لو ما معكش افلوس .. راهو المقهى على احسابك .. راك أوليد نزيك و يا ريت منك اثنين ' فأشكره : ' تسلم و امنوّر يا امصوّط .. تي كان مني اثنين رانا امخربين ليبيا ' فيبتسم و تظهر على خديه غـُمزيتين تزيدانه حسناً و وسامة .. و بعد أنْ جدّد ' أعدولة ' و حدّث ما بداخل المقهى ، و كلفه ذلك مبلغ و قدره ستة ألاف ديناراً ، أُستصدِر قانونٌ بإزالة هذا المقهى ، بحُجّة تطوير الكورنيش و توسعة شارع أحمد رفيق المهدوي ، بثلاثة أو أربعة أمتار إلى داخل الكورنيش ، ما سبّب في ألم ذلك الشاب ، حتى أنه أخذ طول النهار ، يقيس بخطواته القصيرة هذه الأمتار ، و يطلب إليّ أنْ أقيسها ، بحُجّة أنّ رجليّ طويلتان من كثرة المشي ، ثم يأخذ متوسط القياسين ، فيجد أنّ مقهاه ، سينجو من هذه الإزالة ، و لن تطوله - بلغة المنطق و الحساب و الأخلاق - فيراجع المكتب الهندسي ، التابع إلى اللجنة القائمة على تنفيذ هذا المشروع ، ليفحمهم بذلك ، فيخبرونه بأنّ شكل المقهى ، لا يتكيّف مع الوجه الحضاري للمدينة ، و مع المخطط العام المُعَد للكورنيش الحديث ، حتى أقنعوه ، بأنه ستكون له الأولوية و الأحقيّة ، في استلام إحدى المقاهي الجديدة الحديثة التابعة لمرافق هذا التطوير الشامل ، و في يوم ما ، زحفت عليه السيدة مِلعقة ( كشيك أو بلدوزر ) ضخمة و حطمته في لمح البصر ، أمام استياء الجميع ، و من دون أنْ يعوّض ' عادل ' و أسرته بشيء ، و أمام فشل خطوات ' عادل ' التقدمية .
كل هذه الذكريات ، استحضرتها ذاكرتي ، و قفزت أمام مرآة عينيّ ، فعكستها عليكم ، بعد أنْ اختلطت المشاعر في نفسي ، جراء احتسائي لـ ( خلطة ) أسامة الطرابلسي ، التي لا أراها في مستوى خلطة جاري ، الشاعر و القهوجي ' باسط ' صاحب العبارة الشهيرة و الخالدة : ' الحياة واعرة ' و ما هي إلا لحظات قليلة ، حتى ظلتني غمامة مائلة ، بعد أنْ اختبأت الشمس خلف العمارة ، التي تشبه الرجل الواقف ، الذي يعاني من قصر في رجله اليُمنى ، و لم يطله التطوير ، بتطويل في رجله اليُمنى ، و لا حتى البتر لليُسرى ، عصر ذاك ، وصل ' لطفي ' و علق قبل أنْ يصلني بمسافة ثلاثة أمتار : ' قاعد في الطراوة يا خويا ، و نا حرقتني الشمس في الطريق ' و ما أنْ جلس ، و بدأ يحتسي خلطته ، حتى اختلطت عنده المشاعر مثلي ، فرفع رأسه إلى العمارة ، و أحسّ من جراء دوّار المشي تحت أشعة الشمس ، بأنها زادت في ميلها ، و سألني بصوته ، الذي أكبر من بنيته : ' يا زياد العمارة يتهيالي قريب اتطييييح ' ..
( طاح سعد العار .. راهو اتطيح علينا العمارة .. و تقعدلنا نقــّة ) قالتها فتاة مراهقة لحبيبها الآني - فيبدو أنّ كلمة ( اتطييييح ) قد وصلتها - كانا يسفلانا بمنخفض مترين أو ثلاثة أمتار ، فزادا تحت ذلك ، سفلاً و سفالة في الأخلاق ، حينما هبطا إلى قاع الكورنيش ، هذا ما استنتجناه من خلال صيحات و تعليقات الفتية - عليهما - الموجودين في كوخ خشبي داخل البحر ، عموماً هي طريقة لممارسة الرذيلة ، يفعلها الكثيرون هناك ، هذا ما أخبرني به الشيخ ' علي الشومالي ' رحمه الله ذات مرة ، و ما رأيته بأم و أب عينيّ ، غير مرة .
عدنا بعد ذلك إلى العمارة ، و سألني ' لطفي ' : لمَ لم تقـُم الجهات المعنية بإزالتها ، بعد أنْ أفرِغتها من سُكانها ؟ .
فأجبته :
- ربما تريدها أنْ تسقط بفعل الطبيعة ؟ حينما تأخذ مجراها ، فلا يكلف أمر الإزالة الدولة في شيء ، إلا بعض الأرواح و الممتلكات ، إنْ سقطت فجأة على الناس ، فذلك يحتاج عاصفة قوية ، بشرط ألا تكون جنوبية ، لأنّ حتى نسيمات البحر ستصدّها ، و إذا جاءت شرقية ، فستكون هي الفاعلة ، لأنها ستزيد من ميلها ناحية الغرب ، و لن يصعب عليها قلبها إلى الوراء ، غير أنها ستتسبّب حال ذلك ، في وقوعها على بيت علم من أعلام بنغازي و ليبيا بوجه عام ، و هو البيت ، الذي احتضن الفنان ' أحمد فكرون ' و ترعرع بين جنباته ، و غنى فيه أول أغنية ، بينه و بين نفسه ، ليجرّب حلاوة صوته ، و هو البيت الذي إنْ دخلت إليه ، ستجد على جدرانه ، بصمات نوتات موسيقا أغنياته الأولى ( أوعدني – نجوم الليل – شباكك – سمار الليالي – يا بلادي ) .. فيا أيتها الريح ، لا تكوني شرقية ، فأنت مدمرة ، أما الرياح الغربية ، فسوف لن يكون لها أيُّ فعل و لا تأثير ، لأنها مهما اشتدت ، لا تأتي إلا بالمطر ، و لن تستطيع دفع هذه العمارة ، فلا تعوّل كثيراً ، على هذه الرياح القادمة من جهة الغرب ، و لا تنتظرها ، فالهدوء الذي سبق العاصفة طال أمده .. يا ' ألطيّف ' على الدولة أنْ تقوم بإزالة هذه العمارة الخربة ، التي إنْ انهارت ، فستنهار علينا كلنا ، و لن يسلم من أذاها أحدٌ ، كما قامت بهدم تلك التحفة ( المتحف ) حينما أرادت .. سألني : باهي ليش هدوه ؟ زعمك يبو ايخلو العمارة هذه تحفة زي برج بيزا المائل ؟ .
- يا عزيزي ، لم يسلم منهم حتى ذاك المقهى الجميل ، ربما لأنهم لا يرون فيه أهمية و لا جدوى ، فالتحفة في عرفنا ، مسبّة و خاصة في المعسكرات ، أ لم تسمع من يصيح وراءك ، و أنت تقفز من سور المعسكر : ( ارجع يا تحفة ) ؟ .
- لا لم أسمعها يوماً ، لأني لست من هواة القفز ، و لكوني أعاني من قصر في رجلي اليمنى ، زي هالبرج العرج اللي قدامك ، و أتبع تعليقه ، بسرد موقف شاهده ، و انطبع في ذاكرته من مسلسل ( وادي المسك ) حينما صار ' أبو عنتر ' يقبض على أي شخص ، يقف مذهولاً أم لا المعقول الذي يراه ، و يقول : و الله شي بيجنن .. ثم انكمش خائفاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : كان عليّ ، أنْ أرفق ضمن مقالتي هذه ، صورة للــ ( العمارة المائلة ) لكني لم أجدها على القوقل ، و لا أملك كاميرا ، و لست شحّاذاً للكاميرات ، فالتمسوا ليّ العذر في ( فقري و عنطزتي ) .
( * ) : لا أحبّ الكتابة باللهجة الدارجة ، فهي في الكمبيوتر غير مُعرَّفة ، و تظهر تحتها خطوط حمراء ، و بطبعي لا أحبّ التابوهات و الخطوط الحمراء في الكتابة .
( ** ) : لست مقتنعاً بهذا المثل ، فالذي نخسره من المال لا يعود ، مثل الأيام التي تذهب من أعمارنا .

