الأحد، 19 ديسمبر 2010

بقايا إنسان

"الشعب الليبي.. ما ايريح منه شي.. اللي ايودر افلوسه.. ايقولوله: ياخذن سوّك.. واللي تنقلب عليه القهوة.. واللا يتعرض لقصف عشوائي من طائر في الجو أفرغ كل حمولته.. ايقولولهم: جياّتكم افلوس.. واللي ينهبل عندهم.. يحسبوه في عِداد لمّرابطين*".
وبالفعل، نحن نهذي بهذا، مع معرفتنا أحياناً، بأنّ مُضيع مالـَه وما لهُ، قد يكون إنساناً طيباً، ولا سوءاً فيه، وبه، وقد سّدد ما عليه، ونزداد هذياناً، حين تصبيره بعبارة مُلحَقة، تحتاج إلى تأكيد صيغتها، في شكل أسلوب شرطي عامي، قبل الإتيان بجواب الشرط، عند ضياع- بل- وسلب كل شيءٍ منا: "انكنهو رزق حلال؟.. توا ايرد" فماذا إذا ضاعت الحقوق والأموال العامة؟ ولم ترد لأصحابها، فهل سنغلق مخازن أفكارنا بأقفال هذا الخرف الصدئ، ونعتبر أنّ هذه الأموال، ليست من رزق حلال، ولا من كسبه؟ وهي ممّا لا مرية فيها، أموالٌ حلال زلال بنصاعة لون زُلال البيض، لأنها لا تـُكتسَب بالغش والاحتيال، وإنما بإخراجها بسيناريو وتصوير تكنولوجي وتقني معروفين، من جحيم باطن الأرض، ما يعني أنّ فرص الغش مُنعدِمة هنا أصلاً، ولا ثمة مجالٌ للعب بكُرتِه، على أرضٍ غير معشوشبة.. ونغثي بذلك، كذلك، في مسألة فقدان العقل، حتى لو فـُقِد من جرّاء تعاطي المخدرات، وبتجاوز هذا الهذيان والغثيان، اللذين نحن فيهما وعليهما- نعم هذيان وغثيان- فكم من طائر فعلها معنا، وكم من فنجان قهوة، اندلق على ملابسنا، واستبدلناه- وملابسنا- بغيره ولم نرَ شيئاً ذا قيمة، وكم من عاقل جُنّ، وحسدناه على هذه الرفعة الدينية، التي وصل إليها نتيجة، لتعاطيه الممنوعات المُنوعات، كي نتهرب من مسؤولياتنا تجاهه، فكلما رأيناه في الشوارع، وهو ينطق بما لا نستطيع حتى التفكير به، نقول عنه بحسدٍ مُتجرِّد من الغبطة: "عطاه ربي.. ما يندري ع الدنيا وين تفتح" فقد رُفِع عنه التكليف، وصار في مصاف التشريف- هذا إنْ لم نحسبه على المُخبرين- برأينا وتفكيرنا الخائبين، في حين، أنّ أغلب المجانين، يعاني أشد العناء في حياته، وقد يكون ما آل إليه، عِقاباً دنيوياً على ما فعل، ففيمَ وعلامَ الحسد إذاً؟.
***
هي عادتي، التي لم أعرف بعد إنْ كانت حسنة أو سيئة (النسرفة) التي جمعتني به، بعد أخر لقاء كان بيننا أيام الدراسة.. بقايا إنسانٍ، هذا كل ما أستطيع أن أصفّ به "اعبوده" فقد صار بثيابه الرثـّة، كما فزّاعة الطيور، من يراه يبتعد عنه، ليأمن شرّ خيره، تبدو عليه أعراض كل من له أغراض لم يحققها في هذه الحياة.. كل كلامه تنهيدات، تنديدات، تسديدات لا تعلو العوارض، ولا ترتطم بالقوائم، ولا تـُلقي بالاً لصافرات الكلام، ولا لـ(حامرات) العيون.. تأسّنت حدائق حدقتي عينيه، بـِبرك دموع شتوية، وبلون استعجبتـُه فيهما، وأجفلت طيورها إلى بُغية في ضِفاف بكر، لم تـُبتكر وتكتشف بعد على يدي (
كريستوف كولومبس ) الأحلام، فضاعت، ولم تعد كما الطيور المهاجرة، التي أُفترِست..

استقطاع:
هل تهاجر الطيور حقاً؟ فلمَ تعود، والحال كذلك؟ إذاً هي تسافر، طالما أنها تؤوب إلى أوكارها، فقد أحسنت "شادية" لما غنت: "وبعثنا مع الطير المسافر جواب".. فأحلامنا هي من هاجرتنا، وآلامنا هي من استوطنتنا.
..استكمال:
ضياع الأحلام من قبضات مخيالاتنا، لا عوضٌ عنه، و(فلتان) الأيام من سني أعمارنا، لا مسترجع له، وذهاب العقل من جماجمنا الهشّة، لا إياب ضده ينفذها، فهذه الثلاثية، ينطبق عليها المعنى الحقيقي للقول: "اللي اتبدد.. ما اترد مليانة".. مع أنني لا أتفق مع هذا القول المأثور، الخائر المعنى، الذي نردّده كثيراً من دون الخوض فيه، فإذا اندلق كأس الماء أو أي سائل من آنيته، لك أنْ تعيدها مليئة به، حال توافره، لكن ليس بمكنتنا أبداً التعويض والاستبدال والتغيير والإرجاع، لِما يضيع من عقول وأحلام وأموال، فكذبَ برأيي من يحادثك عن رجوع الأموال بعد ضياعها، التي أضاعت وراءها عقول الكثيرين، إثر أيّة صفقة خاسرة، فما بالكم حين سلبها من أي مواطن عنوةً؟ فدعونا إذاً، نقول بأنها مسألة غيبية وخلافية بيننا.
***
حضنت "اعبوده" بدفءٍ أحتاجُه لنفسي ، بدفء صيوف عشرين سنة، لم أرَه فيها، ساعياً إلى تعوّيضه عن برودة إحساس ودمّ من يتثاقلون عليه بأطنان (الصماطة) وتجشّمت عناء استنشاق رائحته النتنة، بعد أجّهشت إلا قليلاً.. ثمة في الجوار أحد يشير إليه، فدنا منا مُرحِّباً بـ"اعبوده" ومستفسرأ:
- صحيح باتك مات يا اعبوده؟.
- نعم.. الله يرحمه.
- راح سوّك في بوك = ياخذ سوّك بوك.
***
هل من أحد يرضى أن يلاقي أبٌ ربَّه، وهو محمّلٌ بسوء وسيئات ابنه؟.
لا بأس، طالما إننا لا نجيد إلا القول.. ولا نواسي بالقول الثائر بل المأثور.
لا بأس، طالما إننا اعتبرنا الحركة قول لا فعل.. فمن خلال حديثنا أحياناً ونحن نصف ما جرى بيننا وشخص غائب، يحدث دوماً أن نقول مثلاً: "لزّني.. وقالي بيده حل".. قالي بيده: يعني حرّك يده طارداً إياه.. وحركة اليد فعل، لكننا اعتبرناها وما فتئنا (قول).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*):عبارة ليهودي ليبي مطرود- وما خذا سونا- انتقلت إليّ بالتواتر.




الجمعة، 3 ديسمبر 2010

سوائل بنغازية


1 - دم:
عيادة السكر، بسيدي حسين.. تعجُّ بالمرضى وترتجّ.. ولا ثمة من يحتجّ.. العجُّ القادم من كلِّ فجًّ، يتزاحم هناك، ويتراحم على حياة العمّ نِظام.. اعوجاج الأفجاج في الطوابير، بتدابير طبّية ليبية، يُفاقم من فرط حلاوة الدم الخاثر في عروقهم، من كثرة ما ارتوت به (جذورهم*) ولن تجفّ منه أغصان وبراعم (فروعهم**) حتى صرنا- وبلا فخر- بلد المليون جوال سكر مُتحرك.. العدم ينزف بتقاطر من شبابيك ونوافذ صرّافي بنك الدم (البوخوخية) المظهر.. أرصدة الدم الجامدة والمتجمدة، لا تـُودع في حساباتها، عند منسلخ كل شهر، الدّم القاني الأحمر، لا يُصرف على الأحمر- ولو بنظام فوضى الفائدة، من دون فائدة- ولا يُقتصّ من حواسيب حسابات الدم الجّاري والسّاري المفعول.. هناك يصل المُسعِف لاهثاً، منتظراً الحصول على جائزته المارثونية، فيسقط على عتباته، وفي يده صكٌّ، عليه زُمرة الدم المطلوبة، بتوقيعٍ لا يُوقِع بالطبيب في شرك شرّ أعماله وإهماله، فيصرفونه- بدلاً من أنْ يصرفوا له حاجته المحتاجة- خالي الوفاض: "لا رصيد لدينا لزُمرتك".. فيزمر قصياً عنهم.. غير أنهم، لا يُحيلون الطبيب بأنيابه إلى النيابة، بتهمة صرف صكٍّ يصطك وبلا رصيد.. فلماذا؟ولماذا لم أجد إجابة عن (ماذتي) هذه؟ لماذا؟ لماذا.
2 - دمع:
مصرف الادِّخار، لم يدّخر نفيساً ولا رخيصاً من الأكاذيب، فصار مَصرَفاً مُصرِفاً للقادمين، نحو جهات أخرى، بأمان ٍمرتجاة، ومؤجلة حتى إشعالٍ آخرٍ، لم يُضبط بعد..السّجل المدني، مُسوَّر بسياج معدني، عنيدٍ وعتيد.. الكلُّ هناك، يبحث لبعضه عن هويّة، وهواية من نوع خاص جداً.. الهويّة ليبية مفقودة، والهواية تتمثّل في بيروقراطية مقيتة، يُمارسها المتمرسون من البيروقراطيين الجُّدد.. رأيتهم هناك، يُلصِقون الدمغة، بعد تبليلها وترطيبها، بتمريرها على دمعة، ما تزال تسيل على خدٍّ ضامر، وعامر بشحوب النحوب.. وتسقطتـُهم كذلك، وهم يصرفون المتعاملين بتمريرهم فيما بينهم، بركلات الجّزية الترجيحية (الظنية): "إجراؤك مش عندنا.. انظني في البركة.. انظني في الصابري.. انظني في السلاوي".. فيصيح المواطن: "لا.. انظني في سراكوزة.. وأنتم الكاذبون".
3 - عرق:
على جانبي الطريق، يُخيّم الشُّبان، نصبوا خيامهم في نزهة مدنية لا ريفية، لممارسة تجارة موسمية، باتت معروفة ومألوفة:
- في شهر رمضان، يبيعون أصناف وأنصاف الأطعمة والمُشهيات البيتوتية.
- في عيد الفطر، يُروجون لحلواء العيد، والألعاب والملابس الصينية.
- في مناسبة المولد النبوي الشريف، يخطون و(يُلوحون) الألعاب الجهنمية للصغار، ويبيعون الشموع للأمهات، اللواتي يرينَّ في إيقادها، أعمار أولادهنّ، وهي تتزيّ بالنور والحبور.
اليوم عشية عيد الأضحى، المساكين يبيعون السكاكين، ويحدُّون أنصالها، بمسنّـاتٍ يدوية وكهربائية، نُضِّدت بأحشاء المصابيح الشوارعية، التي لا تـُنير إلا على نفسها.. في مشهدٍ، يُذكّرك بحالة التعبئة، لشعب داخل أسوار حصن روماني، وهو يتهيأ لصدّ جيش عرمرم، يريد بمدينتهم سوءاً.. الفحم حُشيّ في أكياس زرقاء سميكة الملمس، نوعاً ما.. أكياس الفحم أمام الخيام، مثلها مثل الدوشم والمتاريس على الخيام، عند المفارز العسكرية.. (الغنج***) لوّن وجوه أطفال، بأسمال بالية ومُبتلـّة ومُتبلـّة بعرق عروقهم.. أصوات الباعة وهي تنادي على بضاعتها، كأنها آهاتُ ألم.. زبون سوداني، يسأل بائع مراهق عن سعر كيس الفحم، ثم يبتسم ويتندر: الشعب الليبي.. شعب غريب.. داير كل شي عندهم بالعكس.. الفحم اللي لونه أسود.. يسمونه (بياض).. وإبريق الشاي يسمونه (برّاد) وهو (سخّان).. استلّ المراهق، السكين ليؤدب هذا المستهزئ، وهو يأمر من يمنعونه: "تي حوّلو.. تي حوّلو".. فيما شرطي المرور، يمرّ بحذوهم، وهو يُخابر رئيسه بجهازه لا السّلكي: "حوّل حوّل .. حوّل سيّدي".
4 - غاز:
مستوعبات الغاز الفارغة، تتدحرج أمامهم، بقذفها ببطن القدم، كما الخنافس، وهي تـُدحّرِج كرات الروث، أو مثل لاعبي كرة، لا يُحسِنون صُنعاً بكُراتِهم، فتخطئ القنينات ممراتها، وتنعطف يميناً ويساراً، قبل إدراك بُغيتها، مُجبـِراتهم ومُذلاتِهم على الركوع لها، وتعديل حركتها بكلتا اليدين- في كل مرة- في اتجاه حظيرة الغاز.. ثمة من يحمل وزرها على كتفِه، ويمضي خطوتين، ثم يقف ويقذف صديد صدره وعجزه، بقافية (آهٍ) مكتومة لا مكتوبة، وليلتقطاً أنفاسه برائحة الكيروسين في الجهة الأخرى، وينقلها على كتفه الآخر، بعد تعديل اعوجاج قامته.. وقفت الشاحنة، وقـُذِف بالمستوعبات من على ظهرها، فتزاحموا في طوابير.. غير أنّ رنين اصطدامها بالأرض، غطّى وطغى على صدى لسؤالٍ، لم يطرحه ويصرعه أرضاً، أحدٌهم، ولو في قرارة نفسه وسحيق ضميره، بعد أنْ نضُبَ من الغضب: "؟؟؟؟" فما سال هذا السؤال من أفواههم .
5 - بنزين:
من لا يملك سيّارة، ما حصته في البنزين المدعوم، غير ما ينفذ من رائحته إليه، وهو ملقى إلى جانب أحد السائقين، بعد أنْ يُجبَر ويُكرَه على مكروهٍ (إخماد سيجارته) أو أنْ تخلط به زوجته صبغة حنّائها، ليشتعل بسوادٍ في نقش كفـّيها؟.
6 - زيت:
دينامية وديمومة الحركة، تتطلبان عقولاً ذات تروس إدارة، مُشبَعة بزيوت الإرادة على الفعل، وانتفاء الاكتفاء بالنيات الحسنة، لإعطاء محركات الفعل، الأمر بالمبادرة، وطالما بقيت الأوليات عطشى، ستظلُّ رديفاتها مُعطـَـلة على الأخذ بزمام القرارات الحاسمة في الأوقات الصعبة، وما أصعبها من أوقاتٍ، هي أوقاتـُنا، من جراء إستاتيكيتنا، وارتفاع معاملات احتكاك أصابعنا بآذاننا (حك الوذن).
7 - حليب:
(ليبيتـُنا) صارت تلد ولا تربي.. كما الأم التي تترك زوجها وفلذات كبدها، وراء عشيق، يأكلها لحماً، ويرمي بها عظماً في مزابل المواخير، حتى تكره نفسها، ولا تتمنى أنْ يتعرف إليها أولادها.. أرضنا التي لا تـُنبت العشب، أضحت حلمات أثدائها، مستباحة ومُستحلبة في أفواه غيرنا، يلعقون حليبها الأسود، ويبصقون عليها وعلينا، لأنّ لا خيراً فينا.

8 - عِطر:
المطر عطر السماء المنثور على صفحة أرضنا وجيدنا.. لا مطر في هذا العيد، ولا الناموس الصغير، بقيّ يرفرف ويقتحم مسارب أنوفنا، كما في سوابق عيدنا، غير ناموس وقانون الزّحمة.. فلنسّتمطر ونسّتقطر شآبيب الرّحمة على الرّحمة.. على شيءٍ اسمه مطر، نسيناه، أم هو من نسيّنا؟.
9 - ماء:
في قلبي خواء.. في عقلي خواء.. في بطني خواءٌ، لا احتواء له.. يملؤني الخواء، حدّ وحتى الارتواء.. الخواء فقر مادي ملموس.. الخواء شعور معنوي محسوس.. خوائي بحتٌ وصرفٌ.. الخواء يتآخى والعدم.. العدم شيءٌ آخر، لا يُعبأ بعبءٍ ماضوي ولا مستقبلي.. العدم نقطة الأصل الأصلية، غير نقطة الأصل المرسومة والموسومة والموشومة على خطّ الأعداد.. العدم لا سوالب ولا مواجب له.. العدم لا قبل قبله، ولا بعد بعده.. العدم ردم وهدم لكل الأشياء.. عدت وحاءٌ تحرق جوفي، لا تـُطفِئُها ماء، ولا قولة (لا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): آباؤهم.
(**): أولادهم.
(***): مسحوق الفحم.






الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

دور المثقف

في المنطقة الوسطى، بين قطبين أزليين وأبديين، يتموضع المثقف محايداً، وثابتاً على مبادئه وقناعاته، فيتجاذبه الطرفان، محاولاً كل منهما، أنْ يستميله إليه، فمن إحدى يديه، تجتذبه يد السلطة، بمغرياتها نحوها، أو تشدّه إليها عنوةً، وبأصابع يده الثانية، تتمسك أيدي الناس، لتكسبه في ناحيتها، وهي تستنجد به، كما الغريق بمغيثه، من دون ترغيب ولا ترهيب، اللهم إلا من عواطفه وأوردة وشرايين ضميره الدافق بإنسانيته ووطنيته، ليكون عوناً وسنداً لها، في صراعها التاريخي والتقليدي، ضد بطش و(اتيار) أدوات السلطة المتعدِّدة، والتي تتعدّد يوماً عن يوم، من جيش وقوات خاصة ووسائل إعلام خاضعة لها، بما في ذلك التلفزيون، الذي يُعد هو أيضاً من أدوات الحكم الناعمة في أنظمة الدول العربية، فهو قبل كل شيءٍ، منها وعليها وينتسب إليها، وإلا ما أحسّ هو الآخر بحجم معاناتها، فأيُّ قرح يلم بها، يستشعره في نفسه أوفي أسرته، فيتميّكن سكونه، إذ يتمغنط وينجرّ بإحدى قدميه جِهة الجِّهة، ذات معامل الشّد الأشد، حتى يتزحلق، غير أنه سرعان ما يستعيد توازنه، بقطعه لتلك الأصفاد التي تجتذبه إليها (أوصال الناس وقيود السلطة) الملتوية حول معصميه، في مشهدية مقاربة جدا،ً لمرأى الأفريقي (كونتاكونتي) في فيلم (الجذور) وهو يصارع الأغلال، فيعود إلى تموقعه الأول، أي إلى منتصف المسافة، مزاوجاً فيما بينهما، مثل زوج المرأتين، الذي لا يحقّ له، تحت أي اعتبار ومسمى، أنْ يميل بقلبه ولا بعقله ولا بجيبه إلى إحداهما على حساب الثانية، لئِلا يؤثم، وإنْ كانت الأجمل والألذ، في عينيه ولسانه.
فالمثقفُ إذاً، هو العامل الموصل، بين قطبي الشعب والسلطة، ولا يجوز له، إلا أنْ يتزحزح عن موضعه إلا في صوب واحد دائماً، هو الشعب، فاتحاً قلبه لأمانيه، من دون أنْ يقترب من الجهة الأخرى، ويتمسح- على- وبعتباتها المتسخة في الأساس، بزيوت وشحوم نفطنا، التي بها، تأمن انتفاء جلوس المواطنين، المُطالبين والمحتاجين إليها-عليها- كيفما يفعل صاحب أي بيت شريف، مع أوغاد النواصي في الأحياء السكنية، منعاً لسماع سبابهم، واشتمام روائح الحشيش، بل بقلمه فقط، لينقل- على وفوق- خطوط مستقيمة (سطوره) شحنات ومشاحنات، من النقطة الأكثر جهداً (نقطة الشعب) إلى الأقل (نقطة السلطة) ليفرّغ بجهده المكتوب في كيس السلطة، حمولته الشعبية، موازناً بذلك بين فرقي الجهد بين هاتين النقطتين، وهو غير مُكلَّف بأنْ يعود بمرجوعها، الذي يتوجب عليها، أنْ تعود به بنفسها، في نظام يفترض به، أنْ يكون ذا آلية ديمقراطية، تعرف فيه كل مؤسسة من مؤسساته، ما ينبغي عليها، وما يُبتغى منها، فنراه يعيد انزياحه مجدداً جهة الشعب، حال انتفاء قيام السلطة بأدواتها، بإعادة ما وصلها من شحنات ومشاحنات واحتقانات على نحو حلول ناجعة، من شأنها أنْ تنهض بالمجتمع من كبوته، مطالباً بمطالبه.
***
نعود مجدداً، بعد هذه التوطئة، التي ستساوي في مجملها، ثلاثة أرباع سطور هذه المقالة، لتناول هذا الأمر، الذي يتعلق بأبجديات الكتابة، وضروراتها ودواعيها، والذي خيض في شأنه كثيراً، من قبل المستشرقين والمستغربين والمندهشين؛ فالمثقف كما ذكرت، هو حلقة الوصل بين السلطة الحاكمة والشعب، الذي تحكمه، وهو المُترجِّم بحروفه لمعاناته ومطالبه، والمُذكِّر للسلطة باستحقاقاتها تِجاهه.
المثقف صمّام أمان للمجتمع من أية تمردات وانتفاضات وثورات شعبية، لِما يمتلكه من معرفة وحرص على سلامة ومصلحة البلاد والعباد، وكذلك النظام بمفهومه العادي، لا البنيوي السياسي، الذي أستغرب أيما استغراب، لما تـُعرَف به الأنظمة الفوضوية، فيقف إذّاك في منطقة وسطى بين السلطة والشعب، غير ممالئٍ لأي طرف منهما، سوى لصاحب الحقّ والمُتضرِّر من سطوة الآخر عليه، الذي غالباً ما يكون الطرف الثاني، وهو في موقعه هذا، مثلما فاض النزاعات في المجتمعات القبلية، بكتاباته التي هي أكثر الأساليب الحضارية، نجاعة، لإدراك الهدف المنشود على حناجر الشعب في أغنية رائعة الإيقاع عنوانها الديمقراطية، وحفظاً للدم والأمن وحفاظاً على المكتسبات.
لم يسجل تاريخ الكتابة، أنْ اصطف المثقف الحقيقي، ناحية السلطة في مرة، إلا وقد عُرِف بزمار وعازف ساكسفون لها، بل بطبّال لراقصة فاجرة في حفلة ماجنة، ولم يحظَ في يوم باحترام الشعب، بل إنّ حتى أكبر المثقفين، الذين حازوا على احترام الناس، وصاروا فيما بعد عازفين- موسيقياً وفعلياً- إذا انحازوا في وقت لاحق إلى الحكومات، نتيجة المُغريات التي تقدمها لهم، أو نتيجة لضعفهم وخوارهم وانتفاء إيمانهم بمبادِئهم، وانتفاء جديتهم أصلاً، قد فقدوا هذا الإجلال، الذي قابلهم به الناس في وقت سابق، وأضاعوا مصداقيتهم وشرعية ثقافتهم، فهؤلاء هم من قاموا بنقل متطلبات السلطة إلى الشعب، وذلك إما بتزييف الواقع، وإمهال السلطة الوقت الذي لا تستحقه لإهداره، فيقف- حينذاك وحيّزاك- كمدافع بالمدافع عمّن يمارس القهر تجاه الآخر، حينما يوالي السلطة، أو يستمرئ تموقعه في تلك المنطقة العازلة بينها والشعب، فيصبح زمّاراً، يلعنه الله والملائكة والبشر، من حيث لا يحتسب، حينما يستغل ثقة القارئ به، ويصبح ينشر ما هو أشبه بالمخدرات المكتوبة، ويوهمه بأنه العجلة تسير بشكل منتظم، وأنه يقوم بواجبه المنوط به، على أحسن وجه، وهو كذلك، من دون أي تكليف، سوى تكليف القاعدة الجماهيرية التي يكتسبها، نتيجة أكثر من موقف بطولي وشجاع، فيصبح دوره غير الدور الأصلي، فتجعل منه السلطة، بخبثها ومكرها، مثلما الحاجب على باب الحاكم، بل أكثر من ذلك، حيث إنه بإصراره على تمركزه في تلك المنطقة الوسطى، يتصيّر إلى صمّام إنذار مُبكِّر للسلطة، من غضبة الشعب على قصورها في القيام بما يتوجب عليها، كما (الحزّاز والعقّال) الذي يستجير به، شخص سفيه لا يردعه إلا (التكفيخ) على (فصخته) فيسّهم- من ثم- في إضاعة الوقت والجهد من دون طائل، مع سلطة لا تؤمن أساساً بدور هذا المثقف، الذي كلّف نفسه بأنْ يكونه، فما بالكم بمثقف يرتضي بأن يثني الناس عن الأخذ بحقوقها، بعد أنْ تتفاقم أوضاعها مع سلطة متكابرة عليها، تفعل كل ما بمكنتها، لتستبد بالرأي والحكم، فمثل هذه السلطة لا ينفع معها الإصلاح، بل التغيير الجذري، بصبّ المواد النفطية على جذورها الشيطانية، التي لا تنبت في السماء، إلا طلعاً خبيثاً، يضل و لا يستظل الشعب- من- وبظلمه، هذا ما يتعيّن على المثقف الحقيقي والجاد، أنْ يُعلم الشعب به، بعد أكثر من محاولة فاشلة له مع الحكومات التي تترفع على شعوبها، لتأخذ الأخيرة حقوقها بيدها، بعد أنْ تنفض يدها من يد المثقف، الذي لطالما تعلقت به كثيراً، لينقذها وينتشلها من مأزقها، لكنه لم يأتِ بنتيجة، إما لخلل في بنية الأنظمة الحاكمة، أو لفساد في أخلاق هذا المثقف في الأصل.
هكذا ينبغي أنْ يثبت المثقف على مواقفه، ولا يتوقف عن هذه المَهَمة المُهـِمة، التي لم يوعز إليه بها أحدُ، سوى ضمير قلمه، فهو من اختار بعينه، أنْ يضع ثقافته في هذه الورطة والحيادية، وهكذا يجب عليه أنْ ينحاز، إذا لزم الانحياز، فلا يكون إلا انحيازاً لصالح الشعب، ولا يتهاون على أنْ يعلنها مُدوية (خطرها ع العيد والقديد: المشلوحة ما اتعفن) بأنّ هذه السلطة لا تنفع معها الأساليب الحضارية كلها، لتنقض الشعوب على مستعبديها وحارميها وقامعيها.



الاثنين، 15 نوفمبر 2010

ع الماشي

1- بالعربي الفصيح
الفاعل المنفي : 'لم ينجح أحدٌ'.. لست بسوقي لهذا الخبر، بوارد تقييم ومعالجة مسألة التعليم في بلادنا، وذلك بالوقوف عند هذه الجملة، التي دأباً ما تطالعنا بها صحفنا السيّارة والطيّارة، عند عرضها للنتائج العامة، عند نهاية كل عام دراسي، وبخاصة في المدارس الخاصة، بل إنّ الأمر أهم من ذلك بكثير، ومن شأنه إذا ما عالجناه، أنْ يختفي هذا الخبر من صحفنا وحوائط مدارسنا.
لكني ما جرّرت هذه الجملة الخبرية، إلا لأني قدّ وددّت، أنْ نتفحصها بمجهر لغويّ، ففي هذه الجملة، تُعرب كلمة (أحد) غصباً وقهراً عن الإعراب والحضر، بهذه الكيفية: فاعل مرفوع وعلامة رفعه، الضمة الظاهرة والزاهرة على أخرها، في حين أنّ الفعل- فعل النجاح- لم يحدث في الأصل، وطالما أنّ الجملة منفية بـ (لم) فإنّ الفاعل- من ثم- هو الآخر منفيٌّ عملاً ووجوداً في جزيرة المجهول، ما يعني، بأنه لم يقـُم بفعل شيء ذي بال ولا أهمية، مادام لم يأتِ في إثره أداة الاستثناء (لا) مبطولٌ عمل ما بعدها، فيعرب فاعلاً، كقولنا: 'لم ينجح أحدٌ إلا رمضان'.. فـ (رمضان) هو الفاعل الوحيد.
بل إنّ الفعل المنفي، قد لا يكون لازماً، كما سابقه (ينجح) وربما يتعدى ظلماً وعدواناً-على وإلى- أكثر من مفعول به واحد، وهنا تكمن الكارثة، التي نستبينها بهذا المثال: 'لم يعطِ فـُلانٌ عِلاناً شيئاً'.. فلا فلانٌ أعطى، ولا علانٌ أُعطي (مبني للمجهول) ولا العطاء، وقع على أحدٍ بالمرة، وجرياً وهرولةً على ذلك، في موضوعة الإصلاح- الذي استهلك من أعمارنا خمس سنوات ولم يُدون له النجاح- لا ثمة من أصلح، ولا من أًُصلِح (مبني للمجهول) ولا من شيءٍ أُصلِح به ولا لأجله.. وأصلح الله حالنا وأحوالكم.
***
2- بالعامي الصريح:
صلاح النيّة : جرّب ذات مرة، أنْ تسأل أمك العجوز، ومن ليست أمه عجوزاً، فليسل جدته، ومن جدته ليست على قيد وسجل الحياة، فليسل خالته، ومن خالته ليست عجوزاً- سأخبره لا حقاً من يسأل- كلاً بحسب عجوزه المتوافرة: يا مينتي، يا اجديدتي، يا احنينتي ، يا اخويلتي- كلاً بحسب لهجته- نبو انصلحو، انسقموا، انتكمو، انصينو، انرقعو، أي شيءٍ في الحوش، ازعمك ايش انديرو؟ ستراها تسحب يدها حتى تصل إلى تكـّة سروالها العربي، المزركش بالورود وأوراق الشجر، من عند الركبة، وتخرج ما فيها من مال، ثم ترفع يدها إلى عينها، حتى تمس رموشها البيضاء، لتفرز ما حوته يدها من عُملاتٍ ورقية ومعدنية، ثم تتنهد وتخبرك: ' يا اوليدي الرك ع الفليسات.. ونا ما عندي شي' .. ويا لهذا الشيء، فنحن لم نفعل شيئاً، ولا نملك شيئاً من هذا الشيء، وليس بمكنتنا سوى سيءٍ واحد نفعله، إذا توافرت أشياء كثيرات، وعلى رأسها (صدق النية) وهو أهم شيءٍ.
وأنت يا من لا عجوز لك، أعرني أذنك، لأنصحك بمن تسأل، اذهب إلى سوق الفندق البلدي، ستلفي هناك عجائز يبيعنَّ (الفاصوخ والبخور والوشق والجاوي والشبّة) ستجد بينهن عجوزاً تـُدعى 'أمغالية' فسلها دونما حرج، بعدما تعتبرها أمك أو جدتك أو خالتك، وإياك أنْ تستهين بها، أو تهتم بمن سينبزك (... عزايز): 'يا احويجة الجماعة متلخبطين زي ما قالو.. ومش عارفين كيف ايصلحو لبلاد.. وايمشو أمور العباد.. يا ريت اتسمعينا أدبارتك'.. ولن ترد عليك، إلا بهذه الإجابة: 'شوف يا باتي.. أول حاجة لازم اتديروها.. هي انكم اتدبرو كيف اتزوزو لعويلة.. والبنات قبلهم.. واللهي حرام عليكم.. راهن قعدن امعلقات في رقابي هلهن.. وهضا شي ما كنا نعرفوه سعتها.. ولاهو من طبيعتنا.. والحمد لله.. لبلاد خيرها واجد.. وسبحان الله اجدودنا جاهدو وربي كافانا بالبترول.. زينا زي أي شعب مجاهد آخر.. خوذ عندك الجزائر والعراق والسعودية.. إلا المصاروة والتوانسة والزلم.. اللي ما جاهدو بالدم زينا.. وطنهم ما فيه قطرة بترول.. اوخلاص دوبينا لفلوس موجودات ما فيش مشكلة.. عدي سلم اوليدي.. عد الشباب والشبابات.. اللي قاعدين بلا زيزة.. وسجّل روحك أنت أول واحد فيهم.. باقيتك طلعت راجل وحليت فمك.. وبعد أنْ تقوم بما طلبت إليك، ستخبرك: 'توا يا باتي.. اتدبرولهم قبل كل شي في المطارح-السكن- وتبنو ابزايد.. وما تظلمو حد.. كل ذكر وأنثى احجزولهم في اشقيقة.. وما تقعدوش مراخي.. شدو حيلكم وابنو ابسرعة.. وبعدها أثثولهم حيشانهم.. من عود الوقيد لعند الثلاجة والموبيلية.. وفكونا من القربج اللي تكركرو فيه.. جيبولهم الحاجة لمسقمة.. والله والنبي في البناويت.. راهو الرسول صلى الله عليه وسلم.. اموصي عليهن قبل ما ايموت.. ريت نبي انقولك سر.. اللي في يده حل لهن.. ومش امدورهن.. اتجيه على اخشيمة.. وشغلو العويلة.. بيش يلقوا ما يصرفو على صباياهم واعويلتهم'.. بهذا الاستسهال والتبسيط، ستنهي الحاجة 'أمغالية' مسألة العنوسة في البلاد.
سلها أيضاً: 'كيف انديرو في موضوع الفساد؟' لكن ليس قبل أنْ تشكرها و(اتختخها) لتشعرها بأهميتها.. وستعطيك الحل الآتي: 'شوف سلم اوليدي.. وقول ما قالتها خالتي أمغالية.. السرّاق ما سرق إلا لحاجة وحدة.. أنه جيعان وما لقش من ايرده.. وستسوق لك مثلاً، توهمك بأنه شعبيّ، في حين، أنه من تأليفها ووليد اللحظة: 'قالو للسراق شنو علمك السرقة.. قاللهم بطني الجعانة'.. استمر في (تختختك) لها: 'ما قال فمك إلا الصادقة يااحويجة' واسمع منها الحِكم والحلول الناجعة: 'العطشان.. ارموه في جابية امية حلوة.. لين يروى ويعرفها امية.. وكلا من الجعان.. ما تعطوش.. لحيمة لحيمة.. لا يا باتي.. دكوله في فمه عجل.. لين يشبع ويعرفه لحم.. وبعدها ينبشم (يصاب بالتخمة) ويزهد اللحم في عينه.. هذك الساعة معش ايدور حاجة.. ولا يقعد شاد روسكم.. لا هو ولا العطشان.. وبعدين تقدرو اتنظمو عيشتهم.. ومعش تحرموهم من شي.. ع الأقل ذوقوهم امريرة امريرة.. وتعتكم بعدها تبنو لبلاد وأنتم متريحين وبالعقل والهداوة.. ودقها ليا وشمة هنا- وهي تشير إلى ذقنها الموشوم أصلاً- انكان سمعت واحد سرق.. عارف ليش يا باتي؟.. باقيته معش يقعد اهناك ما ينسرق.. دوبينا كل واحد خذا وجابه'.
***
3– بالفصيح والعامي :
إذاً، الإصلاح كما ترى الحاجة 'أمغالية' الأميّة، لا يستلزم كل هذه العناء والإطالة وتعقيد الأمور، وبناء المؤسسات التي تحارب الفساد بالفساد، وبرموز تستمرئ وتستثمر الفساد، لتجني منه المكافآت أو الوجاهة الأدبية والإعلامية، بحججٍ واهية، تتمثل في أنها على قدر عالٍ من العلم، والإطلاع على تجارب البلدان الأخرى، التي حاولت محاربة الفساد لديها، بتوسيع ثقافة الإصلاح الذاتي، من دون المال، لكونها في الأساس دولاً فقيرة، فالإصلاح يستلزم قبل أي شيءٍ ثانٍ، صلاح النية، لا حُسنها وكفى، والعمل على إصلاح أحوالنا بأموالنا، لا بالتنظير العقيم، الذي لا ينجب ولا يلد الفائدة على أرض الواقع.
فالمنظرون بهذا الخصوص، ممن يظهرون على برامج الفضائيات، يذكرونني بقصة الشيخ الذي اصطاد طائرا،ً وعندما جاء ليأكله هو وحفيده، اقترح عليه الأخير: أن يصنعوا من أجنحته وجسمه طائرة، فلا الطائرة طارت، ولا اللحم، صار صالحاً للأكل، بعد فوات الأوان، وسيكونون ممن أضاعوا علينا فرصة الإصلاح الحقيقي، وكلنا يتذكر المثل الشعبي: 'قالوا لجحا وين وذنك .....' فلا تجعلونا ضحية (عيدية) لأحلامك وتطلعاتكم الأدبية الصالونية.. (راكم في ليبيا.. وما اتكبروش الشورخ والشطحة) ومتى كان للمثقف دورٌ في مفاصلها؟ أخاف أنْ يأتي يومٌ عليكم تقولون فيه: 'كنا عارفين.. ما ايصير شي.. لكن درنا اللي علينا' وما هو الذي عليكم سوى أنْ تختصروا الزمن والعمل والخطوات على خط مستقيم، يصل في أسرع وقت، بين نقطتين اثنتين، هما:

(صلاح النية) ــــــــــــــــــــــ (الإصلاح).

ومن كان مولعاً أكثر بكيمياء الكلمات، فليعتبر هذه الترجمة الرياضية معادلة كيميائية تؤدي بالتحلل والتحليل، إلى النتيجة نفسها، في وجود عامل مساعد واحد هو (المال).. على رأي عجائزنا، لا مُعجزينا.


الأحد، 14 نوفمبر 2010

بنغازي مدينة نمطية

وجدتـُني من حيث لا أدري ، في حديقة الاستقلال ، فلا أعرفُ متى خرجت ، و لا كيف وصلت إليها ، جالساً لوحدي ، و بجانبي علبة ( بيبسي ) مطعوجة و مُطجـِعة على جانبها ، فتذكرت بأنني أول ما خرجت ، قد ألفيتها عند عتبة دارنا فارغة ، فركلتها ( طااااااااف ) – و أصابعي العشرة حتى البراجم في جيبيّ – و توالت الركلات ( طربااااااااف ) جاعلاً في كل مرة ( ركلة ) نقطة توقفها نصب عينيّ ، و هكذا رافقتني من البركة حتى البلاد ، و عند الرصيف المُقابـِل لجامع الحسابات ، قابلتني لافتة ( السفير ) - التي يلتهم قائمها ثلاثة أرباع الرصيف - مكتوبٌ عليها : ( دعوة لحضور الحفل الساهر ، الذي سيقام في مصيف القرية السياحية بقاريونس ، و سيحييه الفنان صلاح رخيص و الفنانة سُمية ) فقذفت العلبة إلى أعلى ( بونتة مع الصبع ) لتـُصيبَ صورة رخيص .. طرشاااااق .
في خلفي ، تهجع تلك العمارة الضخمة المُتعدِّدة المكاتب ، التي لم يستفِد منها المواطن الليبي في شيء ، إذ أنها تستلم منه ملفاً إدراياً ، سعره ربع دينار ، و تسلمه إيصال استلام بالخصوص - لا قيمة له - الذي جاء لأجله ، فيضعه في جيبه ، و يعود به فرحاً ، فتمضي الأيام حُسوماً ، و هوّ يُراجع هذه المكاتب في طوابقها ( راقي نازل ) كما مؤشر الترمومتر الحراري ، و لا يسمع من موظفيها سوى كلمة ( ما زال ) و تتلاحق السنون تِباعاً ، حتى ينسى الأمر ، فتضيع مصلحته في مصلحة الأملاك العامة ، ( الغامة ) على الملفات ، فلا يستلم منها مسكناً و لا قطعة أرض و لا بديلاً و لا تعويضاً ، و تتبخر أحلامه ، عند أعلى نقطة ، يمكن أنْ يطولها مؤشر الترمومتر الزئبقي .
أمامي ينهض مبنى فندق ' عمر الخيام ' المهجور ، الذي يمثل بنظري ، واجهة مدينة بنغازي من جهة الغرب ، حينما يبدو للواصل ، هو و عمارة ( كانون ) المُطلان معاً على ( الكابترانية ) أكثر جمالاً من مبنى جمعية الدعوة الإسلامية ، و مبنى فندق تيبستي ، و يزداد بهاؤهما ، لما يقترب منهما أكثر فأكثر ، و حالما ينزل من جسر طريق طرابلس في سبيله إلى وسط المدينة .
على يميني ثمة مركز شرطة المدينة في حالة طوارئ و استنفار قصويين ، لوجود أهالي ضحايا ( قهرة بوسليم ) أمامه ، و هم يحملون لافتات و شعارات نارية ، أدركت لحظتئذٍ لِمَ الحديقة فارغة ، و أنا باق ٍ وحيداً ، فيبدو أنّ روّادها ، الذين كنت أراهم دائماً في مثل هذا التوقيت ، من كل يوم ( دلال العفسة و الحل ) .. تـُحاذي هذا المركز ، دار عرض بنغازي ، التي تتعانق و تتعالق عليها ( السّقالات ) مع وقف تنفيذ أعمال الصيانة .
يا لهذا العبث ، الذي أودى بمدينتي إلى هذه النمطية ، فالفندق مهجور و العمارة هاجعة و السينما خربة و الحديقة فارغة ، و لا سلات للمهملات فيها ، فاستودعت فيها علبة الـ ( بيبسي ) عند أحد مقاعدها الخشبية ، ريثما يعود ' ملك الحديقة * ' و أقرانه الصِّغار إليها - بعد أنْ ينتشر المتظاهرون من أهالي ضحايا ( بوسليم ) فهو و أصدقاؤه ، يشاركون بالهتاف معهم من دون أنْ يدروا ماهية القضية - ليتقاذفوها بأقدامهم الغضّة ، و انسرفت .
***
قصدت سوق الجريد ، سالكاً شارع شيخ الشهداء ، و عند كشك ' الطشاني ' توقفت لبُرهةٍ مُلقياً بنظرةٍ شاملة على ما يعرضه من صُحفٍ و مجلاتٍ ، بطريقةٍ مُلفِتةٍ للنظر ، فالصُّحف و المجلات الليبية ( الفجر الجديد ، الشمس ، الجماهيرية ، قورينا ، أويا ، مجلة غزالة ، مجلة الثقافة العربية ، مجلة الفصول الأربعة ، مجلة البيت ) مُعلقة جميعها على مشاجب في الخارج ( الهامش ) أما نظيراتها العربيات ( الأهرام ، المصري اليوم ، مجلة وجهات نظر ، العربي ، زهرة الخليج ، اليقظة ، الجيل ، طبّب نفسك ) ففي الداخل ( المتن ) لحمايتها من الريح و الشمس ، لم ترُقني أية واحدة منها .. دخلت إلى مبنى البريد المركزي ، لأفتحَ ( ص . ب ) خاصتي ( 1544 ) و لأجدَ فيه نسختين من مجلة ( القافلة ) الصادرة عن شركة ( أرامكو ) السعودية ، و مجلة ( فكر و فنّ ) في نسختها العربية ، الصادرة عن معهد ( غوتة ) الألماني ، حاضرتين في الموعد تماماً ، و مجاناً .
مضيت قـُدما نحو وجهتي ، بعد أنْ عبرت الشارع إلى الجهة الأخرى ، خشية أنْ تسقط عمارة ( السرقسيوني ) المتهالكة فوق رأسي ، فقد أصبحت كما القنبلة الموقوتة ، التي في أية لحظة ، قد تهوي من علٍّ ، و بعد أنْ تجاوزتها بخط مواز ٍ لها ، عدت و عبرت الطريق من جديد ، مُقبـِلاً على ميدان البلدية الجميل ، الذي لم يعرف ( الأعدقاء ) في أمانة المرافق و جهاز المدينة القديمة ، كيف يستثمرون هذا الميدان التاريخي الجميل ، فهو بتصوري ، لا يصلح لأنْ يكون ميداناً تجارياً ، لتـُباع فيه الملابس النمطية ، فالكل هناك ، يبيعون الملابس التركية و الصينية و التايلندية ، فلا تميُّز و لا تفرُّد في العرض ، فهذا الميدان بمحاله ، يجب أنْ يتحول إلى مقاهٍ أنيقة الجلسات .
وصلت بعد لحظات إلى الجامع العتيق ، و استدرت إلى يمينه ، لأقفزَ على عتبات سوق النور ( الثلاثية ) في وثبة واحدة ، ليتصدر ليّ بائع الدولارات : ( اتصرف يا أستاددد ؟ ) .
- أنا : شكراً .. صحّيت .
- هو : ما عمرها جت منك تضحك .
- أنا بنوبة غيطاوية : أحسن عملة عمر المختار .
من نقطة تصدره ليّ ، و حتى مدخل سوق الجريد ، كان هذا حواري مع أصحاب حرفته ، الذين غالباً ما يتواجدون هناك ، هم و بائعو النظّارات السودانيون ، يتخللهم شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة ( الذهنية و المادية ) يضع أمامه ميزاناً غير رقمي ( انالوق ) و على رأس لسانه ، لفظة : ( توزن بربع ؟ ) أحياناً أتجاوزه ، لكني أرجع إليه ، لما أسمعه يتمتم ، فأزن نفسي عنده ، خشية أنْ تصيبني دعوته ، و بمجرد أنْ أقف على قاعدة ميزانه القديم ، يجبر بخاطري ، فيرفع الكسر ، لكونه لا يجيد إلا قراءة الأرقام الصحيحة .. دخلت إلى سوق الجريد الظليل ، و أول من قابلني بائع مصري ، يبيع فوط ( مناشف ) الحمام ، الخمسة بدينار ، يعرضها و يضعها على كتفه ، و يمسح بإحداها رقبته و جبينه المُتصفـِّد عرقاً ، على اليمين ، هناك عجوز تفترش الأرض ، بقطعة قماش ( متر × متر ) تطرح عليها ( بخور و فاصوخ و وشق و شبّة - لوبان ايطرشق - اسواك نسائي و رجالي - لاميتات و أمواس حلاقة - بطاريات أصبع و ريمونت - فيكس فابوراب و فيكس نيجيري بالشيح - مسك و عنبر – معجون أسنان - مُزيل بطشة لإزالة الصّنان - بوية سودة و حمرة - سباسي رياضي و مالبورو - ولعات الاثنين بربع - بريزات و مفاتيح ضي - لامبات بربع دينار - و ما عاقبة حاجة إلا و اتبيع فيها ) بجانبها أكثر من عجوز ، تبيع الحاجات نفسها ، في وسط ممر السوق ، ثمة مسرب ، تمرُّ في حوضه ماء المجاري ، و يقف بائع صغير مع أخيه ، يعرضون بضاعتهم على عربة خشبية تقوم على دواليب صغيرة ، و شيخ مصري بصير ، يتلو آي الذكر الحكيم على أرواح الفقراء و المحرومين الليبيين ، الذين يجوبون السوق ، و لا يحتكمون على دينار واحد - في وسط الجلبة و صياح الباعة - يجلس أمام أحد محال بيع المجوهرات ، و شاب ليبي ملتزم بقربه ، يقعد على ( ابلوكه جيرية ) يبيع أجود العطور الحجازية ، لم ألمح أحداً يشتري ، الكل مثلي ، يمشون من دون وجهة معينة ، عند واجهة أحد معارض الذهب ، مرّرت بجوار شاب و فتاة ، يبدو أنها خطيبته ، سمعتها تسرُّ إليه : ( هضا أكثر واحد يمشي في بنغازي ) - تقصدُني - و لأني كثير المشي ، كما قالت ( مشّيتها لها ) .. حدثت بلبلة في السوق : ( جاكم الحرس يا هووووووو ) و في لمح البصر ، كان كل الباعة خارج السوق ، عابرين الزورايب الفرعية المؤدية إلى شارع البعجة و الصلابي و الشويخات ، سمعت إحدى العجائز ، تدعو عليهم : ( عطهم برص .. ما خلونا نسترزقو على حالنا ) و هي تقوم بثني قطعة القماش ، التي تعرض عليها أشيائها ، بطريقة فنية ، إذ يبدو أنها أعدّتها لمثل هذه الطوارئ ، فقامت بثنيها مرتين ، و أقفلتها بالـ ( سوستة ) فأصبحت مثل الحقيبة ، التي تحفظ كل شيء فيها و مضت مُسرعة .. رجعت إلى الخلف ، ليس بسبب تواجد عناصر الحرس البلدي ، بل لأني أعرف النمطية ، التي يعاني منها هذا السوق هو الآخر ، من ناحية البضائع المعروضة فيه ، فهي أيضاً من المصدر نفسه ، فلا تميُّز و لا تفرُّد فيه و لا فيها .
عندما تقهقرت ، جاءتني مُهاتفة من الصديق الفنان ' هيثم ' و أنا أعرفه جيداً ، فمتى اتصل بيّ ، فهذا يعني ، أنه يعاني من الشعور بالنمطية القهرية ، اتفقنا أنْ نلتقي عند مكتبة أبيه سابقاً ، الموجودة في شارع المجاهد ' أحمد الشريف ' لمحته واضعاً يديه في وسطه ، و معه قيثارته ، و هو ينفخ آهات مزمار القلق ، و يزفر ناي الملل .. عند الزقاق الواصل بين شارع اقزير و الساحة الخلفية لسوق الحوت ، توقفنا هناك لدقائق معدودة ، لنشاهد الجدارية ، التي قام أحد المواهب بنقش رسومات لأعلام من بنغازي - عمر المختار و الفضيل بوعمر و أحمد المهدوي و خليفة الفاخري و علي الشعالية و محمد صدقي و شادي الجبل و غيرهم - بالألوان الزيتية عليها ، و التقط ليّ ' هيثم ' هذه الصورة - جاعلاً هذه الجدارية خلفية لها ، فإذا لم نصور معهم في حياتهم ، فلا بأس أنْ نصور معهم في مماتهم - بعدسة نقاله الصيني ( المعمشة زي اعوينات صانعيها ) :




بدا ليّ ' هيثم ' في حالة وجدانية عالية ، و مستعداً لإخراج ( البغدد ) على أوتار قيثارته ، لكنه عدِم المكان المناسب ، فلا مسرح مُعدٌّّ لذلك ، و لا منتدى للفنانين الشباب في المدينة ، مرّرنا بعد حين بشارع العقيب ، و عند البيت الثقافي ، أخبرته بأنّ هذا الصرح الجميل ، يجب أنْ يفتح أبوابه لك ، و لمن مثلك من الموهوبين ، و ألا يُخصّص فقط للشعراء و القصّاصين ، فأيننا نحن من الأمسيات الفنية ؟ لكن هذا لن يحدث ، و لا ترتجيه قريباً يا عزيزي ، طالما أنّ اللافتة التي على بوابته مكسورة ، فـ ( المكتوب بائنٌ من عنوانه ) .. هيا يا صاحبي ( ما لنا امفيت حديقة 23 يوليو ) .. جلس ' هيثم ' هناك و احتضن قيثارته الجديدة ، و بدأ يدندن عليها بهمس ، و هو يتتبع أصابعي ، التي أشير بها إلى العمارات المُطـِلة على شارع جمال عبد الناصر بعد الصيانة الجديدة ، انظر يا هيثم إلى ألوان طلائها الباهتة و الكئيبة ، فأغلب هذه العمارات ، أختير له الألوان الترابية ، حتى أنّ بعضها ، لا تفرق بين لونه و لون ( لياسة ) الأسمنت ، بل أنّ ألوانها تتشابه ، فلا تستطيع أنْ تصف لأحد ما ، أية عمارة منها بلونها ، فيا لهذه النمطية و التشابه في كل شيء الذي يغلب على مدينتنا ، حينذاك ، صرّح لي ' هيثم ' بهمس ، مثل همس قيثارته : ( يا ازويدة هضا مش مقياس .. راهو في ناس مخلصين يخدمو في بنغازي و يشتغلو تحت الأرض ) و قبل أنْ أسأله عن هؤلاء السُّفليين ، أجابنا أنبوب المجاري ، الذي كان بقربنا و أسفلنا : ( وججججججج ) في بحيرة 23 يوليو ، قاذفاً ( علبة بيبسي ** ) كأول شيء ، ثم مياه سوداء ، فانقطع أحد أوتار قيثارة ' هيثم ' و عدنا أدراجنا ، و نحن نكاد ننفجر من الضحك على هذه الإجابة الفورية ، مُردِّداً له عبارته : ( قالك في ناس تحت الأرض يخدمو فيها ! .. ما تموا إلا شواطين .. ههههههه ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( * ) : هو الطفل ' مؤيد ' الذي يقضي أغلب ساعات يومه في هذه الحديقة ، برعاية أخته ' آية ' التي تكبره بعام واحد ، تحت حراسة عينيّ أمهما ، التي تراقبهما من شُرفة البيت ।
( ** ) : زعمك ما اتكونش هي الحكية اللي جيت بيها من البركة و تركتها لـ' مؤيد ' في الحديقة ؟ .

الخميس، 11 نوفمبر 2010

عربيّ أنا .. ليبيّ أنا .. وطنيّ أنا



والعنوان معطوفُ على (مسلمٌ أنا وثوريٌّ أنا) لا أخاف أحداً أنا، إلا ربي أنا، ولا يعنيني أحدٌ أنا، إلا وطني أنا. (6 مرات)
مسلمٌ، وفي ديني الثورة أنا، أستاذي وقدوتي رسولي الثائر، على الجهل والكفر أنا، فأنا أنا، ولست سوى نفسي أنا، أحبُّ شعبي أنا، أخشى على وطني أنا، أتشرف بصُحبة أبناء وطني أنا، أغار على حرائر بلادي أنا، هكذا أنا، فلا تعيروني بقولتي: "أنا". (11 مرة)
فلن أسألـُني: من أكون أنا؟ ولا أستعلي عليكم أنا، فلست ملكاً، يتحدث إليكم من برج عاجي أنا، إلا أني، ملكُ نفسي أنا، أعشق وطني، بطريقتي أنا، لست تقليدياً في حبه أنا، ولا نمطياً أنا، فليّ مزاجٌ في عشق بناته أنا، لا أنتهك حرمات حرماته أنا، هكذا أنا. (10 مرات)
أكتب لقرائي بالمجان أنا، وإنْ كتبت عن وطني أنا، فلست أرتجي منكم شيئاً أنا، إلا أنْ تدعوا لوالديّ بالخير، فهكذا عرفت منهما الوطنية أنا، كيف يجب أن تكون، توارثنا الثورة على الباطل ومحبة الوطن، من زمن كان وكنا فيه أحراراً، فنحن إلى بيت النبؤة ننتسب، وإلى الحسن، شقيق الشهيد المُفدَّى، رضي الله عنهما نرتجع، وصلى الله على جدِّهما وصحبه أجمعين. (4 مرات)
بركاويّ المولد والسكن أنا، نصراويّ النادي أنا، من صميم بنغازي أنا، البركة من بركتنا نحن، أسيادي هم النجوم الدُّريّة: العيساوي وداوود وعبد الجليل وبومدين واقنيبر؛ حصّنوني من كيد الظّلام، ونفحوني بتقواهم أنا، تغنى بحيـّنا "محمد السليني" عشِقنا، وهو القاطن في طرابلس، وصلته أنفاس بركتنا الطيبة، فارتحل إلينا يعلن حبه على الأسماع، وحجّب علينا من الحسّاد (يا عين يا عين بين البركة وسيدي حسين). (4 مرات)
تعرفني شوارع المدينة، وتحفظ بصمات خطواتي على أديمها الطاهر، كتبت على جدران بيوتها المُتهالكة - في شارع العقيب المُفضي إلى سوق الحوت بميدانه الرحيب، وشارع النصارى فياتورينو الضيّق الكئيب (ابريكته)، وشارع أخوالي أقزير، الذي يدفعك مباشرة إلى كورنيش الشابي، الذي أجد فيه ما تبقى من خيّرة أبناء بنغازي - حروف نوتات دندناتي، وكم من مرة، استمعت إلى عبارات الإطراء بشدوي من بناتها من خلال نوافذهن العتيقة، ومع أنني، كنت أغني بصوت مرتفع، إلا أنه، لم تجرحني واحدة منهن، بكلمة مجنووووووون، بل يهتفنّ ليّ، وكأنني نجمٌ للغناء: (الله الله عليك .. صوتك ايهبل يا شبوب) لكني لا أرفع رأسي إليهن، وأمضي إلى حال سبيلي، بعد ان أهمس في نفسي ولنفسي: مجنونٌ انا.
سؤال أوجّهه إلى من يُحرّم الغناء: لماذا إذا استمعنا إلى صوت جميل، ننبري بذكر الله، طالما أنّ الغناء حرامٌ ؟.
لطالما اشتمّمت روائح عطورها وأطعمتها، من خلال أبوابها المُتعِرجة، المسكونة بالآصالة والألفة والطيبة، لا أستطيق مغادرة بنغازي ولا ليبيا أبداً، فأظنني الوحيد، الذي لم يفارقهما إلى الخارج يوماً، لأنني أعلم، لو أنني خرجت منهما، فسوف لن أعود إليهما أبداً، لكوني أحبهما. (مرة واحدة)
رجعيٌّ المبادئ أنا، فلا أحلـّل الحرام، ولا أحرّم المباح أنا، سيتبرم الكثيرون، لو أني قلت: "ولد بلاد أنا" لا أرضى بالإهانة، أتحصّن بقولة والدي: (خزي ع اللي ما يحمل الشينة، وخزي ع اللي ينساها) أسمعني إياها منذ كنت طالباً مستمعاً في مدرسته (في الخامسة من عمريّ) ربّاني على أنْ أكون معتزّاً بنفسي - ولا أذلـّلها حتى لأجل المصلحة - وأغترّ بها، على الذي يريد أنْ (...). (5 مرات)
أبي لم يطردني من بيته، لأني لا أعمل، ولم ينعتني بالفشل والكسل، كما يفعل أباء آخرون بأولادهم وبناتهم، دلـّلني بالحنان، ولم يغرقني بالأموال، ذات مرة كنت أبحث عن عمل، فأوصاني ناهراً: "لا تعمل كناساً في دولة نفطية، تقدر على استيراد المنظفين، ومواد التنظيف من الخارج".
وأردف: "إياك أنْ تقبل بالمذلة يا بني، فهيهات هيهات منا الذلة".
وعلّـل ذلك، بسؤال إنكاريّ: "هل حاسبتك على أكلك وشربك وملبسك يوماً؟".
ونصحني بإيمان وطنيّ: "العمل والرزق كله نصيب يا بُني، فمهما اشتدت المحن اصبر وتجلـّد بالصبر". (و لا مرة)
نعم قالها ليّ بلسان عربي فصيح، فقد خدم التعليم لمدة تجاوزت الخمس وأربعين سنة، وحينما تقاعد إجبارياً، منحوه بذلة عربية، بازيلية اللون، صُـنِعت في مصنع (رأس أعبيدة) في حين، أهداه تلامذته أربعين بذلة بيضاء، جيء بها من الأراضي المقدسة، فاحتفظ باثنتين منها، ووهب جيرانه من المصلين الأخريات، لكنه لم يقعد، كما القعود من النساء في بيوتهن، بل استمر على عادته اليومية، ينهض باكراً ويذهب إلى المدرسة بالمجان، ولما وافته المنية، لم تتكرم نقابة التعليم، حتى بنشر التعزية له في صحيفة " أخبار بنغازي " لأنه رجعيّ الحبّ، ومرجعيته الله ورسوله. (و لا مرة)
حسبي الله ونعم الوكيل، وحسبي إطراء لذاتي، فلن أحكي لكم، عن جدّي أنا ولا عن عمّي أنا – فسوف لن يسامحاني على ذكري لهما - فيكفيني من أكون أنا: مسلمٌ أنا، عربيٌّ أنا، وطنيٌّ أنا، ثوريٌّ أنا، رجعيٌّ أنا، أفخر بنفسي أنا. (9 مرات)
إلا أنّ، ليّ سيئةً واحدة في حياتي، لن أغفرها لذاتي، وهيّ أنني جاملت مرةً، الكاتب الراحل حمد المسماري، رحمه الله، في دعوته إليّ، للمشاركة بالكتابة في سخيفتي (عورينا وعويا) فلم أعطِهم إلا مقالاتي الفنية، التي كتبتها بترانيم عشقي للوطن، غير أنّ ما يُرجّع إليّ ثقتي بنفسي، أنني لم استلم مكافأتي منهما، التي أعتقدها، قد ذهبت لسداد فواتير المُسكِرات والمُكسَّرات، التي تصيّرت إلى مستحلبٍ في فروج العاهرات، من بنات وطني، اللائي ولِدن وكـُنّ في يوم ما شريفاتٍ، ولن أسامحهما في ذلك، من دون أنْ أطالب بها، فسوف يحاسبني وطني ورجاله الخـُلـّص، لأنني - من دون أنْ أدري- موّلت (...) لانتهاك الحُرمات، لكن ما العمل ؟ فأنا من طبعي وتربيتي، لا أقف على أعتاب وأبواب المُدراء. (مرة واحدة)
ختاماً:
أذلُّ نفسي لله، متذكراً وذاكراً إياه، ألف مرة، ومتعوذاً به من كلمة (أنا) إحدى وخمسين مرة، قائلاً: "ليس الفتى من قال كان أبي، لكنّ الفتى من قال ها أنا ذا". (مرتان فقط)
أقول ذلك، وأستغفر الله ليّ ولكم، ولكل من يقول (أنا فقط أنا، ومن بعدي الطوفان أنا) من الكتّاب المُدّعي الوطنية.
الـ (أنا) الثلاث الأخيرات، غير محسوبات عليّ، فهي ليست من الـ (أنا) خاصتي، أما الـ (51) الأوليات، فأهديها إلى الوطن، هذا إنْ لم أخطئ في عدّ كلمة (أنا).

ما ليّ وما لبلادي؟

لنقارن أنفسنا بالتجارب العربية المحاذية لنا في الأقطار و الأمصار العربية الأخرى، و لتكـُن مصر مثالاً - لا يُحتذى به - مع إقراري الخطـّي لكم و للمفتتنين بها من الليبيين و الليبيات، بأنها قد حقــّقت قفزات نوعية و جبّارة في مضمار الكتابة، بعد مراكمة التجارب عبر سنين طِوال، ذلك أنّ الكتابة ، ليست كل شيءٍ، فهي ليست بغاية و إنما وسيلة، و إلا تحوّلنا إلى كتبة عموميين، نبيع الكلام المكتوب في قراطيس، كما أنها ليست الدواء، الذي يسحر أوجاعنا فيشفيها، مع اعترافي، بأنها تخفـّف عنا شيئاً قليلاً من حِدة الألم، خصوصاً عند تلك الشريحة، التي و هي تطالعها بعيونها، تتحنّط عندها لغة العقل و الضمير الإنساني، وتقرؤها بمراءٍ مُغمضَة، وتذر لعيون الرقيب الذاتي، السطور كلها، فتكتفي بالابتسام من أوجاعها، حينما ينغص عليها رقيبها الآلي، ليلتها المراهقة والمُرهـِقة، خوفاً ورعباً على نفسها، لأنها قد ارتكبت جرم المعرفة، ولا ينال الكاتب من خشيتها عليه، ولو النزر اليسير من رجفات أوصالها، التي تخشّنت بفعل القسوة، فلم تصل قريباً ولا حبيباً، واصطكاك ضروسها - ليس شعوراً بالبرد، فهي تنعم بحرارة لافحة، إذ أنها تقرؤها في السّرِّ، مُمارسة ًالعادة السّرية القرائية، في وضح الظلام، وتحت صوف اللحاف، حتى في فصل الصيف الحار والحارق - التي نخرها سوس الجبن (الخوف) وليس مشتقّ الحليب، الذي هي محرومة منه أصلاً.
لكن حال الاكتفاء بها، ستتصيّر إلى مخدر غير شافٍ، طالما أنّ مبعث السقم باقٍ في الجسد (عافاكم الشافي من كل وجع).
والوجع الذي نعانيه جميعاً، هو وجع الوطنية، الذي ما من إنسان سويّ، إلا ومسّه الضرّ منه، حتى وإنْ تغافل وكابر على وجعه، فإنْ لم يكـُن وجعاً مادياً (مباشراً) فهو معنوي (غير مباشر).
فحركة الكتابة وحِراكها هناك، فعلا فعلهما على أتم وجه بتصوري، وأدّيا ما عليهما، على نحو محسوس وملموس، على الرغم ممّا أصاب المثقفين من أوجاع لا حصر لها، كردّة فعل على وطنيتهم، ومع ذلك، ظلّ الداء مستشرياً، ولم يُجابه، ذلك لعدم وجود الحاضنة، التي تتبنى المثقفين، غير السجون والمعتقلات السياسية، مع أنّ بعض مطالبات هؤلاء المثقفين، كان عادياً وشرعياً ومشروعاً، ولا يتعدى مطالبتهم بالإصلاحات الاجتماعية والثقافية، فما دخل هذا بذاك، سلوا أهل مصر إنْ كنتم لا تعلمون.
أما في ليبيا الحبّ والطيبة، فقد تأخرت الكتابة المتعلقة بالشأن العام عندنا كثيراً، حيث كان على الأجيال السابقة من المثقفين، أنْ تقوم بواجبها الوطني، زمن وجوبها و تأثيرها، وأنْ تؤسّس لهذا اللون في الكتابة، القاعدة الصلبة، التي يقف على أعتابها المثقفون الوطنيون الواعون، حتى تصبح الكتابة الوطنية، ثقافة ًعامة، يعرف الكلُّ اشتراطاتها ودواعيها والغرض منها، وكيفية العمل بها.
أدّب - يؤدّب - تأديبا - فهو المؤدب - وصيغة المبالغة منه: أديب، على وزن (فعيل).
عجـِبتُ ألماً، بمن ينادي بالإصلاح السياسي، وهو لا يقيم وزناُ، ولا اهتماماُ بالإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، إذ تراه، يترأس صحيفةً ما، وكأنه لا يعرف، أنّ أكل حقوق الكتّاب - ولست منهم - جريمة تـُقترف بحقّ الوطن، ولا تـُغتفر، فالكاتب الوطني، قد يغضّ الطرف عن الحقوق المادية في سبيل المصلحة العامة، وقد يتنازل- حتى عن أجمل ما خطّه في عمره في محبة الوطن وللوطن، إلا أنه لن يقبل البتـّة، بأنْ ينشر نتاجه في هكذا صحف يديرها مثل هؤلاء، ولا يقبل بأنْ تـُحاذي نصوصه، نصوص لصوص الكلمة (حاذي لغرف إلا المطابخ ايشوهن *).
وزادني العجب، فيمن يدّعي الأدب، وهو لا يعرف للأدب سبيلاً، هنا أستقطع لكم فصلاً قصيراً من رواية شرمولة - التي حان فصل أكلها في الصيف، وبزيت دوّار الشمس المُضِّر بالصحة، ومن ثم بالتعليم أيضاً، لتصبح شرمولة بائسة في أفواه البؤساء- للرائع 'محمد الأصفر' فقد كتب ما قصته: (أنه التقى بأحد الأدباء عند مدخل مؤسسة الصحافة، فصافحه وسأله: كيف حالك يا محمد؟ وكيف حال الأدب؟ فأجابه الأصفر في أجلى حالة بؤس أدبي 'أنا الآن في حالة قلة أدب، فأعطني ديناراً، واترك الأدب لأهله '.
لست هنا استعلائياً، ولا أمتهن التصفية الأدبية، بحدِّ سنّ القلم، حتى أُعرّض بذلك الأديب، فأغلبكم قد عرفه ربما، فمهما يكـُن من شيءٍ، فإنّ له قدره وقراءه ومحبيه، لكني سأركـّز على ختام قولة 'الأصفر': 'اترك الأدب لأهله'.. فمن هم أهله، أيها الأصفر؟.
لنخطو إلى الوراء قليلاً، ونقف عند الاشتقاق اللغوي الفائت، فالكتابة لا تعني الأدب المكتوب ولا المكتوم، وإنما هي في الأساس اللغوي، خلق سام ٍ، يتصف به الإنسان، قبل أنْ يكون كاتباً، فكيف لمن يدّعي الأدب، ويُنظـّر لنفسه بذلك بين الناس، أنْ يُمارس أول معصية عرفها البشر، وهي الحسد، حتى يتـفنـّن في لعبته، ويتقن التحاسد والغلّ على كاتب آخر، ربما يكون في مثل عمر أبنائه (لا أقصدني هنا)؟ خليقٌ به أنْ يتبنى موهبته، إذا كان وطنياً بحقّ، وغير إقصائي، فهذه الحالة الخاصة، تحدث عندنا فقط، في الوسط الأدبي والثقافي بشكل عام.
وإزاء هذه الحالة، وغيرها من حالات عجيبات، لا بدّ لنا نحن الكتّاب، من وقفة جادة، لأجل أنْ نكون مؤهلين لاعتلاء منصات الأدب- وكذلك بتأهيل العامة من جديد لمعرفة أخلاقيات دينهم- بأنْ نعيد تأهيل ذواتنا من جديد، خـُلقاً قبل أنْ نؤهلها ثقافياً، ونعيد ثقة القارئ بنا، فإنْ لم تفعلوا، وأظنكم ستفعلون، دعوني مثلكم، أهنأ ببؤس حياتي في الكتابة عن الأغاني ، و ما ليّ و ما لبلادي ؟ .
لا تؤاخذوني على كتابتي، فبين جوانحي، ينبض قلب الطفل- الذي في الصورة- وهو مُحبٌّ لكم، ويحبُّ أنْ يحيا في سعادة وراحة بال مثلكم، فما نالني من هذه الكتابية – بخصوص الشأن العام – سوى الكآبة الوطنية- وما تعليق القارئ 'أبي أوس' إلا دليل على ذلك، وهذا هو سياقه، بما اكتنفه من أخطاء مطبعية: (يازياد نشوف فيك وانت مروح عقاب الليل وانت كلك هموم ونقول ازعماء شنو كتب يعطيك الصحة اليوم سبحان الله يبان عليك مرة متفائل وشوية من الفرح ومرة تجرخيبات الامل غموما خليك دائما القلم والصوت الحر وان لك قراء لمقالاتك وربي يوفقك**)- التي لا دواء لها، إلا إذا التمستُ الإصلاح في كل ما نكتب عنه وعليه، فقد ولّى زمن الكلمة والقول، وحلّ زمن الهمّة والفعل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): مثل شعبي تقوله الأم لولدها، قبل وحين اختياره لشريكة حياته.
(**): التعليق موجود على هذا الرابط:
http://www.almanaralink.com/new/index.php?scid=4&nid=21503

ضد الطبيعة

' نحن قومٌ ، نتناسب و نتصاهر عكسياً مع الزمن ، مع ثبوت الفساد و الاستكراد ، حتى نتلاشى '

من دون أنْ أتظاهر بالوطنية ، سأتظاهر اليوم في شوارع المدينة ، بنفسي ، فلست في حاجة إلى النقابات و الروابط المهنية و رابطة الكتّاب و الأدباء ، و لا إلى ما إليها من جهات رسمية أخرى ، فأساساً ، لست منضماً إلى أية واحدة منها ، و سأحمل لافتة مخطوط ٌ عليها : ( اسم الله علينا .. و يا ناري ع الغوالي .. و فرقتْ حالنا ) و ما إليها من عبارات أخريات ، قد سمعتها من عجائزنا المباركات ( المدروشات ) .. لم أهتف ، بل جعلت هتافي ، دندنتي لهذه الأغنية ، التي تتناسب طردياً ، مع ما هو مكتوب في لافتتي ، و تندغم معه إلى حدّ الطرب و الوجد :

' يا عيني ع المحبة .. و ع الناس الطيبين

اللي ذايبين محبة .. ما بين شوق و حنين

اللي امفارق غوالي .. و اللي سهران ليالي .. يستنى في الغايبين * '

تفصلني الآن ، مسافة عشر خطوات عن مبنى الباستيل ( البحث الجنائي ) المقابل لمدرسة شهداء يناير الثانوية ، و تمضي أمامي عجوز بصُحبة كريمتها ، و هناك شرطيان واقفان أمام مدخل هذا المبنى الإيطالي القديم ، يحرسان بابه الفولاذي ، و بمجرد أنْ اقتربتا منهما ، رأيت أحدهما ، يفتح أزرار قميصه العلوية ، و يدخل يده إلى صدره ، و هو يتكأ على قائم الباب ، و قد لوى عنقه نحوهما بزاوية 180 درجة ، مثل ذئب جائع ، أو خائف من مطاردة الكلاب له ، مطلقاً ( غنّاوة علم ** ) غرائزية الكلمات ، تعري المرأة من أخمص قدمها حتى جبينها ، و شعرها من الجذور حتى الأطراف - ليس لمنع التقصف - و قد ألحقها بمعاكسة : ' بنتك سمحة يا احويجة .. زوزيها ليا ' .. فالتفتت نحوه العجوز الأصيلة ، التي عرفت أصالتها ، من خلال ارتدائها لرداء عمل ، الذي بان ، بعدما سقط عنها جردها الأزرق المزلز بالأبيض ، فظهر عقد الفردغ في صدرها و التكليلة في أذنيها ، و قد خلعت قبقابها و مسكته في يدها ، التي ترن بصوت امفكرن الفضة ، وقد أمسكت بيدها الأخرى خصلة من جمتها المُخضَبة بالحناء : ' و اللهي يا منجوه .. لو عندي عشر بنات عور و حول و عرج .. ما نعطيك وحدة منهن .. خزيت و لعنت عليك و ع اللي رباك .. الحق مش عليك .. الحق ع اللي دارك شرطي .. تي و اللهي لو في أيدي سُلطة .. ما انحطك حتى باب ع الكلاب .. رعشتني الله ايرعّش بقاك ' .. انكمش مثل قميصه الذي يرتديه من دون كيّ ، و أطرق رأسه إلى ما بين رجليه ، مرّرت بجانبه ، و قد انحنيت ، لالتقط عشرة دنانير ملقاة من أحدهم على الأرض ، و أكملت مسيري ، صاح خلفي : ' يا شبوب راهن حقــّـاتي ' .. ردّدت عليه : ' حاجة في الوطا معش تنعطا .. أنت إنكان عندك عشرة اجنيه في جيبك .. راهو ما هضا حالك .. و مانك قاعد بوّاب ' .

***

' يا عيني ع المحبة .. و ع الناس الطيبين

اللي ذايبين محبة .. ما بين شوق و حنين

اللي امفارق غوالي .. و اللي سهران ليالي .. يستنى في الغايبين '

عاودت مطلع هذه الأغنية ، لأكثر من عشر مرات ، حتى بان أمامي مُدع ٍ ثقافي ، لا أراه من الناس الطيبين ، فقطع عليّ حبل غنائي .. ( لنقنه مش وقته بكل .. واحد مش امخطم عليه من الثقافة إلا جانب السخافة منها .. و ما عنديش له راس و لا اخلوق و لا انياط بكل .. ما أثقل دمه و خلاص ) أراه من بعيد كالشبح ، و هو وراء الصنم النصفي للرئيس المصري الراحل ' جمال عبد الناصر ' - خارجاً من مركز أبحاث و دراسات الكتاب الأخضر - قادماً نحوي و صرفي ، حاملاً في يده جهاز ( لابتوب ) - أهداه إليه وزير الثقافة ، كما أخبرني ، و أحدس بحدس الكاتب ، بأنه شحذه منه في طرابلس - يخزّن فيه صوراً و مقاطع ( فيديو ) فاضحة و فاسدة ، ما ينمُّ عن فساد في أخلاقه ، لا أودُّ أنْ يراني ، لأني حلفت مرة بيني و بين نفسي : ( لو نلقاه قدامي .. اندفه تاكو ) و هو الآن في شارع رئيسي ، سوف أهرب منه ، إلى أول شارع فرعي يقابلني ، فربما من سوء حظ ّهذا المُدعي الثقافي ، أنْ يكون ( مدعي عليه و املقط دعا شر و غضيب ولدين ) فيدخل هو الآخر إلى هناك .. هربت منه ، و من سؤاله المتكرّر ، الذي يطرحه عليّ دوماً : ' وينك ؟ كنك ما انشوفوش فيك في الأمسيات و الأصبوحات و الفجريات و القيلولات و العشيات الثقااااافية ؟ تي كنك عاطيها لروحك ؟ ' فابتسم له ، و أتركه من دون أنْ أجيبه ، فيظنُّ بأنني مُتفهيقٌ و متعالٍ عليه ، في حين ، أنني خجول ، و لا أريد أنْ تتحول علاقة المتلقي معي ، من قارئ إلى مستمع ، فأصبح عندئذٍ ظاهرة صوتية فقط ، و لا أجد نفسي هذه الأوساط ، التي أسّهمت في تناسبنا العكسي مع الزمن ، لجهة الكتابة ، فنحن في زمن وجوب الكتابة ، لم نكتب ، و صرنا نسخّر هذه المحتفلات للتأبينات ، التي نستطيع أنْ نقيمها في صالوناتنا و بتبرعاتنا الذاتية ، و خارج المباني الثقافية .. و حينما صارت الكتابة مغنماً ، بات الجميع يكتب .

هو ممّن يعلنون عن محاربة الفساد - مع أنه فاسد أخلاقياً ، و عليه أنْ يصلح من ذاته أولاً ، لكون فاقد الإصلاح لا يعطيه - و يطلب إليّ أنْ أذر المقالات الفنية ، و أكتب مثله في هذا الصدد ، فأجبته مرة :' بين الفساد و الإصلاح ، تكمن كلمة واحدة ' ، فظنّ بأنني ، أتهرب من هذا النوع من الكتابة ، فشرحت له يا عزيزي : ' كتبنا و ما كتبنا و يا خسارة ما كتبنا .. كتبت و لم أتجاوز الخطوط الحمراء ، التي قد تهيج علينا الديكة الرومية ، و الثيران ذوات القرون المنكسرة .. و تناولت موضوعاً بسيطاً .. يخصُّ العمارة المائلة ، و كذلك النافورة الصدئة التي في ميدان الشجرة .. و لم يهتم بكلامي أحد .. فما زالت العمارة تميل*** ، و النافورة تسيل قرفاً ' .. و أردفت يا عزيزي : ' طالما أنّ الهوّة ، لم تـُجسّر بين المثقف الليبي و السلطة التنفيذية ، فلا فائدة من الكتابة .. و سيبقى الفساد مستفحلاً ' .

فلو قــُضي على الفساد ، ماذا يتبقى لهذا المُسخـّف ، أنْ يقول يا ترى ؟ لذا أرى من الضرورة بمكان ، إخضاع كل من يدّعي الوطنية من الكتّاب ، لامتحان معايرة عام في الوطنية ، كي يتمَّ تأهيل الصادقين و إقصاء النفعيين و الوصوليين ، لكن المُلام ليس هو ، بل من أهداه الـ ( لابتوب ) .

في الزقاق الفرعي ، بحي ( السكابلي ) قابلني صديق عزيز على قلبي ، اسمه ' مودي ' جالساً أمام محله - لبيع المواد الغذائية - و قد ازداد وزنه عن آخر مرة رأيته فيها ، فدار بيننا هذا الحديث :

هو قبل أنْ أصله بخطوتين : ما زلت اتكعب ؟ .. يا راجل راك اضعيّف .. و ما فيش داعي للرياضة اللي اتدير فيها ؟ .

أنا : تي لا يا راجل .. أنا ما نمشيش بيش انذوب الشحم .. أنا نمشي بيش انذوب الهم و الغم .

هو : باهي يا سي .. ايش أخباركم ؟ و شنو صار في موضوعك أنت و هذك البنية السمحة ؟

أنا : أحوالي تمام .. بس حبيبتي عدت هي و أيامها .

هو : خير إن شاء الله .

أنا : ما اهناك إلا الخير .. خذاها مني واحد شايب .

هو : تاخذ سوك .. البنات زي الهم ع القلب .. بس عرّي على اذراعك .

أنا : اللي فيا ما اتعيبني .. و ما فيا سو .. لين نعطيه لها .. و تاخذه مني .

هو : ها ؟ لقيت عمل .. و اللا ما زلت اتدور ؟ .

أنا : لا .

هو : دوّر وتو تلقى .

أنا : ضحكتني يا مودي .. اللي في عمري توا .. تلقاه ايفكر في إجراءات التقاعد .. الله يرحم بوي اللي عقبلي ادكيكين نسترزق منه .. حالي خير من حال ناس واجدة .. و غنيت له :

ارحم بوي خلاني هــواوي .. كيف النجم في قلب السـما

***

دخل ' مودي ' ليعد ليّ فنجان قهوة ، تذكرت بعد حواري معه ، بقية حديثي مع ذلك المُدعي الوطني ، في أخر مرة التقيته فيها ، حيث إنه ألحّ عليّ ، لأجل أنْ أكتب في الشأن العام ، بعد أنْ أعلمني بأنّ الكتابة في هذا الصدد ، أصبحت متاحة للجميع ، و حقّ التعبير يكفله القانون ، و طلب إليّ أنْ أعطيه بعض من كتاباتي ، لكي يقوم بإيصالها إلى صحف ( تومورو ) خصوصاً بعد أنْ أصبح من يديرها ، هو الأستاذ ' سليمان ' - لا أتذكر بقية اسمه - القادم من عاصمة الضباب و الديمقراطية الأوربية ( لندن ) .. فقلت له : ( اجعني ما نفقدك .. بس نبي انقولك احويجة .. الكتابة الوطنية ، و التي تـُعنى بالشأن العام ، في عُرفي ، ليست غاية بل وسيلة ، و لا تنتج بأمر ، أو دعوة من أيٍّ كان ، فهي تشتجرُّ مع الكتابة الأدبية و الفنية و الذاتية ، و أبلغته أيضاً ، بأنني حينما أكتب في هذا الصدد ، فإنّ ما في قلبي على قلمي ، و لا أعتبر نفسي تلميذاً في مدرسة ، يكتب موضوع إنشاء عن فصل الربيع مثلاً ، ثم يقدمه للأستاذ ' المتصفح **** ' فيعطيه علامة عشرة من عشرة في التعليقات ، أو يمنُّ عليه أحد المسؤولين بجهاز لابتوب ، كالذي تحمله الآن ) .. و لأنه يعاني من عسر في التفكير و ثقل في رأسه ، مثل الذي في دمه ، لم يفهم شيئاً مما عنيت ، مما اضطرني لأنْ أطنب في شرحي ، و أنا أضع يديّ على كتفه العريض : ( اسمع يا ' ... ' الكتابة الوطنية تستلزم شروطاً قبل الخوض فيها ، و الحكاية ليست حكاية صحف جديدة ، و حرية تعبير و إنشاء ، فطالما لم تؤخذ كتاباتنا بجدية ، فلا داعٍ لها ، و ستظلّ مهمة هذه السُّخفِ المطبوعة ، هي احتواء الكتّاب ، كما صرّح مرة ' البوسيفي ' لا أتذكر أول اسمه .. و لك أنْ تتأكد بنفسك ، من أستاذك القادم من بريطانيا ، بخصوص العلاقة بين المثقف و الأجهزة التنفيذية هناك .. يا خويا راهو الجماعة يستكردوا فينا بالعربي .. تي افهم عاد ما اثقل دمك و فهمك ) .

عاد ليدّعوني للكتابة مجدداً ، فالفرصة مواتية برأيه : ما تلويهش يا خويا .. و ما اتديرش حكاية العمارة و النافورة سبلة .. و أنشد : ' داير حوش خواله سبلة يدهور و ايجي من قبله ' .. فأخبرته : و لأنني على الدوام ، ممّن يبحثون للآخر عن عذر ، احتملت أنْ يكون أمر إزالة تلك العمارة المائلة صعب جداً ، من الناحية الهندسية مثلاً ، لذا سأتناول في هذه الموضوعة ، بضعة أشياء في عدة مجالات ، لكني لن أنشرها في صحف ( تومورو ) لكن على مواقع الإنترنت ، و سأعطي السلطات التنفيذية مهلة طويلة ، لأرى و أياك ، إنْ هي فعلت فعلاً ملموساً بشأنها :

الكلام للقرّاء :

( 1 ) - اقتصادياً :

زمان ، كان يشتغل في محل ' مودي ' والده ، رحمه الله ، مثله مثل ، كل من يديرون المحلات آنذاك ، من كبار السن ، و كانت التجارة تسير على نحو طبيعي ؛ و كذلك الشاحنات الكبيرة ، وقتذاك ، لا يقودها إلا من هو فوق الخمسين سنة ، أما الآن فمن يدير هاتين الحرفتين ، هُم الشباب المتهورون ، الذين لا يكترثون لهذه المسؤولية ، و لا لأبسط قواعد القانون ، و يظلُّ الواحد منهم ، مقعداً كما المُعاق ، في مقعد القيادة أو في المحل ، ليوم كامل أحياناً ، ما جعلهم يصابون بالشيخوخة المبكرة ، و جعل البلاد تفقد شبابهم و حيويتهم ، فقد كانت التجارة ماضياً ، تمضي بشكل أفضل ، فلا مشكلات و لا ديون و لا غش ، و لا أي شيء سييء ، كذلك بالنسبة للشاحنات و الحافلات و سيارات الركوبة العامة ، لذا ، لم تكثر الحوادث و الجرائم آنذاك ، فالشباب في تلك الفترة الزاهرة ، كان كل همهم ، هو الترفيه عن أنفسهم ، بممارسة الرياضة و السفر و الهوايات جميعها ، فتجدهم أمام شركات الطيران العالمية ( الأولمبيك اليونانية ) و السويسرية ، و غيرهما من شركات عالمية ، كانت تزدان بها مدينتنا ، حتى اكتسبوا ثقافات عامة ، تندر عند الشباب العربي في الدول الأخرى ، و لأننا نمضي ضد الطبيعة ، تولدت لدينا ثقافات الرعاع بين فئة الشباب ، التي غـُيبت عن همومها ، نتيجة اللهث وراء كسب الرزق ، على حساب الثقافة و العلم و الإبداع ؛ فصارت ثقافة الشاب الليبي ، منذ أنْ يصل إلى السادسة من عمره ، هو أنْ يدرس ، ثم يتخرج من التعليم العالي ، بعد أنْ يبلغ عمره ( 22 أو 23 ) سنة - إنْ لم يفشل في تعليمه - و بعد ذلك ينضم إلى فلول المتدربين في العسكرية ، ثم عليه أنْ يذوق و يتجرع مرارة الوقوف في جيوش البطالة ، حتى يتحصل على عمل بالوساطة و المحسوبية و المحاباة ، ثم يعمل حتى يصل عمره إلى ( 35 ) سنة ، فيكوّن نفسه بعد هذه الرحلة العمرية الطويلة ، ليتزوج فقط ، ثم يبدأ بعد عملية ( تصفير ) الحساب من جديد ، لينشئ رأسمالاً جديداً ، بعد أنْ يستنزف ما لديه من مدخرات في مشروع الزواج ، ما جعل مفهوم تكوين المستقبل لديه ، هو الزواج ، في حين أنّ مسألة الزواج ، لا تستحق منه كل هذا العناء ، مقارنة مع الشباب في الدول الأخرى ، حتى المجاورة لنا و الأكثر فقراً منا .

***

( 2 ) - اجتماعياً :

أ - علاقات :

كان المجتمع ، لا يسمح بأنّ تعيش بين ظهرانيه امرأة عازبة ، أرملة كانت أو مطلقة ، فيهبُّ أفراده ليتزوج بها ، عملاً بما كان يعمل السلف الصالح ، و جبراً لخاطرها ، أما الآن فحتى العذراوات ، أصبحنَّ سلعة بالية في سوق البشر ، فمبالكم بالأخريين ؟ ففي تلك الآونة ، أسّهم الزواج من الأرامل و المطلقات ، خصوصاً ممّن لهن أولاد ، في كفالة الأيتام ، و من ثم ، في مدّ أواصر العلاقات بين العائلات ، و الوشائج بين القبائل الليبية ، بهذه المصاهرات ، حتى صار المجتمع في أغلبه ، إخوة و أخوات من الأم أو الأب ، و هي ظاهرة طيبة ، لكن بعد ما جرى ، تولـّدت العنصرية في هذا المجتمع ، و صار الليبيون يعيشون أزواجاً أزواجاً ، لا علاقة طبيعية ، و لا مجتمعية لأي زوج بآخر - فرقت حالنا - مقارنة مع الحمام .. و هذا مؤشر سيئ ، ينبئ بتلاشي المودة و المحبة مع مرور الزمن ، الذي نتصاهر معه عكسياً ، إذا استمر الحال على هذا المنوال .

ب - أخلاق :

' إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ، فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا '

شاهدت في ذلك الزقاق ، و أنا أنتظر القهوة ، شاباً من أبناء الجيل الجديد ، يقف مع فتاة - و هو يرتدي ( شورت ) قصير تنمو على ساقيه غابة من سفانا الشعر - هي أخت صديق له - كما أخبرني ' مودي ' حيث إنه أعلمني ، بأنه يقوم يومياً بهذا التصرف ، مستغلاً ذهاب أخيها لمحله التجاري ، فيخون صديقه ، و يستغل هذه الصداقة فيما لا يجوز ، و عندما سألت ' مودي ' : ' ليش ما اتهزبه ؟ ' .. أجابني : ' ما نقدرش انسيب الدكان .. و بعدين مش شوري .. ايتملحوا .. ايش دخلني بيها ' .. و هذه السلبية الاجتماعية ، ستسبّب أيضاً في تلاشينا مع الزمن إذا استمرت .

ج - أداب عامة :

إماطة الأذى عن الطريق آخر شعبة من شعب الإيمان ، و صارت الآن شيئاً غير مهم ، طالما أنّ الشركات التي تقوم بأعمال الصيانة ، هي من تزرع الأذى في شوارع المدينة ، بحفر الطرق ، وزرع المطبات - بدلأ من الأشجار - التي تعيق حركة المُعافين قبل حتى المُعاقين ، حتى ظنّ الجيل الجديد ، بأنّ هذا المشهد طبيعي و فطري ، و ليس منبوذاً في الأصل ، فاستمرأه .

فإذا استمرت هذه السلبيات التي اخترت لكم جزءاً يسيرا منها ، فهذا يعني أننا بحق نتناسب عكسياً مع الزمن ، فهذه الأمراض لم تكـُن معروفة لدينا ، من قبل ، و عندما تقدّم الزمن إلى الأمام خطونا إلى الوراء

***

تركت ' مودي ' يلتهم رقائق ( التشيبس ) - المحمض بملح الليم و الجبنة و الكاتشاب - أمام محله ، و أكملت تظاهرتي في الأزقة و الشوارع الخلفية لبنغازي ، و في أحد الأحياء مرّرت بمجموعة محلات تحت مبنى واحد ، لكل منها نشاط مختلف عن الآخر : ( صيدلية - سمكري سيارات - قصّاب - حلاق - مزين للنساء - تغيير زيوت سيارات ) ما يدلّ على العشوائية ، التي تعاني منها المدينة في التنظيم ، التي من شأنها ، أنْ تسبّب في عدة مشكلات لا يحمد عقباها ، هو مشهد مألوف و موجود في أحياء كثيرة من المدينة ، و بات غير غريب ، و نظراً لضيق ذات اليد ، يدير هذه المحلات شباب ، ما عدا مزين النساء طبعاً ، الذي تعمل به مجموعة من البنات ، لقد كان - و مازل في اعتقادي - أنّ خروج المرأة إلى العمل ، دليلاً على الضائقة الاقتصادية للمجتمعات ، خصوصاً من شريحة الفتيات غير المتعلمات و غير المتزوجات ، اللائي يعولنّ أسرهنّ ، لكأنك في حارة من المجتمعات المنهارة أخلاقياً ، و أنت تستمع إلى ما يخرج من ورشة سمكرة السيارات ، التي يسيل الزيت على مصطبتها الإسمنتية المنحدرة ، صوت مغني ( بحبك يا احمار ) و من القصّاب نشرة أخبار إذاعة الجماهيرية ، و الحلاق يبث أغاني الشاب خالد ، أما مزين النساء ، فيصدر من داخله ، غناء فنانة شعبية ، تغني ( غالا غالا .. عرف قلبي قبلك كثير وغالا / غالا غالا .. لكن شهادة كيف زولك لا لا ) .. فجابهت هذه الأغنية بأغنيتي التي كنت أدندن بها ، و فرّرت من هذا الضجيج و قلة الحياة بعيداً ، و قرّرت ألا أعود إلى الخوض في غمار هذه الكتابات - من غير سو - حتى تغيّر تلك الجهات نظرتها إلى هكذا كتابات ، لأني أعلم بأنها لن تكترث بما كتبت ، و يكتب غيري من الأساتذة ، ما عدا ذلك المُدعي ، الذي ينتظر أنْ يمنحوه سيارة كورية الصنع في القريب العاجل ، بعد أنْ يأخذ الترتيب الأول في مادة التعبير عن موضوع ( الوطنية ) قسم المشاهدات السلبية ، لكي يجمّل وضع الكتابة في بلادنا أمام الأجانب .

***

عود على بدء ، ما زلت أصرُّ على أننا قوم نتناسب و نتصاهر عكسياً مع الزمن ، مع ثبوت الفساد و الاستكراد ، حتى يفضَّ الأخير عقد السفاح بنا ، فإما أنْ تكون علاقتنا به طردية ، و تمثل على المنحنى البياني في شكل خط مستقيم ، و إلا فلا ضرورة لها ؛ و خير دليل على صحّة تصوري ، أننا في الوقت الذي يجب أنْ نبني فيه الثقة بين المثقف و السلطات التنفيذية و التشريعية ، نتحدث عن حرية التعبير ، التي نراها مكتسباً ، و حتى إنْ كانت كذلك ، فقد جاءت متأخرة ، ثم أنّ حرية التعبير في الأصل ، حقّ تكفله الطبيعة ، و لا لأحد الفضل و الجميل فيه علينا ، هذا ما يفترض بنا أنْ نعيه ، قبل أن تستمر الحال على ما هي عليه ، و نـُمثــّـل في علاقتنا مع الزمن على الرسم البياني عند نقطة الأصل ( 0 ، 0 ) و إنْ استمرت بعد ذلك ، فسوف نسفل تحت الصفر ، و نقاس بسوالب الأرقام و شذوذها و شواذها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( * ) : كلمات الشاعر الغنائي الليبي : يوسف بن صريتي .

لحن الموسيقار المصري الراحل : سيد مكاوي .

غناء المطرب الليبي : جلال أحمد .

( ** ) : لست أعرف من أين جاءت هذه التسمية ؟ فما يسمونه بغناوة العلم ، عبارة عن بيت شعري ، يختزن و يختزل العديد من المعاني ، و يلقى بطريقة خاصة ، فأنّى له أن يكون أغنية ؟ فالأغنية في أبسط قواعدها مؤلفة من مطلع و كوبليهين ، أوجه سؤالي إلى المثقفين الذين انصرفوا إلى تجميع هذا غناوي العلم .

( *** ) : رأيت منذ يومين طفلاً ، يبيع التبغ أمام تلك العمارة المائلة ، فيبدو أنه وجد في الرصيف الخاص بها ، مكاناً إستراتيجياً و تجارياً ، خصوصاً و أنها ، تتوسط أكثر من ثلاثة مقاهي ، زبائنها يحتاجون إلى هذه السلعة التي هي قرينة الدخان بكل تأكيد ، و هو لا يدري بالخطر الذي يتهدده ، فطالما أن الإخوة لا يريدون هدم هذه العمارة ، فعليهم على الأقل ، أنْ يضعوا أمامها لافتة : ' لا تقف هنا ' أم أنّ حتى هذه صعبة ، لا فسوف لن أجد لهم عذراً على ذلك .

( *** ) : أعتبر المتصفح معلماً بتصوري .

بنغازي مدينة صيفية

' أنا من الكائنات الحيّة ، التي تنشط في فصل الصيف ، لكني لست طـُفيلياً ، و لا بكتيرياً ، و لا طـُحلباً أخضر ، كطحالب مستنقع الكابترانية ' .
'الدجاج هو الكائن الحيّ الوحيد ، الذي لا يغتسل بالماء ، لكنْ بالتراب ، فهو الوحيد الذي يعرف حقيقة ، أنّ بنغازي مدينة صيفية'.
' الأطفال أيضاً ، لا يحبون الاستحمام بالماء ، فهم يصرخون عند ذاك ، ملء أعينهم ، لكنهم يعشقون اللعب بالرمال ، عند شاطئ البحر ، و يبغضون و يخافون العوم فيه ، إذن هم أيضاً يعون حقيقة ، أنّ بنغازي مدينة صيفية ' .
دقــّت الساعة ، رنّ جرس الباب ، خفق القلب ، اضطرب الوجدان ، شعرت بالقلق في قلبي يخترق ، و بإحساسي يعتنق ، خرجت من الباب الخلفي مسرعاً ، لست خائفاً ، لكني أهاب الأخبارة غير السَّارة ، كان الطقس حاراً ، الكل مختبئون في بيوتهم ، لتحميهم من رياح القبلي ، مدى الرؤية ، مترٌ واحدٌ فحسب ، مدّدت يُمناي أمامي ، مثل عُكـّاز جدّي ، الذي ورثته عنه ، و لم أرَه ، و صرت أمشي ، كما أعمى ، لم يعـِش في عهد الفاروق رضي الله عنه ( لا خادم له ) و يُسراي أضعها على فمي ، كمصدّة للرياح المُحمَلة بحُبيبات الغبار ، بعدما تعبأ بها ، و صارت تقزقز بين أسناني ، كما حبات البزر ، أما أنفي ، فقد أخذ يستنشق عبير العجاج ، و يستطعمه بلذاذة ، تاركاً رجلاي ، تقوداني إلى حيثما تشاءان ، كي أحاسبهما أنا يوم القيامة ، إنْ زلتا بيّ نحو مستنقع الحرام ، فوصلتا بيّ إلى الطريق السريع ، و مرّت أمامي بسرعة بطيئة - و أشارت إليّ بضوء مصابيحها - سيارة ركوبة عامة ( باص ) قفزت بجانب السائق ، كانت تغصّ بالأرواح الملتهبة ، و الوجوه المُبتلَة عرقاً ، و الشعور( جمع شعر ) الملتوية و المتلونة ، بلون تـُربة بنغازي العطشة لماء مطر الشتاء - الذي يفرح الكثيرون بالرقص تحته ، مُقلدين الشعوب الأوربية ، في مهرجانات الثلج ، بالهرج و المرج ، لكنهم يتفاجأون بانتفاء وفائها قبيل موسم الحصاد ، فهي لا تأتي في الربيع إلا نادراً - من رداءة الطقس و الهواء الفاسد نتيجة ً لإغلاق نوافذها .. حيّيتهم ، فردّوا عليّ التحية بمثلها ، ثم دار هذا الحوار بيننا ، الذي ابتدأته ، إحدى المسنات القابعات في المقعد الخلفي :
- الجو اليوم في طاعة الله ، يا جنيني .
- ماذا يعني ؟ .
- أجابني السائق ، بعد أنْ أقحم نفسه ، بلهجة تساؤلية : يعني إنْ شاء الله ربي مش غاضب علينا .
- لماذا؟ .
- ألا ترى بنفسك هذا الطقس السيئ ؟
- لكن هذا ليس دليلاً على الغضب ، فما يُدّريكم ؟ .
- لست أعرف لماذا نحن نكره عجاجنا ؟ هو أكيد سيئ ، لكنه ، ليس أسوأ من الخبر السيئ ، الذي قد يأتيك بغتة ً ، فلا تعرف كيف تصدّه أبداً ، نحن يا خالة ، نعيش في مدينةٍ صيفيةٍ حاميةٍ ، أ لم تربي الدواجن من قبل ، لتعرفي هذه الحقيقة ؟ .
طلبت إلى السائق أنْ يقف ، و مدّدت له نصف دينار ممزقاً ، مثلما قميصه المنضبط على جسده ضبطاً و بالضبط ، تحجّج بعدم وجود باقي المبلغ معه ، فقلت له في نفسي ، و الله لن تهنأ به : اسمع أيها السائق ، الخالة التي بالخلف خالصة ، فشكرتني : ' اجعنك ما نفقدك يا باتي ، و الله لا ايغيبك ، و ربي ايوقـّف سعدك ' .. ( عرفت بعدها ليش سعدي واقف و مزّالي طايح و بختي مايل كيف هذك العمارة * ) .
من سأجد ربما من الأصدقاء ؟ لأرى هل إنْ كان ' محمد الأصفر ' في المقهى ؟ فأنا أعرفه جيداً ، هو كائن حي ، يعمل بنظام ضد الطبيعة ، نعم ها هو مقتربٌ من التلفاز ، واضعاً يديه على جانبي وسطه ، ليقرأ نتيجة المباراة ، في وسط استياء زبائن المقهى ، الذين يصيحون له : ' قمعز يا راجل .. معش حقينا حاجة ' و المسكين لا يسمع ، اقتربت منه ، و همست في أذنه : قمعز يا احميدة .. و أنت امطلز كيف طلوز ابريكة ' و سحبته من مرفقه إلى حيث الكرسي ، الذي ترك عنده حذائه ، كان مزاجه سيئاً للغاية ، و لا رغبة له في الحديث ، نتيجة إيقاف مرتبه .. تركته يستمتع بالمشاهدة ، و انطلقت نحو شارع ( مصراتة ) من جهة مكتبة ' الفضيل بو عمر ' و عندما اقتربت من محل بيت الأنغام لبيع الأشرطة ، تذكرت أنني ، بحاجة إلى شريط كاسيت فارغ المحتوى ، فدخلت إلى هناك ، واجداً الفنانة ' الوردة الليبية ' التي من مظهرها ، كان البادي عليها ، أنها محجوزة لأحد الأفراح ، و ظهر عليها الاستعداد ، بارتدائها لردائها ( بو خمسة و اثنين ) و هي اتطرشق في اللوبان العربي ، لتصريح حنجرتها الجهورية ذات الجمهورية الواسعة ، لكنها سرعان ما استقبلتني ببشاشة و حرارة اللقاء : ' تفضل يا غالي .. بيش نخدموك ؟ ' .. و خرجت منها وقد تحصلت على ما أريد ، و قبل أنْ أغادر المحل ، أرجعتني من عند الباب ، بحبال سؤالها :
- ولد من أنت يا باتي ؟
- ولد فلان .
- أنت الصغير ؟ .
- لا .. أنا الأوسط .
- أنت فلان ؟ .
- نعم .
- و الله شبهت عليك .. سبحان الله .. الأيام ما يجرن يا اوليدي .. ايش امطلعك في هالعجاج ؟ .
- من القلق يا أبلة .
- زمان جيت في حفلة اطهارك أنت و خوتك - أحرجتني أمام بقية فرقتها - و درتلكم حفلة للصبح .. في وسط حوشكم العربي الفايح .. ما صارت في بنغازي .. كيف حال باتك ؟ .
- عطاك عمره يا أبله خديجة .
- الله يرحمه و يسامحه .. اللي خلف ما مات .. ارجى اشوي يا أوليدي .. دخلتْ إلى مكتبها ، و بحثتْ في أرشيفها ، المُنظـَّم أكثر من أرشيف إذاعتنا الليبية ، و أتتني بأربعة أشرطة ، قنطشية اللون ، ماركة ( سوني ) هي عبارة عن تسجيل من أربعة أجزاء ، لحفلة الخِتان مكتوبٌ عليها ، حفلة اطهور أولاد العيساوي ، بتاريخ ليلة الخميس ، الموافق : 6 / 6 / 1976 ميلادياً .. و قبل أنْ أنصرف من عندها ، ختمت خدّي بالصواك النسائي البني اللون المائل إلى الإخُضرار ، حينما قبـّـلته ، وقبلته منها برحابة صدر ، باعتبارها في عمر جدّتي ، ثم رجّبت عليا : نجّك ليّ يا بو عيون سود.
- ازوجت أنت ؟ .
- لا و الله .
- و خوتك ؟ .
- قاعدين كيف قعدتي .. و قعدة عرب واجدة .. يا حنّة .
- ربي ايوقف سعدك .
( عرفت بعدها .. ليش سعدي واقف و مزّالي طايح و بختي مايل كيف هذك العمارة ) .
- و الله انجي في عرسك .. و انديرلكم ليلة ما صارت .. و ما نبي منك شي .. هذه هدية مني .. وعدت باتك بيها ، لأنه أعطاني حقّي كاملاً ( خمسين ديناراً ** ) و زاد عليهن خمسين أخرى من عنده .. باتك كان راجل امسقم .. ثم أسمعتني مقطعاً قصيراً من الشريط الأول لأستجلي وضوحه ، فأخرجت السماعات هذه القطعة بصوتها : ( زياد ازيودة يكبر و ايسوق التيوتا *** ) مع تصفيق الشبابات ، و تصفير عوانس برقة ، في تلك الحفلة ، أنا لا أستهزئ بالعوانس ، فهن بنات بلدي ، و أشعر بمعاناتهن ، فأنا أحبُّ بنات بلدي ، و أمقت كل من يستبدلهن بالأجنبيات ، و خصوصاً المُبتني و المُمتلئ لحمهن ، من لحم الخنزير أبو أنفلونزا ، فعليّ أنْ أعيّر نفسي أولاً ، فأنا عانسٌ مثلهنّ ، و يلام عليّ أكثر منهنّ ، لأني لم أكوّن مستقبلي ، فهنّ ليس بوسعهنّ ، أنْ يفعلنّ شيئاً سوى انتظار قدوم ذلك العريس عند أبواب الفرج ، أما أنا ، فبيدي أنْ أطرق باب أحداهن ، لو فكّرت في مستقبلي باكراً ، لكني لم و لا أعمل ، هل تعرفون لماذا ؟ برافو عليكم : من القلق .
- اجعني ما نفقدك يا ابلة .
- بالمناسبة يا ابلة خديجة ، ثمة أغنية للفنان ' أحمد فكرون ' أسمها ( يا حسّاد ) أعتقد أنك عُدتِ ، و قدّمتيها بصوتك ، هي للشاعر ، و المخرج المسرحي الراحل ' فرج الطيرة ' .
- ذكـّرني بيها يا اوليدي ، راني كبرت .
- قرعت ( دربكت ) لها على زجاج منضدة العرض الزجاجية برؤوس أظافري ، وسرعان ما استحضرتها ، قبل حتى أنْ أكمل كلمة ' يا حسّاد ' فشدت بصوتها :
يا حسّاد قاهركم هنانا .. تشقوا دوم في جرة غلانا
في جرة سريبي .. أنا و الزين مشكايا و طبيبي .
و ديما انقول نلقاه حبيبي .. و مهما صار ما نخلف علانا ..
- عطّك شنو انقول هليك يا اوليدي و بس ؟ .. ذكرتني بيها .
- ماشاء الله عليك يا ابلة خديجة ، مزاجك اليوم سبعينيّ الغناء .
- و الله يا ازويدة .. كنت ناسيتها .. و تو انغنيها الليلة .. في فرح عيت ( .. ) علشان خاطرك ، هيا يا شبابات .. راهي السيارة واتية .. و العرب يستنو فينا في الصالة .
عند نهاية شارع ' مصراتة ' وجدت المهندس ' ناجي ' كان زميلي في كلية الهندسة بجامعة قاريونس ، قبل أنْ أترك الدراسة ، أعلمني بأنه تخرّج فيها ، و سافر بعد ذلك إلى أوربا ، ثم عاد ليفتح لنفسه محلاً لبيع الحواسيب ، تجاذبت معه أطراف الحديث : أنت ماذا فعلت في دراستك يا زياد ؟ .
- تركتها .
- يا خسارة ، كنت متفوقاً في دراستك أنت الوحيد الذي صفى مادة ( فيزياء واحد ) بمعدل ( AA ) حتى أنني ، كنتُ آتيك في البيت ، فتشرح ليّ المواد الصعبة بكل استفاضة و إفهام ، لماذا تركتها ؟ .
- من القلق .
- يا راجل قـُل الحق .
- و الله يا انويجي ، لم أشعر بأنها ستضيف ليّ شيئاً ، و حتى لو أكملت دراستي ، سأكون مثل أيِّ مهندس قبلي - يبغض رياح القبلي - قابعاً في مكتبه بإحدى مؤسساتنا الفاشلة ، فبكل تأكيد ، سوف لن أصنع لوطني الصواريخ ، و لا حتى مصباحاً ضوئياً .
- و ماذا تعمل الآن ؟ .
- أنا لا أعمل ، أنا أكتب فقط ، أنا أشعر بالقلق .
- و ماذا ستنال من هذا المجال المُتعـِب ، حتى أنت سيكون مصيرك ، مصير أيِّ كاتب قبلك .
- قلت لك أنا أكتب ، أنا لا أكذب ، فهمتني الآن ؟ و أنا لصيق بالناس أكثر منك ، بدليل ، أنْ لا أحداً يعرفك .
ثم شرع - ناجي - الذي لا أعرف كيف صار مهندساً ، فأنا أكثر واحد يعرف ، أنه كان أغبي حتى من الدجاجة في حالة جوعها - يحكى ليّ عن مغامراته في بلاد الفرنجة مع حسسناواتها الشقراوات ، ثم أشار إلى خدّي ، وقد ناولني ورقاً ناعماً لأمسحه ، فقلت له بحماس الأطفال الذين لا يحبون الماء : لا لن أمسحه ، فهذا بالنسبة ليّ ، ختم الوفاء ، و أني لأراه ، أكثر مصداقية من ختم و تصديق أمين اللجنة الشعبية العامة للتعليم ، الذي تتزيّن به شهادتك الجامعية العالية - البكارليوس - التي لم تجد بها عملاً إلى الآن ، و عندي أفضل من روج - الطلاء و ليس البرشام - بنات أوربا ، الذي أراه على خدّك ، أنا لن أسمح ، بأنْ تمسني واحدة منهن ، فيكفي أنّ أنسجتهن ، ابتنت من لحم الخنزير الخبيث .
ذهبت إلى حديقة البؤساء ( الاستقلال سابقاً )غاب الأصدقاء اليوم ، لم أجد الفنان ' هيثم الورفلي ' الذي مازال في رحلة بحثه عن كرت صوت ، يكمل به الـ ( أستوديو ) خاصته ، حتى يستطيع أن يغني و يعلن عن صوته اللطيف ، و لا الأساتذة : ' الحبيب الأمين ' و ' عاطف الأطرش ' و ' محمد سحيم ' و لا غيره من المنزوين ، أخذت فنجان القهوة ، وجلست تحت إحدى أشجارها - بالمناسبة ، أخبروا ' تهاني دربي ' بأنّ الحديقة عادت ، و ازدانت بخضرتها ، بعد أنْ قطـّع أشجارها ، أعداءُ الحياة ، أنا لا أعرف لماذا يزرعون الأشجار ، طالما أنهم سيبترونها ؟ - وجدت نفسي في رغبة شديدة ، لأنْ أعود إلى عادة التدخين ( من القلق طبعاً ) جاهدت نفسي ، بعد أنْ تذكرت موقفاً ، قد حدث مع أحد المخضرمين ، و هو ينصحني بتركه يوماً ما : أنّ جدّي ذات يوم من أيام سوق الظلام المستنير ببريق المجوهرات ، زاره و جلس معه عند باب متجره ، فسأله : يا حاج عليّ ، لو سمعت أنّ أحد المستعمرين ، دخل بقواته إلى هذا السوق ، و جاء ليهدم دُكانك ، و يستلب مجوهراتك ، ما أنت بفاعل ؟ فأجابه من غير حكة وذن : ' سأجاهده طبعاً ' ردّ عليه : ' أنت ما جاهدت نفسك .. لين اتجاهد المستعمر .. امغير بطّل هالدخان الأول ' فوقعت هذه الحكمة في قلبه ، و أعدم لفافة التبغ ، و لم يعُد إليه ، و كان ذلك من خمسين سنة ماضية ، ثم أمرني : ' يا اوليدي بطّل الدخان .. لا هو لبوك .. و لا هو لجدك '.
لكن ماذا أفعل أشعر بالقلق ، و العجاج في شعري علق ؟ .
عدت كما جئت ، غير أنني عدت محملاً بأوزار العجاج ، و في سبيل العودة ، شاهدت أحد الضبّاط الذين عذبوني و لم يدربوني ، فرمقني بشزر ، و قد أرسل إليّ رسالة مبطنة و امعطنة بالكراهية ، هذا محتواها : ' رانا طالقينك أبجونا .. مش ابجوك ' فأرجعتها إليه : ( تي و الله و راس مينتك الغالية .. مانك شايف وجهي .. من غير وساطة و لا محسوبية .. أنا لو نبي العسكرية .. راني توه عقيد مهندس .. أنا يا مسكين كنت في أول دفعة في كلية العنطزة العسكرية .. و فضلت عليها الفشل .. و باتي قالي يا أوليدي رانا ناس راكحين .. و ما نبّوش دعاء شر .. و ساد عمك ' إدريس ' الله يرحمه .. ايش حصل منها .. الله ايربحك اعمل عليهم نيسة .. و تو يفزعلك جدك راهو امرابط . .. ثم أنني ، تدربت ست سنين في العسكرية ، أيام الثكنات المدرسة إعدادياً و ثانوياً ) .. أظن بأنّ هذا المسج فيه حمولة ثقيلة ، فوصله (( جزء من النص مفقود )) لكنّ أهم حاجة عندي ، أن يكون قد وصله بهذه الكيفية ((( * جزء من النص مفقود * و ساد عمك إدريس الله يرحمه ايش حصل منها .. الله ايربحك اعمل عليهم نيسة و تو يفزعلك جدك راهو امرابط .. ثم أنني ، تدربت ست سنين في العسكرية ، أيام الثكنات المدرسة إعدادياً و ثانوياً ))) .. ثم أرسلت إليه رسالة صوتية مموسقة : ' يا حسّاد قاهركم هنانا .. تشقوا دوم في جرة غلانا ' .
دخلت إلى البيت ، استقبلتني مامتي :
- وين كنت اتذوح يا مهبول في هالعجاج ؟ دوبينك طلعت طلعت .. مشيت للبنك .. و سحبت معاش الضمان امتاع باتك ؟ .. اللي بعد مات .. خصموا منه مية و خمسة و عشرين اجنيه .
- لا و الله .
- ليش ؟ .
- من القلق .
- و الله ما فيك فايدة .. اشقى ابحالك .. اللي زيك ابصباياهم و اعويلتهم .. اجعنك ضنوة العادي و الحسادي .
- يمّي .. زغرتيلي .. راني ازوجت أسمح بنت في الدنيا .. اسمها ' كتابة ' .. و اللهي ماني امطلقها .. حتى انكان طلع بويا من قبره و قالي فارقها .
استلقيت على فراشي الأرضي ، و انغرست بين ثناياه ، بعد أنْ تعفـّرت بعجاج بنغازي ، و كيفما الدجاجة الوطنية ، التي تـُخاّـل التراب بين ريشها ، و هي تستحم في بحر الرمال ، غرقت في لجّة بحر النوم ، الذي لا أجيد السباحة إلا فيه ، و زارني ليلتها في المنام ، والدي رحمه الله ، و حدثني : ' يا بُني لا تستحم من ذرات التراب ، التي تعلقت بك ، فهي ليست وسخاً ، و إنما هي شرفٌ على جسدك ، و أكثر رفعة ، من نياشين المهزومين ، و تذكـّر دائماً ، أنّ تراب بنغازي حام ٍعلى الظـُّلام في وضح الظلام ' .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة : خصّصت هذا الموقع ، بهذا النصّ السرديّ ، لأنه ينشر المواد بنفس التنسيق الذي تصله به ، فلا يحذف علامات التنصيص و لا الفواصل و لا الأقواس ، و لا يحرك الفواصل من مكانها ، حيث إنني أرسمها بين أخر حرف من أية لكلمة و أول حرف من التي تليها ،فأنا لا أضع كل هذه العلامات من باب الزينة ، لكن للغرض المُعدّة له أصلاً .
( * ) : كان ذلك هو أجرها ، عندما كانت تلبس ( المكسي ) .
( ** ) : أراه عن حسن نيه ، من ذاكريه دعاءً خاطئاً ، فعلى جداتنا و أمهاتنا ، أنْ يذكرن : ' ربي ايحرك سعدك و ما ايوقفه ' فربما اطياح سعدنا الآني ، ناتج من دعوة الخير تلك .
( *** ) : كانت تقصد تيوتا موديل السبعينيات ، لكني لم أكسبها ، لا هي و لا موديلات الثمانينيات و لا التسعينيات و لا الألفية ، ربما نتيجة سياق دعائها ، و الله أعلم ؛ لكن ليس في ذلك ضررٌ ، فأنا لا أجيد قيادة السيارات ، و أكرهها أصلاً .