الخميس، 24 يونيو 2010

نص سردي : بنغازي مدينة بلا مرجع

" موتانا ليسوا في حاجة منا إلى الوقوف دقائق صمت ترحُّماً على أرواحهم الطاهرة"

ضريح ( سيدي داوود ) كان نقطة المرجع لبلدية بنغازي ، حيث قـُسِّمت أحياؤها ، بالرجوع إليه ، و صارت آنذاك تُعرَف ، بهذه التسميات : ( داوود الغربي : السبالة و ما غربها ) و ( داوود البحري : سيدي حسين حتى البحر ) و ( داوود القبلي : البركة و ما يقع جنوبها ) و ( داوود الشرقي : راس اعبيدة و ما هو في شرقه ) .. كـُنا نقفز من سور المقبرة المتناسق - الذي لا تجد نظيراً له ، يحوط قصور البرجوازيين الجدد ، في هذا الوقت - التي بها ضريح هذا الوليّ الصالح ، لنبحث عن خلايا العسل داخل القبور المتهالكة - ما أشـّجعنا و أجـّسرنا آنذاك ، مقارنة بأطفال اليوم .. و نختفي خلف نبتة الصبّار المرّة المذاق ، التي غالباً ما تطلبها منّا الأمهات ، لاستعمالها في فِطام الرُّضع ، و بعض المُطبِّبات الشعبيات و المشعوذات ، اللائي يشترين منا ، زاحفة ( الحرباء ) لقاء ( عشرة قروش ) كفيلات بأنْ يعيش بها الواحد منا ، سلطان يومه آنذاك .. نختبئ وراءها ، حينما يأتي الزوّار و الدراويش المُحمَّـلون بالهدايا العينية و المالية إلى هذا الضريح ، و نمكث هناك ، حتى يغادروا ، ثم ننقض على الهدايا ( النقدية ) التي يتركونها خلفهم ، لنسرقها ، فكان كل هدفنا وقتذاك ، هو الدخول إلى السينما ، و الاستمتاع بمذاق ( اكنافة ) حلوائي النجمة ، المقابل لدار عرض الهلال ، الذي كان يعمل به طاقم من الحلوائيين اللبنانيين ، أذكر أنّ واحداً منهم ، و اسمه ' أبو سمير ' كان يشبه كثيراً الرئيس اللبناني المغدور ' رفيق الحريري ' ، كان سعر الصحن الواحد خمسة عشر قرشاً فقط ، فيناولها لنا طازجة لذيذة في صحن زجاجي كبير ، حتى أنّ الواحد منا ، لا يستطيع إكمالها ، و بعد أذان صلاة العصر بجامع ( هدية ) - الذي كان يؤم المصلين فيه ، الشيخ الجليل ' عوض الشارف ' رحمه الله ، الذي قال في حقـِّـه الشيخ الجليل ' محمود دهيميش ' لوالدي ذات لقاء : ' إنّ الصلاة وراءه مقبولة بعون الله ' ذلك أنه كان مديراً أو موظفاً كبيراً في مصرف الوحدة ، حتى إدخال العنصر النسائي من الموظفات إلى الدوائر الحكومية ، ما جعله يستقيل ، و يتفرغ لهذا المسجد المبارك و العتيق ، الذي بلغ عمره الآن ( 124 ) سنة مضيئة تقريباً ، و قد بُني مع القصر التركي ، المُقابل لحي السبالة ، و يجد من يصلي فيه ، تاريخ إنشائه على محرابه العتيق - ندخل إلى سينما الهلال ، مفضلينها على دار عرض الزهراء ، التي كانت مخصَّصة أكثر ، لعرض الأفلام الهندية ، التي لم ترُقنا حينذاك ، مقارنة ًمع الأفلام الأمريكية و الإيطالية .
كنتُ أصغر واحد في تلك المجموعة ، التي يتزعمها ' بغـّايا 1 ' و شقيقاه ' جبريللو ' و ' احجيبة ' مؤلفين معاً فريق ( الإخوة ملوج 2 ) المشاكس ، و أخواي ' سعد ' و ' أسامة ' و ' باسط 3 ' و ' صبري 4 ' و ' عادل 5 ' و ' اكويلا 6 ' و ' ماني ' و ' الصقر ' و ' عادل المرعوش 7 ' و ' عنجر 8 ' و غيرهم .. كنا نشكل معاً ، مجموعة دفاعية ، رأس حربتها ' بغّايا ' و ' الصقر ' و ذيلها أنا ، باعتباري الصغير ، المُتحفِّز دوماً للفرار ، أمام كل معتدٍّ من الأحياء الأخرى ، أينما ذهبنا و حللنا ، كنا نتفوق على أبناء الأحياء الأخرى ، في كوننا رياضيين ، و نتدرب في الألعاب الرياضية كلها ، فمنّا السبّاح ، و منّا لاعب كرة القدم ، كما منّا ، من هو يلعب في لعبة الجمباز ، و كرة السلة و الطائرة ، و التنس كذلك ، لكننا لا نختلف عن الآخرين ، في شيء واحد ، و هو أننا كنا ندرس في مدرسة واحدة ، هي مدرسة ( قرطبة ) كما أننا نتحد و أياهم ، في ارتداء الملابس ، التي نشتريها من شركة التسويق المحلي ، التي لها فرعٌ بجانبنا ، منشأة ( أنت و حظـّـك - البحر الأبيض المتوسط ) التي نقف في طابورها مع المتطوبرين من الأحياء الأخرى ، و نجد المعتوة ( زورو ) قد أوكل إلى نفسه مهمة تنظيم هذا الطابور الرجالي و النسائي ، حتى أنه ، كان يجلد كل من لا ينتظم بحبّ و طيبة ، فيا لسخرية القدر ! .. فتـُرمى علينا أكياس بها ( جوارب و بنطلون أمريكي صنع مصنع درنة و حذاء رات ) و بعد أنْ تنفد البضاعة كلها ، تجد تجمعات للمشترين ، تحت شجر النم المقابل لنادي النصر ، و عند سور مقبرة ( سيدي داوود ) يستبدلون حظوظهم العاثرة ، بالصياح الديكي ، و هم يضعون و يضمون أيديهم عند أفواههم : ' اللي يبي كندرة فردة ايمين رقم 45 .. ايبدلها ليا بفردة ايسار رقم 42 ' .. ' اللي يبي شخشير قهوي ' .. ' اللي يبي اشكارتي ياخذها .. بس .. ايزيدني خمسة اجنيه على السعر الأصلي ' .. ليشتري به قراطيس دخان ( أطلس التل ) الذي رائحته مثل ( بول الحمير ) أعز الله القارئين .
كان من يقوم على الغفارة في هذه المقبرة ، شيخ شرس و جلف ، لا أعرف اسمه ، لكني صحوت على الدنيا ، و أنا أسمعهم ينادونه ( اشلاكة عندي ) هو شخص قاسٍ ، لا رحمة في قلبه الميت ، لذا فهو يقيم في كوخ صغير في هذه المقبرة ، و معه الحاج ( عيون صباح 9 ) .. كان ( اشلاكة عندي ) يقذفنا بـ ( فرقيلة ) طول سلكيها المعدنيين ( متر ) و ذخيرتها أحجار من الصوان ، ثقل الواحد منها نصف كيلوجرام ، كفيل بتهشيم رؤسنا جميعاً ، لولا العناية الإلهية - كنا كما فريق صيد من اللبؤات ، يقوم أحدنا بإلهائه و آخر بتضليله ، بالتقاط نعليه ( شلايكه ) اللذين يقذفهما من قدميه - بمجرد عزمه على الركض خلفنا - و يشرع في إثارة انتباهه ، بمناداته : ' اشلاكتك عندي .. يا حاج ' - أعتقد بأنّ هذا هو السبب الذي جعله ، يُعرفُ بهذه التسمية - فيما يقوم ثالث بمشاكسة ' عيون صباح ' أما الباقون ، فيظلون في الخارج للمراقبة ، في حين يقوم ' بغّايا ' باقتحام الضريح و سرقة الغلة ، التي قد تتجاوز أحياناً ، مئة دينار ، من الفئات النقدية الورقية و المعدنية .. فتبدأ المطاردة من عند المقبرة ، و لا تنتهي إلا داخل سوق الرويسات العام ، و على سلالمه الكهربائية ، هذا إنْ اختار ' بغّايا ' سبيل ( داوود القبلي ) مفراً للهرب ، و أحياناً حتى ميدان البلدية ، إذا وقعت رجلاه على تفضيل ( داوود البحري ) و عند هذه الاختيار ، قد تخرُّ قواي ، و أفقد أنفاسي من كثرة الجري و اللهث ، ما يجعل ' عادل المرعوش ' يحملني على ظهره ، خشية أنْ أقع فريسة لـ ( أشلاكة عندي ) و حينئذٍ ، سأفضح أسماءهم .. الطريف أنّ هذا الغفير ، قد يصعد الحافلة كي يلحق بنا ، و لما لا نجده وراءنا ، نحسّ بالطمأنينة ، حتى ننسى خطره المُحدق و الداهم ، فنستسلم لرغباتنا الجائعة و العطشى ، فنستريح عند كورنيش الكابترانية ، و نشتري ( سندوتشات ) من الأكشاك ، التي هي غير موجودة الآن هناك ، و كانت في وقت متأخر ، عبارة عن ( دحي امزفر ) من دون حتى ملح و لا هريسة ، في استراحة لنا ، قبل أنْ ندخل إلى سينما بنغازي ( برنيتشي ) حينذاك ، و على غفلة منا ، يفاجئنا ( اشلاكة عندي ) الذي نجده أمامنا ، دونما أي سابق جرس ، ما يجعل سربنا يتبعثر و نتفرق ، فيجري خلفي ، لأنه يراني الفريسة الأسهل و الحلقة الأضعف في هذا العقد المشاكس ، و يصبح يصيح للناس هناك : ' أمسك بو فنيلية زرقة ' .. فيردّ عليه أحدهم : ' كلهم لابسين فنيليات زرق ' .. ' امسك بوفنيلية زرقة .. اللي عليها رسمة مضرب ' .. ' يا حاج كلهم لابسين فنيليات زرق و عليهن مضرب .. و مضروبين بعصا الحرمان .. تي حتى أنت ظالم .. اللي لاحقهم لعند هنا .. حرام عليك .. سيبهم يا حاج ' .
و نتيجة إصراره ، أرمي بنفسي إلى مستنقع الكابترانية ، فقد كان وقتذاك نظيفاً ، و السباحة فيه رائعة و جائزة ، فلا يعرف كيف ينزل وراءي ، لأنه برّيّ ، ما يجعله ، يستخدم منجنيقه ( الفرقيلة ) و كلما أدارها حوله عدة لفات ، و أطلق قذيفته ، أغطس في الماء ، حتى يملّ و يكلّ و ( ايحل ) و يشتكي لآبائنا ، فيقوم أولهم بسداد المبلغ المسروق ، و يزيده عليه ، ثمن تذكرتي الحافلتين ، اللتين صعدهما ، و فوق ذلك خمسة دنانير ، تعويضاً له على ما لحقه من تعب ، و لأنه سهّل على آبائنا معرفة مكان تواجدنا ، من دون أنْ يراجع الآخرين ، كي يحظى بشرف معاقبتنا ، حالما نرجع .
***
أنا اليوم ، متجهٌ نحو أحياء ( داوود القبلي ) منتهجاً فجّ جمال عبد الناصر ، بادئاً مسيري من عند قطعة الأرض المعلقة فيها لافتة : ( هذه الأرض حبس خالص للأوقاف ، فلا يجوز البناء عليها 10 ) تركتها خلفي ، ماراً بمنشأة البحر المتوسط سابقاً ، التي تحوّلت إلى محل لبيع الآثاث ، فوجدت لاعب السلة القدير ' احميدة المزوغي ' جالساً كعادته ، منذ ثلاثين سنة لوحده ، ممسكاً بكلتا يديه ، آلة حاسبة نوع ( أف أكس - 5000 ) ، و بعض الفواتير ، لا لحساب الأرباح ، بل الخسائر و الديون التي هي عليه ، و تشغيل برنامج الاحتمالات ، المدرج ضمن برمجيات هذا النوع من الآلات ، لمعرفة حظه الحسابي ، نتيجة ًلحجز بضاعته من السيارات المستوردة منذ عشر سنين ، فأشار إليّ برفع حاجبيه ، و بابتسامة يتمرس وراءها ، كبرياؤه المهزوم و أحلامه المؤجلة ، فحييته باهتزازة رأسية ، ثم أطرقت رأسي إلى الأسفل ، و مضيت حتى وصلت إلى ناصية قهوة ( سي داوود ) فوصلني جدال ' باسط ' مع أحدهم ، و حينما لمحني أشار إليّ بيده ( تعال ) فأشرت إليه بحاجبي أخيه ' أحميدة ' قائلاً له في سرّي : ' مش فاضيلك يا قلق ' .. واصلت دربي ، لأجدني عند دار عرض الهلال ، الموصودة أبوابها ، فازدرأت مشهدها ، و أشحت بنظري عنها ، جهة اليسار ، فوقعت عيناي ، على الشاعر الجميل ' علي بالخيرات ' جالساً أمام بيتهم في شارع بومدين ، واضعاً على عينيه نظارات ( القطوس ) المظلمة ليخفي وراءها ، فئران و جرذان فقره .. اقتربت من عمارة ( الصفطية ) الضخمة ، التي هي أكبر عمارة في بنغازي ، و أعتقدها أيضاً ، أضخم عمارة في ليبيا ، إذ يبلغ مجموع شققها ، ما يناهز السبعين شقة تقريباً ، هي مثل سفينة ، غير أنها تعوم على بحر للمجاري ( أعزكم الله ) لم أجد عليها أيَّ مظهر للصيانة ، التي شملت مباني شارع جمال عبد الناصر ، ربما لأنها ستكلف ميزانية بنغازي أموالاً طائلة ، و لا يستطيع مقاول واحد ، أنْ يجازف برأسماله على صيانتها ، ثم يقف في طابور الانتظار ، حتى يستلم مستحقاته ، بطريقة غير شريفة ، في آخر المطاف .. أول محل تمرّ بجانبه في الطابق الأرضي لهذه العمارة ، محل لبيع المواد الغذائية ، كان مركزاً لتوزيع الخضراوات و البيض ، في ثمانينيات القرن المنفرط ، زمن الاشتراكية الليبية ، في تلك الفترة ، لطالما وقف الليبيون في طوابير لنيل حصتهم من هاتين السلعتين الرخيصتين ، و أذكر أنّ أحد الرجال ، كان يصفّ في طابور النساء ، فيستهزئ به القوم ، و يطعنون في رجولته ، في حين ، أنني كنت أجده عارفاً لقدر نفسه أكثر منهم ، بعكسهم هم ، الذين ارتضوا بالمهانة على الرغم من اعتزازهم برجولتهم ، و هذه المشهدية الأليمة ، تذكرني بموقف مضحك و مبكٍ في آن واحد ، فقد أخبرني صديق ، بأنّ اثنين وقفا في آخر الطابور عند مركز آخر ، لشراء طبقين من البيض لكل واحد منهما ، و عندما أتي عليهما الدور ، لم يتبقَ لهما إلا طبقٌ واحد ، فترجوا البائع ، أنْ يعطيهم آخراً ، فأجابهما بنفاد الكمية ، و أخذ أخدهم يلح في استجدائه ، حتى ردّ عليه صديقه : ' تي هيا يا راجل .. سادك تجّداي .. و اللهي انكنهو ديك .. راهو دحّى ' .. هناك و تحت الفسحة التي في هندستها المعمارية ، كان يجلس مجموعة من الشباب المساكين ، عددهم بعدد الشقق التي فوقهم ، حييتهم بتحية الإسلام ، فلم ينتبهوا إليها .. دخلت إلى مكتبة ( المعارف ) فوجدتها تخلو من الزبائن ، و يملؤها شخير مالكها الأستاذ ' مصطفى القديري ' .. التفتّ ناحية اليسار ، حيث كانت يتلألأ محل نجمة الحلويات ، ببريق العسل ، الذي تتغطى به حلوياته ، الذي صار أثراً بعد عين ، و استمر نظري إلى هذه الناحية ، فحطت عيناي على جامع ( هدية ) فرفعت كفي ، و دعوت بالرحمة و أنا أسير على روح الشيخ ' عوض الشارف ' رحمه الله - و لم أقف دقيقة صمت ترحُّماً على روحه الطاهرة ، كما يفعل العلمانيون المجانين - كنت عندما أصلي خلفه ، و استمع إلى تلاوته لسورة الفاتحة ، ارتعد خشوعاً .. في آخر صلاة صليتها خلفه ، بل كنا نستعد لأدائها ، و كانت صلاة العشاء ، رأيته في زاويته المعتادة ، يتلو آي الذكر الحكيم من مصحفه ، و عندما أُقيمت الصلاة ، و وصل إلى المحراب ، سقط مغشياً عليه ، فتبلبل المصلون ، و عندما أُسعِف ، تقدَّم أحدهم ليؤم بنا الصلاة ، و عند انقضائها ، و بينما نحن نقوم بأداء معقبات الصلاة ، فتحت مصحفه ، لأجده قد وصل إلى آية : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } أو الآية : { إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم } .. فلست أذكر أيهما ضبطاً .
مرّرت على مطعم روض الفرج ، الذي كان من أفضل مطاعم بنغازي - و تزينه لافتة مصور عليها رسومات لدجاجات مضيئة ، صارت مظلمة - التي تبيع وجبات الدجاج المحمر ، و الذي لطالما تناولنا فيه الدجاج على حساب زوّار ( سيدي داوود ) .



بعد هذه العمارة مباشرة ، توجد عمارتان صغيرتان ، شملهما قرار الصيانة ، ثم عمارة التأمين التي عُمرت على أنقاض مركز البركة السابق ، و منها اتجهت أماماً ، و عند قبالة عمارة البريقة لتسويق النفط ، المكتوب على جداريتها ' نفطنا تنمية في السلم و سلاح في الحرب ' لم أرغب في مواصلة المشي ، و جلست هناك قليلاً ، عند كافتيريا الهدهد ، التي نهضت على أطلال الكنيسة ، التي كانت تحفة معمارية ، لا مثيل لها ، بعتابتها العالية المؤدية إلى مدخلها الرئيسي ، حيث يوجد كشك ' فرج ' الذي لطالما اشترينا منه أنا و ' صالح ' و شقيقي ' سعد ' مجلة ( اسبورتيف ) الرياضية الإيطالية ، كل يوم خميس ، بدينار و نصف فقط ، لمتابعة الدوري الإيطالي ، حينما انتقل ( مارادونا ) من فريق ( برشلونة ) الإسباني إلى ( نابولي ) الإيطالي ، و بعدما نقرؤها من الجلدة إلى العظمة ، نستودعها عند ' باسط ' الذي يحتفظ بها في أرشيفه ، الذي هو في حقيقته ، صندوق جدته النحاسي ، المغتنم من أمتعة الجنود الطليان المهزومين في الحرب الكونية الثانية .. الغريب أنني لم أجد صورة لهذه الكنيسة ، و مستعدٌ لاقتنائها ، و لو بمئة دينار على حساب مقهى ( سي داوود ) الذي تنقصه هذه الدّرة الجميلة في عقد الصور البركاوية و البنغازية القديمة .
عدت أدراجي من صوب المسرح القديم في البركة ، القريب من حدود السبالة ، الذي لم أجد له صورة هو الآخر ، و عندما اقتربت من تشاركية لتجهيز المناسبات ، أحسّست بألم تاريخي في جبهتي ، بين عيني مشهده ، و أثر جرحه ، لما سقطتُ منذ ثلاثين عاماً ، على وتد يشدُّ خيمة عزاء الحاجة ' ابريكة ' رحمها الله ، عندما كان يجري في إثري ' عنجر ' .. فهذه الحاجة المباركة هي من فطمتني بعد خمس سنين من الرضاعة ، و لكن من مرارة صبّار جبانة ( الصحابة ) رضوان الله عليهم جميعاً ، لا صبار مقبرة ( سيدي داوود ) .. رجعت إلى بيتنا مضيعاً بوصلتي و استطرلابي ، و من دون أية مرجعية ، و لا أي مرجع ، فلا ( سيدي داوود ) ظلّ باقياً ، و لا أحد ممّن أحبُّ ، له ذكر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنغازي : 25 / 05 / 2010
Ziad_z_73@yahoo.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) : سُمي بهذا الاسم ، لأنه كان ينطق حرف الراء ، غيناً ، و قد صار ضابطاً في الشرطة برتبة مقدم .
( 2 ) : ثلاث شخصيات معروفة في مسلسل ( مغامرات سندباد ) .
( 3 ) : سمّى مقهاه بمقهى ( سي داوود ) تكفيراً عن سرقته للهدايا التي كانت تصله .
( 4 ) ، ( 5 ) ، ( 6 ) : أصابتهم لعنة ذلك الولي الصالح .
( 7 ) : كان جباناً رعديداً ، أبوه من بنغازي ، و قد رحل إلى طرابلس حيث أخواله ، منذ خمسة و عشرين عاماً ، و لم أره من ذلك الوقت .
( 8 ) : اسم لشخصية درامية .
( 9 ) : اختار له هذه التسمية ' ماني ' لأنه عينيه تشبهان كثيراً ، عيني المطربة ' صباح ' في لونهما ، و كونهما غائرتين إلى الداخل.
( 10 ) : مقبرة ( سيدي داوود ) سابقاً - التي صارت مكباً للقمامة – خوفاً من أن يطمع فيها الطامعون .