1 تعليقات:

في 21 يناير 2012 في 12:51 ص , Anonymous غير معرف يقول...

روعـــــــه.

يامن تطيعه أحرفه ليرسم اجمل اللوحات في وصف دقــيق مميز وبجمال الابداع نفسه خطوات المسير في دروب مدينتي الطيبة . فعند قرأتي كان عقلي يرسم لي تلك الذكريات بصورة ولا أجمل مع ذاك الطفل المدلل الهادئ برفقه أبيه وصولاً إلى الشاب الاكثر وسامه في الاحرف والشكل والمضمون والذي أصبح رفيقاً لشارع احمد رفيق . ومن كوب الجولاطي إلى كوب الخلطة. على الرغم من كونها اكواب إلا إن في كل كوب مذاق ونكهة خاصه كمديتني تماماً فلكل حي فيها له طابع يمتاز عن غيره .. ومن يقول غير ذلك فالرياح الشرقيه كفيله بأن ترد عليه ليعود إلى مساره الطبيعي ويعترف بأن بنغازي جميلة وستكون الاجمل بإذن الله .


اسعدني الجلوس هنا لمتابعة شريط الذكريات الخاص بأبن مدينتي .فكل مرة اقرأ فيها عن هذه المدنية أحبها أكثر من ذي قبل .. فلا تحرمنا ياأخي من كتابتك لإننا بالفعل نشتاق لها جــــداً.

رحم الله والدك وأسكنه الفردوس الاعلى وأمد الله في عمرك وسدد خطاك وفتح الله لك ابواب الخير والسعاده اينما ذهبت ..


من سعادتنا بما وجدنا اليوم في مدونتك أحرفي تتراقص وتقفز من أمامي طرباً فلم استطع الامساك إلا على من نقرت عليها.

تقبل مصافحتي لك

هـدوء الشتاء

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية